القاهرة والرياض .. قطبا النظام الإقليمي العربي

القاهرة والرياض .. قطبا النظام الإقليمي العربي

[caption id="attachment_55251381" align="aligncenter" width="620"]السفير السعودي أحمد بن عبدالعزيز قطان يفتتح المستشفى الميداني التابع لوزارة الحرس الوطني، وهو المستشفى الثاني من المستشفيات الميدانية الثلاثة التي أمر خادم الحرمين الشريفين، الملك عبدالله بن عبدالعزيز بإرسالها دعماً للشعب المصري السفير السعودي أحمد بن عبدالعزيز قطان يفتتح المستشفى الميداني التابع لوزارة الحرس الوطني، وهو المستشفى الثاني من المستشفيات الميدانية الثلاثة التي أمر خادم الحرمين الشريفين، الملك عبدالله بن عبدالعزيز بإرسالها دعماً للشعب المصري [/caption]

لم تكن السعودية متسرعة في موقفها تجاه ثورة 30 يونيو؛ فقد كانت من المؤيدين للتغير الأول؛ وتعاملت بدبلوماسية وحكمة مع حكم الإخوان؛ ومدت جسور التعاون الأمني والسياسي والاقتصادي للرئيس السابق محمد مرسي؛ وبعثت أكبر الوفود الاقتصادية إلى مصر؛ برئاسة وزير التجارة والصناعة؛ ومجموعة كبيرة من رجال المال والأعمال. اجتهدت للمحافظة على العلاقات الأخوية الراسخة؛ إلا أن عدائية نظام الإخوان؛ لمصر وشعبها قبل الدول الشقيقة والصديقة؛ وانجرافه نحو نظام الملالي في إيران؛ وتدخله في شؤون الدول الخليجية من خلال أعضاء التنظيم المنتشرين هناك؛ حملتها على تغيير موقفها المُعلن؛ وهو موقف تم اتخاذه بناء على تراكمات الأحداث الماضية؛ التي حدثت خلال ثلاث سنوات متتالية؛ ومنها سنة الحكم الأولى.

تداعيات سنة الحكم الأولى؛ كادت أن تقضي على وحدة مصر ومستقبلها؛ وأضرت بالعلاقات العربية العربية؛ وأفرزت مخرجات فكرية متطرفة؛ وتنظيمات إرهابية وصل خطرها دول الخليج. انعكاسات حكم الإخوان الحادة على الاستقرار؛ الأمن؛ الاقتصاد المجتمع؛ والدولة غيرت مواقف غالبية الحكومات العربية المؤيدة لحكم الإخوان؛ وفي مقدمها السعودية التي لم تتردد في اتخاذ موقف مؤيد لثورة 30 يونيو حفاظا على وحدة مصر وأمنها واستقرارها.
كان الموقف السعودي مُتأنيا في مضمونه؛ ومتوافقا مع سيناريو التغيير؛ وإن بدا متسرعا في ظاهره؛ حيث ارتكز على مواقف صريحة؛ وتجارب مسبقة؛ وتقييم حصيف للوضع القائم؛ ورؤى مستقبلية؛ ونظرة ثاقبة لمآلات الأمور. أخيرا؛ كسبت مصر، والسعودية وخسر المتشائمون والمعارضون للمواقف العروبية الحاسمة التي قدمت مصلحة مصر وشعبها والدول العربية على المصالح الاستخباراتية والمخططات الغربية المتوشحة بوشاح الديمقراطية (الموجهة).



العمق الاستراتيجي



مصر هي العمق الاستراتيجي للدول العربية؛ واستقرارها يعني استقرارا للمنطقة بشكل عام. استهداف الدول العربية؛ وفي مقدمها دول الخليج؛ يستوجب أولا إضعاف مصر؛ ونزع القيادة عنها؛ وهذا ما اجتهد الغرب لتحقيقه من خلال الثورة الأولى؛ وتقديم حكم مصر لـ«الإخوان»؛ وفق استراتيجية استخباراتية محكمة. أزعم أن الدعم الغربي لجماعة الإخوان المسلمين بُني على هدف اختراق الدول العربية وفي مقدمها السعودية؛ فالعلاقات الأميركية؛ الإيرانية الإخوانية كانت ظاهرة بجلاء؛ ونوايا التقسيم؛ ونشر الفوضى كانت حاضرة؛ وفتح أبواب مصر على مصراعيها للإيرانيين بدأت منذ اليوم الأول للحكم الإخواني. مخطط استراتيجي مدمر بدأ من مصر على أمل التوسع فيه نحو دول الخليج؛ وهو ما دفع السعودية لاتخاذ موقف حاسم ومضاد له؛ وللدول الداعمة؛ وعلى رأسها أميركا؛ التي يُعتقد أنها كانت خلف أحداث المنطقة؛ وما لحق بها من ويلات ودمار باسم «الربيع العربي» والديمقراطية!

العلاقات الاستراتيجية دفعت بالحكومة السعودية إلى اتخاذ مواقف جريئة؛ ومضادة لرغبات القوى العالمية الداعمة لحكم الإخوان في مصر. انحازت السعودية إلى رغبة الشعب المصري؛ ودعمت الجهود الموجهة لتصحيح أخطاء الثورة؛ وإعادة الأمن والاستقرار؛ واللحمة العربية المفقودة.
لم تكن العلاقات السعودية المصرية وليدة اللحظة؛ فالعام الحالي يصادف الذكرى 88 لتوقيع الملك عبد العزيز؛ رحمه الله؛ معاهدة الصداقة بين البلدين. مرت العلاقات السعودية المصرية بتجاذبات متفرقة، إلا أن الرؤية الاستراتيجية؛ والأهداف المشتركة؛ ووحدة المصير كانت تنتصر دائما؛ فتعيد العلاقات الثنائية إلى ما كانت عليه من قبل.

قامت العلاقات الأخوية على الاحترام المتبادل؛ والمصالح المشتركة؛ والعلاقات الاقتصادية الوثيقة؛ فثروات النفط المتدفقة على السعودية كانت في حاجة دائمة إلى الأيدي العاملة المحترفة للمساهمة في مشروعاتها التنموية؛ والتي كانت مصر من مصادرها الرئيسة.
تعتبر الأيدي العاملة المهاجرة جزءا رئيسا من برامج الدعم المالي غير المباشر؛ فوجود ما يقرب من 1.3 مليون عامل يسهم بشكل كبير في دعم الموازنة وتوفير العملات الصعبة للخزانة المصرية؛ وربط المجتمعين بالعلاقات الإنسانية التكاملية، إضافة إلى ذلك فقد استثمرت الحكومة السعودية بشكل مباشر في مشروعات تنموية واقتصادية؛ وأسهمت في دعم الاستثمارات السعودية الخاصة في بعض القطاعات المستهدفة في مصر؛ ومنها القطاع الزراعي الذي بات يشكل وعاء استثماريا متميزا للشركات السعودية؛ وأسهمت أيضا في تقديم المساعدات المالية المباشرة؛ لدعم البنك المركزي؛ والمحافظة على قيمة الجنيه المصري؛ ولتوفير موارد مالية كافية لمواجهة الاحتياجات العاجلة.
تحتل السعودية المرتبة السادسة من بين أكبر الدول المستثمرة في مصر، ومن المنتظر أن تحتل مركزا متقدما خلال العام الحالي كنتيجة مباشرة لحزمة الاستثمارات الحكومية والخاصة التي بدأت في التدفق بعد تأكيد الحكومة المصرية باحترام جميع الاتفاقات الاستثمارية الموقعة من قبل. تعامل الإخوان مع المشروعات المشتركة؛ والاستثمارات الأجنبية أضر بشكل كبير؛ بالعلاقات الاقتصادية؛ واستثمارات القطاع الخاص التي انسحبت بشكل مفاجئ من السوق المصرية. الأمن والاستقرار واحترام الاتفاقيات من أهم العوامل الداعمة للاستثمار الأجنبي.



مشروع الربط الكهربائي



يمكن القول: إن مشروع الربط الكهربائي أحد أهم المشروعات الاستراتيجية بين البلدين؛ في الوقت الذي تمثل فيه المشروعات الزراعية أهمية بالغة للجانبين؛ وللقطاع الخاص على وجه التحديد. هناك رغبات مشتركة؛ والتزام سعودي بتطوير العلاقات الاقتصادية بشكل أكبر؛ بعد الانتخابات الرئاسية القادمة.



[blockquote]تحتل السعودية المرتبة السادسة من بين أكبر الدول المستثمرة في مصر، ومن المنتظر أن تحتل مركزا متقدما خلال العام الحالي كنتيجة مباشرة لحزمة الاستثمارات الحكومية والخاصة التي بدأت في التدفق
[/blockquote]


أحدثت سنوات الثورة وتداعياتها أثرا سلبيا في الاقتصاد المصري وعطلت السياحة؛ القطاع الأكثر أهمية في دعم الاقتصاد وخلق الوظائف؛ وتسببت في إضعاف الأمن؛ واستهداف أنابيب الغاز ما أثر سلبا على الدخل المصري؛ وبالتالي القدرة على توفير الطاقة. توفير المشتقات النفطية أحد أهم برامج الدعم السعودي لمصر. توقف إنتاج الطاقة يعني توقف الأنشطة الاقتصادية والحركة بشكل عام؛ وهذا ما دفع السعودية لتوفير الاحتياجات الضرورية من خلال برامج دعم مستدامة. هناك شبه اتفاق خليجي على استدامة الدعم النفطي والمالي حتى خروج مصر من أزمتها الحالية.
وزير المالية المصري؛ الدكتور هاني قدري دميان؛ أكد في تصريحات صحافية على: «إن المساعدات المالية التي تلقتها مصر من المملكة العربية السعودية والإمارات والكويت، أسهمت وبشكل كبير للغاية في تخفيض عجز الموازنة العامة، بنهاية العام الجاري».

برغم استمرارية الدعم السعودي؛ فإنه اتخذ مؤخرا، شكلا أكثر تنظيما وكفاءة؛ وفاعلية لمعالجة التداعيات الاقتصادية؛ وتعطل موارد الدولة. لم تعتمد السعودية على جهودها الفردية بل أسهمت في حشد الدعم الخليجي الذي تحرك بقوة لدعم أمن مصر واستقرارها من خلال دعم الاقتصاد والمحافظة على سعر صرف الجنيه المصري. العلاقات المتميزة؛ وتأكيدات الحماية للاستثمارات الأجنبية؛ سمحت بمزيد من التدفقات الاستثمارية إلى السوق المصرية؛ فمصر تمتلك كل مقومات الاستثمار؛ وفي مقدمها الاستثمارات السياحية؛ الزراعية؛ والعقارية التي تمثل هدفا رئيسا للمستثمرين السعوديين.
يشير رئيس مجلس إدارة الجمعية المصرية السعودية؛ الشيخ عبد الله الراجحي؛ إلى «أن حجم الاستثمارات السعودية المستهدفة في السوق المصرية عام 2014 يبلغ نحو 200 مليار جنيه» سيتركز في قطاعات الزراعة والسياحة والعقارات؛ مؤكدا في الوقت عينه؛ «أن السوق المصرية قادرة على استرداد عافيتها والانطلاق من جديد».

المساعدات المالية السعودية التي أسهمت في دعم الاقتصاد المصري؛ قابلها دعم سياسي وأمني غير مسبوق. تحرك السعودية السريع والمؤيد للتغيير أسهم في انتزاع التأييد من بعض الدول المترددة. ينبغي الإشارة إلى أن السعودية كانت في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة الأميركية المؤيدة لحكم الإخوان. قدمت السعودية مصلحة الشعب المصري على حسابات السياسة التي تعتمد مصالح الأنظمة؛ في تجاهل كلي لمصالح الشعوب. الانتقادات الأميركية؛ وما تبعها من فتور في العلاقات؛ لم تثن السعودية عن المضي نحو هدفها الرئيس لحماية أمن واستقرار مصر.

عبد الفتاح السيسي؛ أكد أن أول زيارة خارجية له ستكون للسعودية؛ وهو تصريح يحمل من المضامين الكثير؛ ويعكس العلاقة الاستراتيجية المشتركة بين مصر والسعودية. بُعيد فوز الإخوان بالرئاسة؛ كانت إيران الوجهة المفضلة لهم؛ وبدلا من زيارة السعودية للحصول على الدعم والتأييد وتوطيد العلاقات الدبلوماسية؛ شكلت زيارتهم الأولى لها؛ خرقا دبلوماسيا غير مسبوق؛ لأسباب مرتبطة بلغة الحوار؛ والتهديدات المبطنة؛ وعمليات الابتزاز؛ ما أسهم في فضح نواياهم؛ وتوجهاتهم؛ وخططهم المستقبلية. لم تكن السعودية مطمئنة لعلاقة الإخوان بإيران؛ ومع ذلك انتهجت سياسة النفس الطويل معهم؛ وهي سياسة دفعت بالإخوان إلى كشف مخططاتهم سريعا ما أدى إلى خسارتهم الشارع المصري قبل الحكومات العربية. أثبتت الأيام بعد نظر السعودية؛ وشرفاء مصر وسلامة موقفهم الاستراتيجي. عادت العلاقات السعودية المصرية إلى سابق عهدها بعد خروج الإخوان من الحكم؛ وركزت المملكة كثيرا على البعد الأمني الذي تضرر بشكل واضح. لم تقتصر التداعيات الأمنية على مصر؛ بل امتدت إلى دول الخليج؛ ومنها السعودية التي وضعت استراتيجية أمنية لمواجهة الفكر المتطرف الذي أججته فترة حكم الإخوان القصيرة؛ وأخرجته من مكمنه. فلسفة «المرشد» باتت تهدد استقرار دول الخليج؛ وأصبح بعض أتباع التنظيم يجاهرون بتبعيتهم للنظام الحاكم في مصر؛ وتأييدهم له؛ بل إنهم باتوا يستعدون الشعوب الخليجية على حكوماتهم تحقيقا لتوجيهات المرشد وتنظيمه.



مجلس التعاون الخليجي



مصر تدخل مرحلة جديدة من الأمن والاستقرار؛ والعلاقات المتميزة مع السعودية وغالبية دول الخليج؛ ما يفتح الباب أمام تكهنات حول الكيان المشترك المتوقع تكوينه لحماية ما تبقى من «الكتلة العربية» المتجانسة. أحدثت الثورات أضرارا فادحة على أرض الواقع؛ وتسببت في إضعاف غالبية الدول العربية؛ ما أسهم في دعم خطط إيران الاستراتيجية الهادفة للسيطرة على المنطقة. باتت إيران الدولة الوحيدة المستفيدة من الثورات العربية في الوقت الذي أصبح فيه الشعب العربي من أكثر الخاسرين. لم تأت نتائج الثورات العربية مصادفة؛ بل جاءت وفق خطط استراتيجية محكمة اعتمدت الديمقراطية والحرية وقودا لها؛ والفوضى العارمة جسرا للوصول إلى أهداف مرسومة بعناية من قبل الاستخبارات الغربية.

تنبأ البعض بأن يكون لمصر دور مهم في مجلس التعاون الخليجي؛ ولعلنا نرى؛ في المستقبل المنظور؛ اتحادا بين بعض دول الخليج المتجانسة والمتوافقة في الرؤى والسياسات. أنشأت السعودية والإمارات لجنة عليا للتنسيق الاستراتيجي والأمني بين البلدين؛ وفي ظني أنها المرحلة الأولى في الطريق نحو إنشاء القاعدة التي يبنى عليها الاتحاد الخليجي مستقبلا. مهما كان شكل الكيان السياسي المنتظر؛ فلا بد أن يكون لمصر دور مهم فيه؛ فالسعودية والإمارات اتخذتا خيارا استراتيجيا لدعم مصر في محنتها الحالية؛ وستكون مصر الداعم الأكبر لاستقرار الخليج في مواجهة المخاطر المتوقعة. أجزم بأن مصر والسعودية تمثلان مركز القيادة العربية وأي توافق بينهما يقود إلى تحقيق المصالح الشاملة للدول العربية قاطبة.
الشراكة الاستراتيجية العربية هي ما تبحث عنها السعودية اليوم؛ لمواجهة الأطماع الغربية؛ والتدخل الإيراني المستمر في شؤون الدول العربية. أي شراكة خليجية لا يمكن فصلها عن مصر التي تشكل العمق الاستراتيجي لدول الخليج. التكامل العربي يقود إلى خلق شراكة استراتيجية دائمة تقوم على المصالح المتبادلة وتهدف إلى تحقيق أمن واستقرار المنطقة. وحدة المصير هي الهدف الذي يجب أن تدفع نحوه جميع الدول العربية وليس مصر والسعودية فحسب.
font change