استراتيجية ايرانية لخلق الفوضى وتفكيك المنطقة العربية

استراتيجية ايرانية لخلق الفوضى وتفكيك المنطقة العربية

[caption id="attachment_55251749" align="aligncenter" width="624"]مقاتل شيعي مقاتل شيعي[/caption]

مع تصاعد الحديث حول تداعيات ما يبدو وكأنه حرب مذهبية تشمل المنطقة من لبنان إلى سوريا والعراق وحتى اليمن، وصل الأمر إلى أن البعض بدأ يتكلم عن مستقبل خريطة المنطقة واحتمال إعادة رسم حدود دولها. ومع أن هذه الحدود عمرها يناهز القرن، فإن تفاقم الصراع الطائفي يطرح أسئلة حول استمرارية الدول ذات التعدد الطائفي أو القومي بشكلها الحالي.

لا شك في أن انعدام القدرة في هذه المجتمعات على إيجاد صيغة سياسية عادلة تلتقي حولها المجموعات المختلفة سبب أساسي في الانهيار الحاصل في المشرق. كما أن صيغ الحكم الشاذة، مثل نظام عائلة الأسد في سوريا، وصلت إلى نهاية الطريق في قدرتها على فرض سيطرتها بالقوة. إنما استمرار النظام أدى إلى ما يسمى بـ«التقسيم الناعم»، أي إقامة كانتونات ومناطق نفوذ محددة إنما غير معترف بها. من جهة ثانية، يشكل دور التنظيمات والآيديولوجيات العابرة للحدود، إن كانت سنية وغير تابعة لدولة ما، أو شيعية تابعة لإيران، الطابع الآخر للاحتراب الطائفي القائم. هذه العناصر كلها وراء الأسئلة المطروحة حول إمكانية بقاء الحدود التي قامت بعد زوال الإمبراطورية العثمانية.



الآيديولوجية العربية




طبعا ليست الحركات العربية الآيديولوجية (وإن كانت في الحقيقة أهلية)، قومية كانت أم دينية، والتي سعت لمحو «حدود سايكس - بيكو»، شيئا جديدا في الحياة السياسية للعرب. فهذه الحركات لم تفشل فحسب في تغيير واقع الحدود، لا بل انتهت بترسيخها. فالبعث في العراق وسوريا لم يوحدهما، بل عزز الفرز بين الدولتين. والجمهورية العربية المتحدة التي دمجت سوريا ومصر إبان الحقبة الناصرية لم تعش طويلا. تنسحب السابقة البعثية أيضا على الصراع في سوريا بين تنظيم "داعش" من جهة، وجبهة النصرة والجبهة الإسلامية من جهة ثانية حيث لم تنفع الآيديولوجيا الدينية العابرة للحدود في وأد الصراع بين تنظيم «البغدادي» وجبهة «الجولاني». طبعا، تستطيع هذه الحركات، القومية في السابق والدينية حاليا، خصوصا إن تولت الحكم، أن تخلق أو أن تؤجج الفوضى. والفوضى سيد الموقف اليوم في سوريا والعراق. فالحروب الأهلية، تعريفا، تخلق البيئة المثالية لحالات التجييش الأهلي والكانتونات وما شابه، كما كان الحال، مثلا، إبان الحرب الأهلية في لبنان. إذا من السابق لأوانه تنبؤ ما ستؤول إليه خريطة المنطقة، فالصورة غير واضحة اليوم، إذ إننا في سياق حروب مستعرة لم تستقر على حلول أو تحالفات دائمة أو اصطفافات إقليمية ودولية تبلور شكل التسويات والصيغ السياسية التي ستنتهي إليها الصراعات الدائرة.



حالة استثنائية





قد تكون حالة تنظيم "داعش" في المحافظات السنية في العراق وسوريا، حالة استثنائية تختلف عن السوابق المذكورة، لكن ليس هذه الخلاصة بديهية. وقد يلفت البعض إلى أن المنطقة بين الموصل وحلب شكلت تاريخيا امتدادا واحدا. ولذا ففي الواقع المستجد اليوم عودة لهيكليات التاريخ بحيث إن المشرق بطبيعته هو الأرض «ما بين» مراكز القوة الأكبر، أي مصر أو فارس أو الأناضول/ الروم، قامت فيها مناطق أو دويلات عازلة يحكمها توابع للقوى الأكبر. طبعا، يتوقف هذا على ما ستقرره المجموعات السنية المختلفة في العراق وسوريا، وإن تحالف بعضها اليوم مع تنظيم تنظيم "داعش" أو خضع له بالقوة. فهل فعلا تريد غالبية القوى السنية العراقية أن تنحت دويلة جديدة تمتد خارج الحدود الحالية للعراق؟ أو هل سيرضى أهل السنة في سوريا، المنقسمون مناطقيا أصلا، بهيمنة تنظيم مركز ثقله عراقي؟ على سبيل المثال، صرح الشيخ أحمد الدباش مؤسس تنظيم الجيش الإسلامي في العراق المتحالف حاليا مع تنظيم تنظيم "داعش" بأن ما يسعى إليه هو إقامة ثلاث مناطق حكم ذاتي في العراق، شيعية، كردية، وسنية، تتقاسم الموارد بشكل متساو. إذا، هذه الرؤية تعيد تنظيم الصيغة الإدارية والسياسية داخل العراق، إنما تفترض استمرار حدوده الدولية الموجودة حاليا. كما أن كثرة الكلام عن احتمال إعلان الأكراد استقلالهم ليس أمرا مفروغا منه، إذ عليهم أخذ موقف القوى المجاورة الأكبر بعين الاعتبار. وهكذا، هناك احتمال، وإن يبدو ضعيفا اليوم، أن يستقر الوضع أخيرا - لا ندري متى - على صيغة يتداخل فيها الحاضر مع البنى التاريخية المذكورة، بحيث تقوم مناطق حكم ذاتي هي أيضا بمثابة مناطق عازلة بين القوى الأكبر، مثل تركيا وإيران اليوم، إنما تبقى ضمن الحدود الدولية المعروفة.



النظام الجديد




التقسيم القانوني ليس مسألة بسيطة. في هذا السياق، علق المسؤول الأميركي السابق فريدريك هوف، الذي له باع طويل في العمل على مسائل النزاعات الحدودية في المنطقة، أن «على الذين يدعون لحملة دبلوماسية لإقامة تقسيم وقائي أن يأخذوا سؤالين في الاعتبار: من الذي، في النهاية، سيفرض التقسيم إن لم يرض بعض اللاعبين المحليين بالترتيبات حول الموارد الطبيعية، وتبادل السكان، ومسائل حدودية أخرى شائكة. وهل مجرد اقتراح التقسيم الرسمي سيكون له تداعيات غير مقصودة بكب الزيت على النار المشتعلة أصلا، إذ يتصارع المتنافسون للتموضع في النظام الجديد؟».
ولا تقتصر المسألة على اللاعبين المحليين. في الحقيقة، المشكلة الأكبر التي تفاقم العلل الموجودة في الدول العربية، هي مشكلة الطموح الإيراني. فإيران دولة ذات آيديولوجية رسمية أيضا عابرة للحدود. إنما، وبعكس المجموعات السنية، لدى طهران جهاز حكومي مهمته العمل خارج الحدود، أي «فيلق القدس» في الحرس الثوري. والسياسة الإيرانية مبنية على استثمار الفوضى، وأكثر، على غرس نفسها في الدول الضعيفة والمنقسمة. فبالنسبة لإيران، مفاقمة التشرذم الموجود تشكل استراتيجية لبسط نفوذها. ففي حالة الفوضى والصراع الدائم، تستغل إيران الثغرات المتاحة لزيادة مكاسبها.

إنما الاستراتيجية الإيرانية تسعى لبناء هيكليات طويلة المدى داخل الدول العربية. وتقوم هذه الاستراتيجية على التغلغل داخل المؤسسات والتطفل على الدولة. لعل أوضح مثال هو حال «حزب الله» في لبنان. فبعد أن غرست إيران نفسها داخل الطائفة الشيعية أثناء فوضى الحرب، بنت مؤسسات موازية للدولة، ومن ثم، بعد أن عظمت بنى الحزب، أدخلت إيران الحزب في الدولة اللبنانية حتى وصل الأمر الآن إلى حد السيطرة على مؤسسات الدولة، خصوصا المؤسسات الأمنية، مع استمرار الوجود الموازي خارجها. فالحزب الآن له الكلمة الأخيرة حول التعيينات الأمنية، وحول عقيدة الأجهزة الأمنية والجيش، وأماكن انتشارها، وحدود سلطتها الفعلية. والأكثر إشكالية هي ظاهرة التكامل الأمني بين الحزب والجيش والانتشار المشترك في عمليات ضد أهداف ومناطق سنية، حيث يصبح الجيش بمثابة القوة الضاربة للحزب وحامي ظهره. إنما هذه الاستراتيجية الإيرانية مبنية على إبقاء الحدود الدولية للبنان. وهي بذلك تمسك بالدولة رهينة، فبدل أن تقيم كانتونا طائفيا تستطيع إسرائيل أن تدمره دون أي اعتراض دولي، يختبئ الحزب وراء الدولة ومواطنيها.



الهويات الأهلية




وكما هو معروف، نسخت إيران الاستراتيجية نفسها في العراق، وها نحن نشاهد اليوم كيف أن الميليشيات الشيعية المدربة والمجهزة إيرانيا، والتابعة عقائديا لإيران، تنتشر جنبا إلى جنب مع جيش حكومة الرئيس نوري المالكي. وهكذا تصبح المؤسسات الحكومية المركزية أداة ليس فقط لطائفة، بل لسياسة إيران. وهذا ما يقوض المؤسسات ويدمر ثقة الطوائف الأخرى فيها وفي فكرة الدولة المركزية نفسها. وهذا ما أدى إلى الوضع الحالي في العراق.

من غير الواضح على أي حل ستستقر الصراعات التي تعصف في المنطقة. وقد يكون الحديث عن خريطة جديدة سابقا لوقته. فعلى الرغم من الهويات الأهلية، العشائرية أو الدينية قادرة على كسب ولاء وتجييش المجتمعات العربية في المشرق أكثر من الهويات الوطنية، أقله ضمن حالة الاحتراب القائم، هذا لا يعني بالضرورة أن تغييرا دائما سيطرأ على حدود صمدت لقرن أو أن هذه الحدود لم تعد مهمة. وفيما يركز المراقبون على مستقبل الحدود، تتفاقم أزمة ربما أكثر أهمية ووقعا على المستقبل، ألا وهي حركة النزوح السكاني الرهيبة، ضمن وعبر الحدود، والتي قد تترك أثرا عميقا وربما باقيا على التركيبات الديموغرافية في المشرق. أي بكلام آخر، قد تكون المسألة الفعلية هي ديموغرافية سايكس - بيكو، أكثر من «حدود سايكس - بيكو». في النهاية، ما زلنا في حالة تقلب مستمر، ديمومتها غير واضحة. والمسألتان تنتظران حلولا، قد لا تأتي لسنوات، ترسو عليها القوى المحلية، والإقليمية والدولية - حلولا لن تغير بالضرورة خريطة المنطقة. ولكن الأرجح ألا يكون هناك حل يضمن الاستقرار طويلا ما لم يتم فرض تغيير على الطموحات الإيرانية وهيكليات سياستها التوسعية داخل الدول والمجتمعات العربية المنقسمة.

font change