المصالحة الفلسطينية.. مطلب وطني أم مناورة إخوانية؟!

المصالحة الفلسطينية.. مطلب وطني أم مناورة إخوانية؟!

[caption id="attachment_55251493" align="aligncenter" width="620"]طفل فلسطيني  يلعب  تحت جوال "المشمع" في ساحة ميناء مدينة غزة - ابريل الماضي طفل فلسطيني يلعب تحت جوال "المشمع" في ساحة ميناء مدينة غزة - ابريل الماضي[/caption]

كلام أبو مرزوق صحيح في عنوانه العريض، وإن أخطأ في تشخيصه مأزق حركة فتح وسبب تراجع الدعم العربي. فمفاوضات السلام - كما إسرائيل والرعاة الأميركيين - لم تتصدر اهتمام أي من الحركتين، بل يجوز القول إن المقولة الأميركية الشهيرة: «كل السياسة محلية»، تنطبق هنا. لكن بما أن الساحة الفلسطينية ساحة ثانوية خاضعة للتجاذبات الإقليمية، فعلينا النظر أبعد من العوامل الداخلية إلى اصطفافات دول المنطقة والتنافس فيما بينها، وإلى تفاعل اللاعبين الفلسطينيين مع هذه العوامل الإقليمية.

وهكذا، تأتي المصالحة بين فتح وحماس على خلفية مساعي دول عربية لإبراز نفوذها في المسرح الفلسطيني في مرحلة ما بعد سقوط الإخوان المسلمين من السلطة. وهي مرحلة وجدت حماس نفسها فيها معزولة بشكل خانق، سياسيا وماليا. فالجيش المصري قام بتهديم الأنفاق على الحدود مع قطاع غزة، مضيقا أكثر على حماس. ووصل التوتر مع مصر - المنفذ الوحيد للحركة - إلى حد إصدار محكمة القاهرة للأمور المستعجلة حكما «بحظر أنشطة حماس مؤقتا داخل جمهورية مصر العربية، وكذلك حظر الجمعيات والجماعات والمنظمات والمؤسسات التي تتفرع منها أو تتلقى منها دعما ماليا أو أي نوع من أنواع الدعم»، وذلك على خلفية اتهام القاهرة لحماس بالتخابر واقتحام سجون في مصر عام 2011. كل هذا في ظل استمرار الفتور النسبي بين حماس وإيران، مما جعلها في مأزق فعلي، خصوصا مع تنامي علاقة طهران مع حركة الجهاد الإسلامي المنافسة لحماس في القطاع.


إحياء المصالحة




في الوقت نفسه، لم يسد الدفء في علاقة المشير عبد الفتاح السيسي مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ويعود ذلك إلى خلاف عباس مع القيادي الفتحاوي المفصول، محمد دحلان، مسؤول الأمن الوقائي في غزة سابقا. بالفعل، في مارس (آذار) الماضي، صّرح مسؤول مقرب من عباس بأن السلطة تعيش الآن «أسوأ علاقة بين النظام في مصر والسلطة منذ أمد بعيد». وأعاد المسؤول ذلك إلى أن السيسي يعمل، بالتعاون مع الإمارات، حيث يقيم دحلان، إلى دفع دحلان إلى الأمام. ونقلت مصادر مصرية عن اللقاء الأخير بين السيسي وعباس، أن الأخير حدثه عن ضرورة إحياء المصالحة مع حماس، إلا أن السيسي رد بالقول: «خلينا من المصالحة الفلسطينية، علينا أن نتحدث عن المصالحة الفتحاوية»، في إشارة إلى الخلاف مع دحلان.

على هذه الخلفية، ناور اللاعبون الفلسطينيون وداعموهم العرب منذ أشهر، وصولا إلى التقارب الحالي بين عباس وحماس. أصبحت أولوية عباس إسقاط محاولة مصر، بالتحالف مع الإمارات، إعادة دحلان إلى الساحة وإعادة بناء نفوذه. بالطبع، شكّل المسعى المصري - الإماراتي مأزقا لحماس أيضا. من جهة، الحركة تكره دحلان، الذي طردته من غزة بالقوة عام 2007، وهي أيضا تدرك أن عودة دحلان إلى غزة بدعم مصري ستأتي بلا شك على حساب نفوذها. في الوقت نفسه، أولوية حماس تخفيف الضغط المصري والتوصل إلى تفاهم ما يخفف حدة التوتر مع القاهرة. في هذا السياق، برز الدور القطري.
تردد أن قطر شجعت رئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل، المقيم في الدوحة، على الوصول إلى تكيّف ما مع دحلان يفتح الباب أمام عودة المساعدات المالية، ويرطب العلاقة مع مصر. بدءا من ديسمبر (كانون الأول) الماضي، اتخذت حماس بضع خطوات في اتجاه دحلان، وسمحت لبعض أعوانه بالعودة إلى غزة، وسمحت لجمعيات خيرية تديرها زوجة دحلان بالعمل في القطاع، لكن حماس لم تكن على وشك أن تطلق يد دحلان، أو أبوظبي، في غزة. والأهم، فإن انفتاحها المحدود على دحلان كان له وقعه على عباس، فاضطر الأخير لإرسال وفد إلى غزة في فبراير (شباط) لقطع الطريق على دحلان. وعندها بدأ التقدم في اتجاه الاتفاق على المصالحة، فأعلنت قيادة حماس في غزة، خصوصا الصقور فيها، أن التصالح مع دحلان غير وارد، وأنها تقف مع عباس. كما أوضحت الحركة أن أي استثمار إماراتي في القطاع يجب أن يأتي ليس عبر وسطاء (أي مقربين من دحلان)، إنما تحت إشراف لجنة من الفصائل والمجلس التشريعي.


عباس ودحلان




بدوره، عرقل عباس وصول الأموال والرواتب لمؤيدي دحلان في غزة. وعلى الرغم من أن خزينة السلطة الفلسطينية في «ضيقة»، أُجبر عباس على إنفاق مليون دولار على عرس جماعي في غزة بعد أن علم أن دحلان كان سيموّل العرس. قرار عباس بالصراع مع دحلان خرّب علاقة الرئيس الفلسطيني مع الإمارات، وزاد منسوب التوتر مع السيسي، لكن عباس يدرك أن الصراع مع دحلان حيوي بالنسبة له، ولذا، وعلى الرغم من التوتر مع القاهرة وأبوظبي، قرر خوضه على جبهة إضافية، في المخيمات الفلسطينية بلبنان. ويشكل مناصرو دحلان فصيلا مهما في المخيمات، وخصوصا مخيم عين الحلوة، كما أن المنظمة الخيرية التي تديرها زوجة دحلان كانت قد وزعت مساعدات في المخيمات، لكن لبنان ميدان «حزب الله»، وعداوة الأخير لدحلان معروفة، إذ يعده أداة لإسرائيل ولدول الخليج التي يعاديها الحزب. وفي رسالة لدحلان، قتلت مجموعة فلسطينية قريبة من «حزب الله» قائد فصيل كان قد رافق زوجة دحلان حين زارت مخيم المية ومية لتوزيع المساعدات. ولخصت صحيفة «الأخبار» المقربة من الحزب تلك الرسالة بلا غموض: «ممنوع وجود الدحلانيين في المخيمات».

قد ينظر عباس إلى الدور القطري في التقارب بين عباس وحماس على أنه يشكل سندا لتحقيق توازن في علاقاته المتوترة مع داعمي دحلان الإقليميين في مصر والإمارات. وربما أراد عباس إظهار ذلك عبر زيارته الدوحة في رحلته الأولى بعد إعلان اتفاق المصالحة. كما ذكرت تقارير أنه طلب من قطر تمويل رواتب موظفي حكومة حماس، والتي عجزت الحركة عن دفعها لستة أشهر على التوالي بسبب أزمة السيولة، إلى أن يجري تنظيم الانتخابات وتشكيل حكومة جديدة بعدها. إنما من غير الواضح أن كانت قطر، عبر دعمها أولا محاولة التقارب بين دحلان وحماس ثم عبر دورها في تقارب الحركة وعباس، تسعى إلى تثبيت دورها على الساحة الفلسطينية كراع أساسي لحماس، مضيفة عباس إلى دائرتها، أم إذا كانت تريد ترميم علاقة حماس - وعلاقتها هي أيضا - بالقيادة المصرية بما يتوافق مع رؤية الأخيرة.
من هذه الناحية، كانت لافتة إشادة حماس بدور مصر في تحقيق المصالحة. أرادت حماس أن يكون هذا الموقف العلني اعترافا بأولوية القاهرة على الساحة الفلسطينية. ترسيخ هذه الحقيقة عربيا وإقليميا يلعب دورا على الأرجح في حسابات السيسي. كما أن هذا الإشهار الحمساوي بأن السيسي هو من يملك مفاتيح غزة، وأن الحركة بعد كل مناوراتها لا تستطيع اللف حول هذا الواقع، أيضا له أهميته، خصوصا في المرحلة المقبلة. فحماس تأمل أن يؤدي اتفاق المصالحة والحكومة التي ستنبثق عنه إلى إعادة فتح معبر رفح وإلى إعادة تأهيلها إقليميا ودوليا. لذا على الحركة السير بحذر، ذاكرة على الدوام أن مصر لها الكلمة الأولى والأخيرة على الحدود.



حماس و«حزب الله»




أيضا تجدر الإشارة إلى أن اتفاق المصالحة لن يغير جذريا في الوضع القائم في الضفة والقطاع. فلن يعيد عباس تأسيس نفوذه في غزة، ولن يسمح لحماس بتقوية وجودها في الضفة أو بإدخال عناصرها في أجهزة أمن الضفة. لا بل أكد قيادي بارز في حماس في مايو (أيار)، أن «الحملة ضد أنصار حماس ومؤيديها بالضفة مستمرة على قدم وساق من اعتقالات ومداهمات وملاحقات». وإن تولت قوة مشتركة للحكومة العتيدة إدارة معبر رفح، فهذا لا يعني أن الحركة في صدد التخلي عن الحكم في غزة أو أنها ستشارك إدارة القطاع مع عباس. فجهاز أمن حماس وكتائب القسام تبقى خارج إطار الاتفاق، وكذلك التنسيق الأمني بين عباس وإسرائيل في الضفة. إذن، توازن القوى القائم في الضفة والقطاع مرشح للاستمرار. الترتيب الذي تتصوره حماس، بحسب القيادي الحمساوي أحمد يوسف، يتبع نموذج «حزب الله» في الحكومة اللبنانية، بحيث تبقي حماس على إمكانيات القوة الأمنية والعسكرية على الأرض، وهو ما «يمكنها الحفاظ على شرعيتها وقدرتها في تحديد الرئيس القادم وأعضاء البرلمان مستفيدة من تجربة (حزب الله) في لبنان». كلام يوسف يعني أيضا أن الحركة ستبقي على خيارها الإيراني، إلى حين عودة هذه العلاقة إلى ما كانت عليه. وهذا ما سيكون له تداعيات على موقف مصر من معبر رفح والأنفاق، إذ لا تقدر القاهرة أن تقبل بعودة تدفق السلاح الإيراني وما يتبعه من توتير للوضع في سيناء وغزة الذي تنظر إليه القيادة المصرية على أنه مصدر تهديد لأمنها القومي. هذا عدا عن التداعيات المحتملة على الوضع الداخلي المصري ومواجهة الإخوان مع الجيش.

لذا من الأساسي فهم مناورة التقارب بين عباس وحماس ضمن إطارها الحقيقي والمحدود. كلتا الحركتين في مأزق، وعلاقتهما مأزومة مع اللاعبين الإقليميين النافذين في الساحة الفلسطينية، وكلتاهما اضطرت إلى لعب ورقة المصالحة سعيا إلى الخروج من مأزقيهما، وإن مؤقتا. فالتقارب إذا هدفه محدد: بالنسبة لعباس، لدرء مسعى القاهرة وأبوظبي لإعادة دحلان، وهو قد استطاع في هذه المرحلة أن يقطع الطريق على دحلان عبر المصالحة. وبالنسبة لحماس، لإيجاد هامش للتحرك مع مصر وكسر القيود المسلطة عليها، أملا بإعادة تأهيلها وإعادة تفعيل بعض علاقاتها الخارجية بعد تداعي الإخوان في المنطقة.
أخيرا، فإن تموضع الحركتين خلف المصالحة يعكس مصلحة مشتركة أساسها تفاعل الساحة الفلسطينية الثانوية مع اللاعب الأساسي فيها أي مصر. حتى اللحظة، لم تقدم القاهرة أي تنازل في موقفها وإن لم تنجح الآن في إعادة تعويم دحلان. في المقابل، وبعد أشهر من المناورة، فقد حصلت على اعتراف من اللاعبين المحليين، بل والإقليميين أيضا، أن مفاتيح الساحة الفلسطينية بيد مصر ولا مجال للالتفاف على هذا الواقع.


font change