قمة بغداد... نحو رؤية عربية للشرق الأوسط في عالم متغيرhttps://www.majalla.com/node/325608/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D9%82%D9%85%D8%A9-%D8%A8%D8%BA%D8%AF%D8%A7%D8%AF-%D9%86%D8%AD%D9%88-%D8%B1%D8%A4%D9%8A%D8%A9-%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D9%84%D8%B4%D8%B1%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D8%B3%D8%B7-%D9%81%D9%8A-%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85-%D9%85%D8%AA%D8%BA%D9%8A%D8%B1
قمة بغداد... نحو رؤية عربية للشرق الأوسط في عالم متغير
تتمتع الدول العربية ككتلة، بعلاقات متوازنة مع جميع القوى الكبرى: الولايات المتحدة، الصين، روسيا، والاتحاد الأوروبي
رويترز
سيارة أجرة تمر أمام أعلام الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية المعروضة على طول الشارع قبل انعقاد القمة العربية الرابعة والثلاثين في بغداد، العراق، 15 مايو
قمة بغداد... نحو رؤية عربية للشرق الأوسط في عالم متغير
يبدو أن النظام الدولي، الذي يعيش مرحلة انتقالية منذ نهاية الحرب الباردة، يسير نحو أحد مسارين: إما التعددية القطبية التي تحظى بتأييد غالبية دول العالم، وإما نظام قائم على مناطق نفوذ تقودها الولايات المتحدة والصين وروسيا، في حال تحقق ما يسعى إليه الرئيس دونالد ترمب.
على الصعيد الإقليمي، يشهد الوضع تطورات متعددة دون مسار واضح للمستقبل. ثمة مؤشرات إيجابية وأخرى سلبية، ويصعب في هذه المرحلة استخلاص نتيجة نهائية. المؤكد أن غياب دور عربي جماعي وفعّال سيجعل مصير الشرق الأوسط رهنا بإسرائيل وإيران وتركيا.
في الجانب الإيجابي، شهدت العلاقات بين الدول العربية من جهة، وكل من إيران وتركيا من جهة أخرى، تحسنا ملحوظا. ولا تزال احتمالات التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران تبعث على الأمل. أما الوضع في كل من لبنان وسوريا، وبعد فترات طويلة من عدم الاستقرار، فيدعو إلى تفاؤل حذر.
لكن هذه التطورات الإيجابية تقابلها تحديات خطيرة ناجمة في الغالب عن السياسات الإسرائيلية. فالممارسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، سواء في غزة أو الضفة الغربية، تُعقّد فرص التوصل إلى حل للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي أكثر من أي وقت مضى. كما تُقوض السياسات الإسرائيلية في لبنان وسوريا فرص الاستقرار في البلدين. ويُثير احتمال نشوب مواجهة بين إسرائيل وإيران مخاوف من اتساع رقعة عدم الاستقرار على مستوى الإقليم بأكمله. والمقلق أكثر أن هذه التطورات تتزامن مع إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي عزمه إعادة تشكيل المشهد السياسي في المنطقة بما يخدم المصالح الاستراتيجية لإسرائيل.
يحتل العالم العربي موقعا متزايد الأهمية في الاقتصاد العالمي، إذ يتحمل مسؤولية 46 في المئة من إنتاج النفط الخام، و30 في المئة من صادرات الغاز الطبيعي، و30 في المئة من تجارة الحاويات، و16 في المئة من تجارة الشحن الجوي
لا يزال الوضع في ليبيا والسودان واليمن يبعث على قلق بالغ. غير أن أيا من هذه الأزمات لا يُشكّل تهديدا مباشرا للأمن الإقليمي العام في الشرق الأوسط، إذ تبقى في مجملها أزمات محلية لا تُنذر باشتعال صراع عسكري إقليمي شامل.
في ظل هذه المعطيات، لا يمكن للدول العربية أن تقف موقف المتفرج. عليها أن ترتقي إلى مستوى الحدث، وأن تضطلع بدور فاعل في رسم مستقبل الشرق الأوسط، والمساهمة في الوقت ذاته في الجهود الرامية إلى إعادة تشكيل النظام الدولي بما يضمن تطوره نحو التعددية القطبية.
ورغم أن الدول العربية لا تزال عرضة لتهديدات أمنية فعلية ومحتملة من جهات متعددة وعلى مستويات مختلفة مقارنة بالماضي، فإن العالم العربي اليوم في موقع أفضل، ليس فقط للتعامل بفعالية مع هذه التهديدات، بل يمتلك أيضا قدرة أكبر على التأثير في مستقبل المنطقة.
سيارات محترقة تصطف على جانبَي شارع في طرابلس، 14 مايو 2025، عقب تجدد الاشتباكات في العاصمة الليبية
ولا يعني التركيز على التهديدات الخارجية إغفال ما تعانيه الدول العربية من نواقص داخلية. فهذه النواقص متعددة، ويجب معالجتها، غير أن التصدي لها لا يمكن أن يتحقق إلا عبر إدراك عميق بوجود تفاعل وثيق بين السياقات الداخلية والإقليمية والدولية.
تتمتع الدول العربية اليوم، ككتلة، بعلاقات متوازنة مع جميع القوى الكبرى: الولايات المتحدة، الصين، روسيا، والاتحاد الأوروبي. كما أن عددا منها يشارك في تكتلات دولية مؤثرة تسهم بشكل ملموس في صياغة النظام العالمي، مثل مجموعة العشرين (المملكة العربية السعودية) ومجموعة "بريكس" (مصر والإمارات العربية المتحدة).
علاوة على ذلك، يحتل العالم العربي موقعا متزايد الأهمية في الاقتصاد العالمي، إذ يتحمل مسؤولية 46 في المئة من إنتاج النفط الخام، و30 في المئة (في ارتفاع مستمر) من صادرات الغاز الطبيعي، و30 في المئة من تجارة الحاويات الدولية، و16 في المئة من تجارة الشحن الجوي.
كما يتمتع بأفضلية واضحة في مجال الطاقة المتجددة، مما يمنحه موقعا مميزا في عملية التحول نحو الطاقة النظيفة. وتدير صناديقه السيادية أصولا ذات ثقل عالمي، فيما تبلغ نسبة وزن الدول العربية في مؤشرات الأسواق الناشئة حاليا 7 في المئة، ومن المتوقع أن ترتفع خلال السنوات القليلة المقبلة إلى 10 في المئة.
وتشارك عدة دول عربية في جهود الوساطة لحل الأزمات الإقليمية والدولية، في دلالة على نفوذ عربي متنام على الساحة العالمية.
التوصل إلى موقف عربي جماعي بشأن قضايا الأمن الإقليمي والدولي والمسائل الاقتصادية من شأنه أن يُضاعف تأثير الدول العربية على المستوى العالمي، بما في ذلك في علاقاتها مع الولايات المتحدة
وعليه، فإن اللحظة الراهنة تمثل فرصة مناسبة لإعادة تقييم الموقف العربي الجماعي من أجل رسم مستقبل يخدم المصالح الفردية والجماعية للدول العربية.
أولا، على الدول العربية أن تدرك أن اتباع نهج مجزأ ومشتت في التعامل مع قضايا الأمن العربي يخدم مصالح غير العرب أكثر مما يخدم الأمن الوطني والجماعي العربي. فالتركيز على المصالح الوطنية الضيقة فتح الباب أمام تدخلات خارجية غير مسبوقة منذ نهاية الحقبة الاستعمارية.
ثانيا، ينبغي أن تعي الدول العربية أن نموذج الدولة الوطنية يمر بأزمة حادة في دول مثل سوريا والعراق وليبيا والصومال واليمن ولبنان. فالحفاظ على الدولة الوطنية العربية يُعد شرطا أساسيا ليس فقط لحماية مصالح مواطنيها، بل أيضا لتحقيق الاستقرار الإقليمي.
ثالثا، يجب أن تُدرك الدول العربية أن الأمن القومي لكل دولة عربية يرتبط ارتباطا وثيقا بالأمن العربي الجماعي.
قد يرى البعض أن الدول العربية تواجه تهديدات أمنية متباينة، وأن مفهوم الأمن العربي الجماعي لا يعدو كونه وهما، وأن الوقت قد حان لكي تركز الدول العربية على شؤونها الداخلية وتبدأ بإعادة البناء.
ولا شك في أن كل دولة عربية، منفردة، قادرة على تأمين مصالحها الوطنية من خلال التعامل المباشر مع القوى الكبرى. وهذا ينطبق بشكل خاص على الولايات المتحدة، التي تتبنى نهجا قائما على المعاملة بالمثل في علاقاتها الدولية، لا سيما في ظل إدارة الرئيس ترمب.
إلا أن التوصل إلى موقف عربي جماعي بشأن قضايا الأمن الإقليمي والدولي والمسائل الاقتصادية من شأنه أن يُضاعف تأثير الدول العربية على المستوى العالمي، بما في ذلك في علاقاتها مع الولايات المتحدة.
إن توقيت القمة، غدا السبت في 17 مايو، ومكان انعقادها يحملان دلالة خاصة. وانعقادها في بغداد ليس تفصيلا يمكن تجاوزه. فرغم هشاشة الوضع في العراق نتيجة عقود من الاضطرابات الداخلية والعزلة عن بقية العالم العربي، فإن انعقاد القمة في بغداد يبدد الشكوك بشأن التوجه السياسي للعراق. والأهم من ذلك، أنه يؤكد قدرة هذا البلد على أن يكون جسرا بين العالم العربي وإيران، وهي علاقة بالغة الأهمية وتستدعي إدارة حذرة تحقق مكاسب للطرفين.
كما يحمل انعقاد القمة عقب زيارة الرئيس الأميركي ترمب للمنطقة دلالة بارزة. وهناك درس مهم يجب استخلاصه من هذه الزيارة، ويُفترض أن يُستوعب بالكامل وأن يُؤخذ بعين الاعتبار عند صياغة السياسات المستقبلية، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي للدول العربية.
للتأثير في الأنظمة الإقليمية والدولية الآخذة في التشكل، لا يكفي أن تكثف الدول العربية جهودها في التعامل مع التحديات العابرة للحدود. بل يتعين عليها أيضا أن تتعامل مع المشكلات الإقليمية بانتظام وفعالية
ولا ينبغي التقليل من تأثير الدول الثلاث التي زارها الرئيس ترمب على توجهات السياسة الأميركية. فقد نجحت هذه الدول في تجاوز التحفظات العميقة للمؤسسة السياسية في واشنطن تجاه الانفتاح على النظام السوري الجديد. ويعكس إعلان الرئيس ترمب رفع العقوبات المفروضة على سوريا ولقاؤه برئيسها تحولا ذا مغزى.
علاوة على ذلك، وقبيل الزيارة، لم يُبدِ الرئيس ترمب اهتماما يُذكر بالمواقف الإسرائيلية، بل ركّز على تأمين المصالح الأميركية من خلال الإفراج عن عيدان ألكسندر، الذي كان محتجزا في غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، والتوصل إلى اتفاق مع الحوثيين في اليمن، وأخيرا إطلاق مفاوضات مع إيران.
وباختصار، فإن الرئيس ترمب لا يتردد في تجاهل مصالح أصدقائه وحلفائه إذا تعارضت مع المصالح الأميركية الآنية، التي تتقاطع في هذه المرحلة مع مصالح إسرائيل. ويتمثل التحدي أمام الدول العربية في كيفية مواءمة مصالحها مع تلك التي تراها الإدارة الأميركية بقيادة ترمب أولوية.
ومن المهم كذلك استخلاص العبر من تجارب دول أخرى واجهت صعوبات في علاقاتها مع إدارة ترمب. فعندما لا تكون الدولة في موقع يمكّنها من تقديم مزايا واضحة للولايات المتحدة مقابل منافع متبادلة، فإن عليها أن تُثبت موقفها، ولكن ضمن إطار جماعي وليس بشكل منفرد.
وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين في صورة جماعية مع نظرائه من الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية خلال اجتماع تحضيري للقمة العربية الرابعة والثلاثين، في بغداد، العراق، 15 مايو
وانطلاقا من ذلك، يجب أن لا تقتصر القمة على التعامل مع الأزمات الراهنة التي تلقي بظلالها على الشرق الأوسط، بل عليها أن تطرح رؤية استراتيجية للسلام والأمن في المنطقة.
ويستلزم ذلك بلورة تصور جماعي لمستقبل الشرق الأوسط. ولتحقيق هذه الغاية، ينبغي على الدول العربية أن تصوغ رؤية لسلام شامل وحقيقي، لا تقتصر على إدارة العلاقات مع إسرائيل وإيران وتركيا، بل تمتد إلى علاقاتها مع العالم بأسره، وخصوصا القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا.
لكن من أجل التأثير في الأنظمة الإقليمية والدولية الآخذة في التشكل، لا يكفي أن تكثف الدول العربية جهودها في التعامل مع التحديات العابرة للحدود، مثل الانتقال إلى الطاقة الخضراء، والاستدامة البيئية، والتواصل، وغيرها. بل يتعين عليها أيضا أن تتعامل مع المشكلات الإقليمية بشكل أكثر انتظاما وفعالية.
بادئ ذي بدء، لا بد من بذل جهد حازم لتسوية النزاعات التي أنهكت العالم العربي لفترة طويلة.
ويُعد استثمار الاهتمام الدولي المتجدد بمعاناة الشعب الفلسطيني من أولويات المرحلة الراهنة، من أجل الدفع نحو تحقيق هدف إقامة دولة فلسطينية. ويتطلب هذا الهدف التحرك على مستويات متعددة: تثبيت وقف إطلاق نار مستدام في غزة، والتصدي للزحف الإسرائيلي على الضفة الغربية، والسعي لنيل الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية، إلى جانب تكثيف الضغوط على إسرائيل في المحافل الدولية، بما في ذلك الأمم المتحدة، ومحكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية، وغيرها من الهيئات المعنية بالقانون الإنساني الدولي وحقوق الإنسان.
وتُعد المبادرة السعودية بإنشاء "التحالف العالمي لتنفيذ حل الدولتين"، التي تُوّجت بالمبادرة السعودية-الفرنسية المشتركة لعقد مؤتمر دولي في الأمم المتحدة في يونيو/حزيران، مناسبة مهمة ينبغي استغلالها بالكامل لحشد المزيد من الدعم الدولي لقضية الدولة الفلسطينية.
الفشل في استثمار فرصة مؤتمر بغداد لإطلاق حوار عربي جاد حول أفضل السبل لمعالجة قضايا الأمن العربي، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، سيعود بالضرر على كل دولة عربية بلا استثناء
ومع ذلك، فإن التعاطي مع نزاعات المنطقة كملفات منفصلة لن يُفضي إلى سلام واستقرار حقيقيين. ولن يتحقق ذلك إلا من خلال معالجتها ضمن إطار أوسع لمنظومة أمنية إقليمية. وعليه، تحتاج الدول العربية إلى بلورة تصور واضح لهذه المنظومة، على أن تكون شاملة ومتكاملة، لا تستهدف أي طرف إقليمي بعينه، ولا تقوم على ترتيبات سياسية أو عسكرية موجهة. وهذا يعني أيضا أنه لا يمكن الحديث عن إدماج إسرائيل في المنطقة دون اتخاذ خطوات ملموسة نحو إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة.
ويُجادل البعض بأن وضع رؤية عربية مشتركة للمستقبل أمر صعب التحقيق، بحجة أن مصالح الدول العربية لا تتطابق بالضرورة. ويذهب آخرون إلى اعتبار مثل هذه الرؤية غير واقعية. ومع أن ثمة تباينات في المصالح في بعض المواضع، فإن هناك ما يكفي من القواسم المشتركة للشروع في صياغة تصور جماعي للمستقبل. كما أن الفشل في البناء على هذه القواسم يفتح الباب واسعا أمام تدخلات أجنبية في الشؤون العربية، وقد رأينا إلى أين يمكن أن يقود ذلك. لكن تحقيق ذلك سيتطلب حوارا صريحا ومنفتحا، يمكن أن يبدأ من بغداد.
مناورات قافلة عسكرية إسرائيلية داخل غزة، كما شوهدت من إسرائيل، 15 مايو 2025
ونظرا للمكانة المحورية التي تحتلها القضية الفلسطينية في منظومة الأمن العربي، والدور الحاسم الذي تؤديه الولايات المتحدة في المنطقة، يمكن أن يتم هذا الحوار على مراحل. تبدأ المرحلة الأولى بمجموعة أساسية من الدول المنخرطة مباشرة في الجهود الدولية الرامية إلى حل القضية الفلسطينية، والتي تربطها في الوقت ذاته علاقات خاصة مع الولايات المتحدة، ليُصار لاحقا إلى توسيع هذه المجموعة تدريجيا.
ومن الضروري التذكير بأن الدول العربية لا ينبغي لها الاعتماد على القوى الخارجية لحل مشكلاتها. فصحيح أن التعامل مع القوى الدولية يُعد أمرا لا مفر منه لمعالجة هذه المعضلات، إلا أن التجارب السابقة أثبتت أن غياب المبادرة العربية يفسح المجال لتدخلات خارجية لا تفضي إلى حلول مستدامة، بل تُسهم في احتواء الأزمات مؤقتا إلى أن تنفجر، كما حصل في غزة.
وفي الختام، فإن الفشل في استثمار فرصة مؤتمر بغداد لإطلاق حوار عربي جاد حول أفضل السبل لمعالجة قضايا الأمن العربي، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، سيعود بالضرر على كل دولة عربية بلا استثناء.