"الفجر الرائع" للمنطقة ومستقبل "التناقض" الأميركي-الإسرائيلي

زيارة ترمب تؤسس أرضية لبيئة إقليمية لا تتوافق مع مواصلة نتنياهو حربه في غزة

سوريون يشاهدون خطاباً متلفزاً للرئيس السوري أحمد الشرع تعليقا على إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب رفع العقوبات عن سوريا، في مقهى بحلب في 14 مايو

"الفجر الرائع" للمنطقة ومستقبل "التناقض" الأميركي-الإسرائيلي

إلى جانب الشق المتعلق بالعلاقات الأميركية-السعودية والأميركية-الخليجية بكل مجالاتها وأرقامها الضخمة، اكتسبت زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى المنطقة وبالأخص إلى السعودية معنى إقليميا مكثفا يجعل منها محطة مفصلية في سياق التطورات والمتغيرات المتواصلة التي يشهدها الإقليم.

وذلك ليس عائدا وحسب للكلام السياسي الذي أطلقه ترمب، سواء بالنسبة لغزة أو إيران أو سوريا ولبنان، ولا أيضا للقائه بالرئيس السوري أحمد الشرع غداة إعلانه رفع العقوبات عن سوريا "بعد محادثات مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان"، بل لأن هذه الزيارة تأتي في توقيتها في لحظة حاسمة بالنسبة للحدث الأساسي في المنطقة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، أي الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ونتائجها في الأراضي الفلسطينية وكذلك في كل من سوريا ولبنان.

والحال قد نكون أقرب من أي وقت لإنهاء هذه الحرب، مع ما لذلك من انعكاسات على المنطقة بأسرها وبالأخص في سوريا ولبنان، البلدين العربيين اللذين كانا الأكثر تأثرا بهذه الحرب؛ لبنان الذي انتقلت الحرب إليه بعد أكثر من سنة على إطلاق "حزب الله" "حرب الإسناد" فإذا بها تتحول إلى مواجهة مفتوجة بينه وبين إسرائيل قضت على قيادته العليا وأضعفت قدراته إلى حد غير متوقع، بينما تواصل إسرائيل استهداف الأراضي اللبنانية واحتلال خمس نقاط حدودية حتى بعد التوصل إلى وقف لإطلاق النار في 27 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. وسوريا التي كان إضعاف إسرائيل لـ"محور المقاومة" قد مهّد الطريق أمام سقوط النظام أو إسقاطه. ومنذ ذلك الحين لم تنفك إسرائيل عن التوغل داخل الأراضي السورية والتمركز فيها، فضلا عن مواصلة قصفها مواقع في سوريا وصولا حتى إلى جوار القصر الجمهوري في دمشق. وقد تطورت سرديتها في الآونة الأخيرة لتقدم نفسها على أنها حامية للأقليات في سوريا وبالأخص الدروز في الجنوب السوري، بعد أن كانت أرسلت رسائل مشابهة بشأن الأكراد في الشمال السوري.

لكن أن نكون قد اقتربنا من انتهاء هذه الحرب بفعل تقاطع عوامل عدة، لا يعني حكما أن هذه الحرب ستنتهي، وإلى الأبد، كما يطمح الرئيس ترمب وفق تصوراته، وكما لو كان من الممكن التوقع أن تقوم إسرائيل بمراجعة سياسية وأخلاقية وتعيد النظر بسياساتها الإبادية في الأراضي الفلسطينية والتي لا يزال الائتلاف اليميني المتطرف يدعو إليها كل يوم.

من الضروري فهم حدود التباين الإسرائيلي-الأميركي وسياقاته لكي لا يذهب التحليل إلى توقع تحول دراماتيكي في العلاقات الإسرائيلية-الأميركية

بيد أنه ينبغي التوقف عند أمرين يجعلان احتمال توقف هذه الحرب أكثر أرجحية مما كان حتى الآن:

- الأول تداعيات هذه الحرب في الداخل الإسرائيلي في ظل الحديث عن أن التوافق الداخلي بشأنها والذي وحد الإسرائيليين حتى الآن بدأ بالتفكك تحت وطأة مراوحة القتال مكانه بحيث أصبح هدف "سحق حماس" أثرا بعد عين، في وقت حفزت الصفقة بين واشنطن و"حماس" لإطلاق الجندي الإسرائيلي حامل الجنسية الأميركية عِيدان ألكسندر أهالي الرهائن الإسرائيليين لتكثيف ضغطهم على حكومة نتنياهو. كما يتساءل الإسرائيليون عن جدوى الاستمرار في الحرب في ظل كلفتها الاستراتيجية على إسرائيل سواء على صورتها حول العالم ومستقبل علاقاتها في المنطقة وحتى مع الغرب بما في ذلك الولايات المتحدة. ذلك من دون الذهاب بعيدا في توقع تحول استراتيجي في هذه العلاقات، لكن من الواضح أن مساحة التباين بين الدول الغربية وإسرائيل آخذة في التوسع، وينبغي هنا التوقف عند التحول الجزئي في موقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حيال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، فإضافة إلى إعلانه الاستعداد للاعتراف بالدولة الفلسطينية فهو في طور إعادة النظر في الاتهامات الموجهة لإسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزة، ومن ذلك قوله أخيرا: "ليس لرئيس الجمهورية أن يقول (إنها إبادة) بل للمؤرخين".

رويترز
فلسطينيون يتفقدون موقع غارة إسرائيلية على منزل في جباليا شمال قطاع غزة، 14 مايو

- وثانيا موقف الرئيس دونالد ترمب من استمرار الحرب، وهو الذي كان وعد قبل انتخابه بإنهائها خلال 24 ساعة، بينما ساهم مبعوثه ستيف ويتكوف بإبرام الصفقة بين "حماس" وإسرائيل قبيل أيام من تنصيبه في العشرين من يناير/كانون الثاني 2025. وهو موقف لا تمليه التطورات في قطاع غزة وحسب، لأنه مرتبط أساسا بسياسات ترمب الدولية والإقليمية والتي تتبلور شيئا فشيئا على قاعدة وقف الحروب سواء في أوكرانيا أو غزة، وكذلك تجنب الحرب مع إيران التي استبعد خيار الرد العسكري ضدها في حال فشلت المفاوضات النووية، واكتفى بالقول إنه سيفعّل الضغوط القصوى ضدها إذا رفضت "غصن الزيتون".

ما يجدر التوقف عنده هنا أن التناقض أو التباين بين واشنطن وتل أبيب حول مستقبل الحرب على قطاع غزة، والذي يتبلور أكثر فأكثر ويأخذ مساحة أكبر من النقاش والتحليل داخل إسرائيل، يتزامن أو يتقاطع مع تناقض أو تباين بين السياسات الأميركية والإسرائيلية فيما يخص المنطقة.

طبعا ملف التفاوض مع إيران كان أول الملفات التي أظهرت أن واشنطن ترمب وإسرائيل نتنياهو يمكن أن لا تكونا على الموجة نفسها، بعكس ما أوحى به اغتباط نتنياهو بانتخاب ترمب والتخلص من عهد سلفه جو بايدن، فإذا بالأمور تجري بعكس ما توقع "بيبي" الذي تحمس مدعوما من صقور ائتلافه اليميني لتنفيذ مشروع ترمب لتحويل غزة "ريفييرا الشرق الأوسط"، بيد أن الرئيس الأميركي بدأ يتحدث الآن عن ضرورة إنهاء "حرب الألف عام" في عزة، مع ما يحمله هذا التوصيف من قفز فوق أصل الصراع.

والحال من الضروري فهم حدود التباين الإسرائيلي-الأميركي وسياقاته لكي لا يذهب التحليل إلى توقع تحول دراماتيكي في العلاقات الإسرائيلية-الأميركية، بالرغم من حديث الصحافة الإسرائيلية عن تضارب مصالح بين الحكومة الإسرائيلية والإدارة الأميركية. ولا ننسى أن مثل هذا التباين كان قد حصل إبان ولاية جو بايدن، أي إنه موروث من حقبة الإدارة الديمقراطية السابقة، ولكن مع استغراق هذه الحرب المزيد من الوقت من دون تغيير في نتائجها سوى أنها تزيد من عذابات الفلسطينيين وتشردهم ومجاعتهم، من دون التمكن من تحرير الرهائن ولا "سحق حماس"، يجعل التخلص من أعبائها أمرا منشودا من جانب واشنطن الداعم الرئيس لتل أبيب، خصوصا أن استمرار هذه الحرب بدأ يتناقض مع السياسات الأميركية في المنطقة والتي عبرت عنها زيارة الرئيس ترمب إلى السعودية وقطر والإمارات.

الأخطر أن يتم الاكتفاء أميركياً بعزل حرب غزة وتداعياتها عن المنطقة، بالرغم من صعوبة ذلك، أي أن ينطلق "الفجر الرائع" في المنطقة بينما تواصل إسرائيل ترويع الفلسطينيين وقتلهم

فالواقع أن هذه الزيارة بكل مخرجاتها الاقتصادية والسياسية، تحاصر إسرائيل من حيث أنها تؤسس أرضية لبيئة إقليمية لا تتوافق مع مواصلة إسرائيل حربها في قطاع غزة، ولا مع تدخلاتها في السياقين السوري واللبناني، وإن كان التقاطع الأميركي-الإسرائيلي حول ملف "حزب الله" لا يزال متينا، بخلاف التباين بينهما بشأن الوضع الجديد في سوريا.

فإذا كان إعلان الرئيس ترمب عن رفع العقوبات عن سوريا وبدء تطبيع العلاقات معها، هو دعم واضح لحكم الشرع الذي وصفه لاحقا بـ"العظيم"- ولو لم يكن هذا الدعم مطلقا بحيث بدا من كلام الرئيس الأميركي وكأنه يعطي فرصة غير مفتوحة لدمشق، ناهيك بأن رفع العقوبات، الذي حاولت إسرائيل عرقلته، سيسلك مسارا معقدا في أروقة واشنطن- فإن القصف الإسرائيلي للأراضي السورية والتوغل فيها والتشكيك في حكم الشرع ناهيك عن سيعها الدؤوب لدعم "الأقليات السورية" في وجهه، كلها تصب في محاولة تقويض الحكم الجديد في سوريا أو بالحد الأدنى إضعافه، بخلاف ما يظهر من السياسات الأميركية تجاهه، في ظل الحديث المتزايد عن أن السياسات الإسرائيلية بشأن سوريا قد تتيح لإيران إعادة التموضع حيالها. مع الأخذ في الاعتبار أن الملف السوري، هو الآن، وعلى ما ظهر من مجريات زيارة ترمب إلى الرياض، جزء من ملف العلاقات السعودية-الأميركية، وهذا من دون شك له تأثير كبير على الموقف الأميركي حيال سوريا.

أ ف ب
دخان يتصاعد من محافظة القنيطرة أثناء القصف الاسرائيلي في 9 ديسمبر

وفي السياق عينه، أكدت الصفقة بين الحوثيين وترمب تصميم الرئيس الأميركي على خلق دينامية تهدئة في المنطقة، وبهذا المعنى هي رسالة لإسرائيل في غزة مفادها أنها لا تستطيع معاندة هذه الدينامية طويلا، وذلك من دون الذهاب بعيدا في تقدير مدى إضرار هذه الصفقة بإسرائيل التي يواصل الحوثيون قصفها من دون إلحاق أذى كبير بها، ولكن في المقابل فإن استمرار هذا القصف يضيء باستمرار على هشاشة البيئة الاستراتيجية لإسرائيل.

بيد أن ما يجدر التوقف عنده أن نتنياهو السياسي المحنك سيكون هذه المرة أمام امتحان إدارة التناقضات المحيطة به بين دعوات حلفائه من أقصى اليمين للاستمرار في الحرب وتهجير الفلسطينيين وبين دعوة ترمب لـ"إنهاء حرب الألف عام"، فضلا عن التناقضات الناشئة في سوريا بين واشنطن وتل أبيب، وكذلك في الملف النووي الإيراني.

لكن هذه المرة أيضا ليس من المستبعد أن ينجح نتنياهو في التوفيق بين مصلحته السياسية بالحفاظ على ائتلافه الحكومي وإرضاء ترمب والانحناء "أمام العاصفة"، ومن ذلك إبقاؤه الباب مفتوحا أمام هدنة طويلة في غزة ولكن من دون التعهد بإيقاف الحرب، وهو لا شك يراهن هنا على "حل وسط" مع الأميركيين.

فهل يتمثل هذا "الحل الوسط" بقبول نتنياهو بهذه الهدنة، فتكون دعوة ويتكوف إلى "حل دائم" لزوم المفاوضات، أم أن ترمب سيصر على أن يكون الرجل الذي يصنع "السلام" في غزة؟

أيا يكن من أمر فليس هناك مؤشر واضح حتى الآن لطي حقبة نتنياهو المستمرة منذ نحو ثلاثة عقود، فهل تعتبر الدعوات في الداخل الإسرائيلي للإطاحة به في الشارع مؤشرا أوليا في هذا الاتجاه؟ بيد أنّ الأخطر يبقى أن يتم الاكتفاء أميركياً بعزل حرب غزة وتداعياتها عن المنطقة، بالرغم من صعوبة ذلك، أي أن ينطلق "الفجر الرائع" في المنطقة بينما تواصل إسرائيل ترويع الفلسطينيين وقتلهم وتجويعهم.

font change