اتحاد مجلس التعاون الخليجي.. لماذا أصبح ضرورة ملحة؟

اتحاد مجلس التعاون الخليجي.. لماذا أصبح ضرورة ملحة؟

[caption id="attachment_55249404" align="aligncenter" width="620"]قادة ورؤساء وفود دول مجلس التعاون الخليجي في اجتماع قمة الرياض- ديسمبر 2011 قادة ورؤساء وفود دول مجلس التعاون الخليجي في اجتماع قمة الرياض- ديسمبر 2011[/caption]

قد يكون صحيحا، على الأرجح أن الدول والمجتمعات تتحد مع بعضها البعض، أحيانا، سعيا إلى تحقيق مكسب اقتصادي أو رغبة في توكيد استقلال سياسي، لكنها تتحدد، دائما، إذا كانت متأكدة وواثقة من أن الاتحاد يضمن ويؤمن بقاءها، وحتى عندما يبدأ الاتحاد في تحقيق النجاح دون شعور بخطر، فإنه من الصعب المحافظة عليه من دونه، إذ يكشف التاريخ بوضوح أن الاتحادات السياسية القوية ظهرت ورسخت فقط بسبب اتحادات أخرى معادية. فغياب الخطر الخارجي أو زواله يؤدي تلقائيا إلى فشل الاتحادات السياسية والمحاولات الوحدوية. وهناك قول مأثور في أوروبا: «إن الأمة جماعة من الناس موحدة بخطأ مشترك نحو أسلافها، وبكراهية مشتركة نحو جيرانها»، ولعل ما يحدث في الاتحاد الأوروبي الآن من تقلصات وتراجعات يرجع في أسبابه العميقة إلى غياب التهديد السوفياتي منذ انتهاء الحرب الباردة في نوفمبر (تشرين الثاني) 1989، ثم انهيار الاتحاد السوفياتي نفسه في ديسمبر (كانون الأول) 1991. بل ويذهب البعض إلى أن انفجار الأزمة المالية في الغرب عموما، ومؤشرات الضعف والتراجع في القوة الأميركية نفسها تحديدا، وفتور العلاقات الأميركية - الأوروبية على ضفتي الأطلسي، يعود في جزء كبير منه إلى غياب التحدي السوفياتي، فالتحدي الخارجي يوحد الأمم والشعوب ويشحذ طاقاتها، ويجعلها تعلو فوق دواعي ضعفها وعوامل انحلالها.



مجلس التعاون ودواعي التأسيس





وفي الواقع لم تكن المخاطر والتحديات الخارجية، الإقليمية والدولية، بعيدة عن طرح فكرة تأسيس مجلس التعاون الخليجي قبل ثلاثين عاما، فرغم الفرص والمحددات الكثيرة والداعمة لفكرة مجلس التعاون الخليجي كالأنظمة السياسية المتشابهة، والجذور القبلية الواحدة للعائلات الحاكمة، وعوامل النسب والمصاهرة، والتقارب الكبير في البنى الاجتماعية والثقافية، ناهيك بالجوار الجغرافي بالقطع، وتوفر القاعدة الإقليمية القائدة (السعودية)، فإن هذه الدول لم تفكر قبل ذاك الوقت في الدخول في تجمع أو منظومة إقليمية واحدة، وربما يكون ذلك مردة في جزء كبير منه إلى تأخر بعض دول الخليج في الحصول على استقلالها إلى أوائل السبعينات الماضية، فضلا عن انضواء هذه الدول في تجمعات إقليمية أكبر مثل جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي. لكن التحديات والمخاطر التي واجهتها دول الخليج منذ أوائل الثمانينات الماضية جعلت التفكير في إنشاء تجمع أو منظومة إقليمية مشتركة أمرا لا مفر منه. فليس مصادفة أن يحدث ذلك عقب عدة تطورات وتحديات إقليمية ودولية حادة ولافتة، إقليميا: توقيع مصر لاتفاق كامب ديفيد مع إسرائيل في سبتمبر (أيلول) 1978، ثم معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في مارس (آذار) 1979، وما ترتب عليه من خروج مصر من معادلة الصراع العربي - الإسرائيلي، ثم تفجر ثورة الخميني الشيعية في إيران في فبراير (شباط) 1979 وشعاراتها بشأن تصدير الثورة للجوار، وتولي صدام حسين للسلطة في العراق في يوليو (تموز) من نفس العام، وهو الطامح إلى تعزيز دور العراق الإقليمي في الخليج والمشرق العربي، ثم تفجر الحرب العراقية - الإيرانية في سبتمبر 1980، والتي دامت ثماني سنوات وطال شررها بعض دول الخليج.

ودوليا: الحدث الضخم المتمثل في غزو الاتحاد السوفياتي السابق لأفغانستان في أواخر ديسمبر (كانون الأول) 1979، ومطامعه في الوصول إلى المياه الدافئة وتهديد منابع النفط في الخليج، وما ترتب عليه من زيادة الوجود العسكري الأميركي في الخليج، وانتقال ساحة المواجهة في الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو من أوروبا وشرق آسيا إلى الخليج العربي وجنوب آسيا.


[inset_right]
باتت الرؤية التقليدية لمسألة الأمن الوطني والإقليمي لدول مجلس التعاون الخليجي، بحاجة إلى مراجعة وإعادة نظر
[/inset_right]


لقد كان إنشاء مجلس التعاون الخليجي ضرورة من ضرورات الأمن الإقليمي، انطلاقا من إدراك حقيقة أن جوهر أزمة الأمن الإقليمي في الخليج هي اختلال توازن القوى بين إيران والعراق كل على حدة من جهة، والدول الست أعضاء مجلس التعاون الخليجي من جهة أخرى. فتفوق الدولتين في القوة العسكرية يشجع كلا منهما على اتباع سياسات عدوانية نحو الدول الست الأخرى في الخليج، لذا رأت دول الخليج أن معالجة هذا الاختلال تكون بتحقيق توازن جديد في القوى، عبر اندماج الدول الست في منظومة أمنية واحدة، وليس اعتمادا على أطراف خارجية، وأن يتحول مجلس التعاون الخليجي إلى تكتل أمني اقتصادي سياسي، عندها سيكون هذا التكتل قادرا ليس فقط على تحقيق توازن القوى مع إيران والعراق، بل سيحد كثيرا من مبررات استدعاء أطراف خارجية للتدخل في حماية أمن الخليج، وسيقود حتما إلى جعل التعاون وليس الصراع هو السمة الأساسية للعلاقات الإقليمية في الخليج.



مجلس التعاون ودواعي التطوير





لكن في الوقت الراهن هناك إجماع على أن الصيغة التعاونية الحالية لدول مجلس التعاون الخليجي قد استنفدت أغراضها، ولم تعد ملائمة لطبيعة المرحلة التي تمر بها المنطقة، ولم ترتق المنظومة بعد إلى الطموح المنشود لها، لقد شغل المجلس جل وقته في الفترة السابقة في حل النزاعات الحدودية التي خلفها الاستعمار، وعلى الرغم من أن المجلس قد مر على إنشائه 30 عاما، فإن قراراته ما زالت تسير بخطى السلحفاة، في حين أن المستجدات والمتغيرات المتلاحقة تجعل المجلس أمام أخطار لا تحتمل التأجيل، خاصة في ظل تصاعد حضور وقوة وتأثير ومبادرات ومكانة المجلس ودوله، حيث أصبحت دول المجلس اليوم هي القلب ولم تعد ضمن الأطراف في المشهد الجيو - سياسي والاستراتيجي العربي، فهي القلب والمحرك الرئيس للعالم العربي اليوم. ولدى دول المجلس مجتمعة أكبر اقتصاد في المنطقة الممتدة من إسبانيا إلى الهند، بدخل إجمالي تجاوز 1.5 تريليون دولار، وقد أصبحت دول المجلس لاعبا مؤثرا في السياسة الإقليمية والدولية وفي أمن الطاقة والمشتقات النفطية والاستثمارات، وتمتلك سوقا كبيرة للتجارة والسياحة والسلاح. ناهيك بامتلاك دولها أكبر مخزون نفطي يصل إلى ثلثي الاحتياطي النفطي العالمي، و30 في المائة من الإنتاج اليومي من النفط العالمي، وثلثي إنتاج «أوبك» اليومي من النفط و23 في المائة من احتياطي الغاز في العالم.

ومن ناحية أخرى فإن صيغة التعاون في العمل الخليجي المشترك خلال ثلاثين سنة لم تعد تفي بمواجهة الأخطار المحدقة بدول المجلس، فدول مجلس التعاون تواجه تحديات استراتيجية كبيرة على كافة الأصعدة، العسكرية والأمنية والسكانية. إذ عصفت بالنسيج الخليجي الداخلي المتماسك أمراض التفتت المذهبية التي ساهمت سياسات «تصدير الثورة» الإيرانية فيها، من خلال تحريض ودعم بعض الجماعات لأسباب مذهبية، عبر الإعلام أو غيره، على نحو ما حدث في البحرين من انقسامات وما يحدث في الكويت من مشاحنات، والتي جاءت «انتفاضات الربيع العربي» لتشعل جذوتها. ولم يعد الأمن الوطني لكل دولة خليجية شأنا داخليا بحتا، إذ إن أغلب مخاطر ومهددات الأمن الوطني قد أصبحت عابرة للحدود، خصوصا منها: التنظيمات المتطرفة وآيديولوجيات التعصب والتي أصبح من الضرورة مواجهتها برؤية سياسية واستراتيجية شاملة تعالج متطلبات الإصلاح وتصون المجتمعات الخليجية من تلك المخاطر.


[inset_left]
استراتيجيات وقائية..وبدائل للتحالف مع واشنطن، ودور مستقبلي لروسيا والصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية!
[/inset_left]



ومن ناحية ثالثة، باتت الرؤية التقليدية لمسألة الأمن الوطني والإقليمي لدول مجلس التعاون الخليجي، بحاجة إلى مراجعة وإعادة نظر؛ فهناك تراجع وانكفاء للدول الكبيرة والمؤثرة في المنطقة. وهناك إعادة رسم لتحالفات استراتيجية وتاريخية بحاجة إلى قراءة وفهم وتعامل استراتيجي معها. فهناك أولا الفوضى والاضطرابات التي عمت العالم العربي، بعد اندلاع ما يعرف بـ«ثورات الربيع العربي»، وإعلان واشنطن عن استكمال انسحابها من العراق في أواخر عام 2011، وإمكانية أن يتحول الأخير إلى ساحة لتمدد النفوذ السياسي والعسكري لإيران، هذا إلى جانب انفجار الأوضاع في سوريا التي تهدد بانفجار صدام طائفي، سني - شيعي، في المشرق العربي والخليج يهدد الأمن والاستقرار في دول المنطقة.

وهناك ثانيا التراجع التاريخي لقوة الغرب على المسرح الدولي الذي سيجبره، عاجلا أم آجلا، على تغيير سياساته والتزاماته بشأن الأمن الدولي ومنها أمن الخليج، فتلك الالتزامات مكلفة، ولم تعد إمكانياته المتاحة تتحملها، والولايات المتحدة أصبحت أكثر اهتماما بالشرق الأقصى وآسيا والصين (استراتيجية التوجه شرقا)، وبسبب الأزمة المالية وخفض الإنفاق العسكري الأميركي، والانسحاب من العراق والتحضر للانسحاب من أفغانستان والتقارب مع إيران، الأمر الذي يتطلب ضرورة صياغة استراتيجيات خليجية وقائية تعتمد على الذات أكثر من الارتكان إلى الخارج، والبحث عن تحالفات جديدة وبديلة إقليميا ودوليا، وبناء موقف خليجي مستقل عن الموقف الأميركي، الذي لا تتطابق مصالحه وسياساته ومواقفه مع المصالح والسياسات والمواقف الخليجية والعربية، والتفكير جديا في بدائل للتحالف مع واشنطن، عبر «عولمة الأمن الخليجي»، وفي هذا السياق ثمة تفكير في دور مستقبلي ممكن لروسيا والصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية! بسبب اعتمادها شبه الكامل على نفط الخليج لمواجهة نموها الاقتصادي الكبير.



لماذا أصبح الاتحاد الخليجي ضرورة ملحة؟





في هذا السياق جاءت دعوة العاهل السعودي عبد الله بن عبد العزيز آل سعود لدول مجلس التعاون إلى تجاوز مرحلة التعاون إلى الاتحاد في كيان واحد، خلال قمة الرياض الـ32 التي انعقدت في 19 ديسمبر 2011، ورغم تبني دول المجلس «إنشاء قيادة عسكرية موحدة»، خلال القمة الخليجية التي استضافتها الكويت في التاسع والعاشر من ديسمبر الحالي، لتكون خطوة أولية في الطريق إلى «الاتحاد»، فمن الواضح أن هناك خلافا وتباينا داخل منظومة مجلس التعاون الخليجي حول الاتحاد وأمور أخرى تتعلق بالاستحقاقات الأمنية والسياسية والاقتصادية، بسبب موقف عُمان المعارض لقيام الاتحاد والمغرد خارج السرب الخليجي، ويبدو من الواضح أن قادة دول المجلس غلّبوا في قمة الكويت مجددا التوافق على التباين، وأجلوا مناقشة الاتحاد والقضايا الخلافية إلى قمة أخرى بانتظار المزيد من الدراسة، ولكن المطلوب من المجلس اليوم أكبر وأعقد وأشمل. فلم يعد مقبولا الاستمرار في السياسات التقليدية التي ميزت سياسة دول المجلس خلال ثلاثة عقود من المراوحة في تعاون لم يحقق الطموحات والآمال، ولم يعد قادرا على الوفاء بالاحتياجات، صحيح أن الصيغة التعاونية حمت الخليج من مخاطر وأهوال وعواصف هوجاء على امتداد ثلاثة عقود، وحققت لمنطقة الخليج الأمن والاستقرار في بيئة جد مضطربة، لكن المشهد الخليجي اليوم بات معقدا في ظل الأعاصير والرياح العاصفة التي تتجمع في الأفق وتُلبد الفضاء الخليجي بشكل غير مسبوق، ولذلك بات الاتحاد الخليجي ضرورة حتمية تَجُب أمامها أي تحفظات أو ترددات، أو اعتراضات، حتى لا يأتي يوم تقول فيه دول الخليج «أُكلنا يوم أُكل الثور الأبيض».












font change