الحركيون والتخاذل أمام الإرهاب.. حادثة شرورة نموذجاً

الحركيون والتخاذل أمام الإرهاب.. حادثة شرورة نموذجاً

[caption id="attachment_55251773" align="aligncenter" width="600"]استعدادت أمنية واسعة في السعودية لمواجهة أي خطر إرهابي محتمل استعدادت أمنية واسعة في السعودية لمواجهة أي خطر إرهابي محتمل[/caption]

يظلّ ما يطرحه الإنسان متراكماً ضمن رصيده النظري، ما لم يتراجع عنه أو يحرقه كما فعل بعض الفقهاء والمحدثين الذين أحرق بعضهم مؤلفاته مثل أبو حيان التوحيدي، وأبو عمرو بن العلاء وغيرهم، غير أننا لا يمكن نظرياً أن نتجاوز إرثاً امتدّ على مدى ثلاثين عاماً حمل آلاف المقولات والأحكام والتوصيات بجرّة قلم، وهذا لا يجوز معرفياً أن نأخذ من الداعية مقالةً واحدةً ومرحلةً ورؤيةً واحدة.

من هنا تكون استعادة الإرث الممتد منذ البدء وحتى الآن عاملاً للفهم والاستيعاب، وبخاصةٍ حين يكون الإنسان موضع النقد لا يزال متمسّكاً بتلك المقولات وإن استبعد بعضها وحاول الرهان على "ذاكرة القطط" التي يمكن أن يتمتّع بها المجتمع ليكون الفرد "غبيّاً بدرجةٍ كافية"، وليكون الجمهور منساقاً وراءه بكل تقلباته وانقلاباته السياسية والمنهجية، رغم محاولته كتابة "مقالات في المنهج" وإن تشابه العنوان مع كتاب "ديكارت" غير أن البون بينهما شاسع مثل المسافة بين ثقافة الحياة وثقافة الموت.

ولأنني تناولت كتابه: "أسئلة الثورة" من قبل، فإن عودة هذا الداعية للتعليق على الحدث الأمني الأخير وجريمة "تنظيم القاعدة" الأخيرة يعيدنا إلى فحص رؤيته الشرعية حول العمل الأمني الذي يقوم به الفرد، بدايةً نقف مع مقالته: "عن أحداث شرورة" والتي نشرها بموقعه (الإسلام اليوم) في 7 يوليو 2014، قال فيها:" رحم الله أرواح الذين قضوا في حادث شرورة، وأسال الله أن يتقبَّلهم شهداء، وأن يُلهم أهلهم وذويهم الصبر، ويخلف عليهم بخير"! هنا يساوي بين فقدان الجندي الذي أعطته الحكومة والمجتمع حقّ الدفاع عن مكتسبات البلاد وأعراض الناس وبين المقتول المجرم الذي كان يريد اقتحام بيوت الناس وإهلاك الحرث والنسل.
ثم يتحدث عن "إننا شركاء في الوطن" ويضيف: "إن غرس الكراهية باسم الديانة أو باسم الوطنية لا يثمر إلا الأحقاد"، هنا يساوي بين من يدعو إلى الانتماء للوطن وبين من يدعو إلى الانتماء للإسلام السياسي، ثم ينتقد: "رياح التكفير والتخوين".

ولأن قيمة الموازنة بين الطرح القديم والجديد تفسّر وتوضّح، فإن هذه الرؤية بالمقالة نتيجة لمقدّمة طرحها في محاضرةٍ له ألقاها في أوائل التسعينات بعنوان: "أخي رجل الأمن" وجاء في عناصرها: "الطاعة العمياء في كل شيء" و"الاستغناء من الغرب"، وفي العنصر الأول يقول مناصحاً رجل الأمن بما نصّه:" الطاعة العمياء في كل شيء، هذا غير جائز بالنسبة للبشر، بل ربما يقول بعضهم (نفذ ثم اعترض) بمعنى: قم بالعمل الموكول إليك واعترض بعد ذلك، الطاعة المطلقة لله تعالى وللرسول صلى الله عليه وسلم، أما طاعة البشر كل البشر فهي محكومة بالشرع".

يضيف حول طاعة رجل الأمن لرئسيه :"إن الذين قتلوا المواطنين وواجهوهم، قتلوهم طاعة لبشر، فهل يجوز لك أخي أن تحقن دمك لتقتل أخاك المسلم؟! والذين نـزلوا للشوارع بأسلحتهم، نـزلوا إرهاباً لمواطنيهم وأقاربهم وجيرانهم، نـزلوا لطاعة بشر، فهل يجيز الشرع لأحد أن يرهب أمه وأباه، وأخته وأخاه، وجاره وزميله في غير طائل، ولغير هدف واضح معروف؟!".

المسافة بين هذه المقدمة النظرية حول رجل الأمن والنتيجة الواقعية لها في أحداث شرورة قرابة العشرين عاماً، وهي منهجياً منتظمةً ضمن إطار عدم جواز طاعة رجل الأمن لرئيسه في كل شيء! حتى وإن كان رجل الأمن يقتل مجرماً أو إرهابياً لأنه من وطنه! هذه الرؤية تنقض مفهوم "الأمن" من أساسه، ذلك أن رجل الأمن جزء من مفهوم وتكوّن أضلاع الدولة، ولأن الدولة "وحدها تحتكر العنف" ووحدها من يعطي الحق لرجل الأمن بحمل السلاح –كما يعبّر الفيلسوف الألماني ماكس فيبر- فإنه هنا ينقض كلياً أبسط مفهوم مؤسس لأضلاع الدولة.

هذه الرؤية هي التي بنى عليها الداعية مقالته عن أحداث شرورة وبنى عليها الكثير مما يتعلق بمصائر ورؤى الدولة لتحصين أمنها القومي ضد القوى الداعشية الغازية، وخلايا الإخوان، وألوية القاعدة. ولو دمجتَ بين محاضرة "أخي رجل الأمن" وبين مقاله "عن أحداث شرورة" لن تجد كبير مسافةٍ بالأسلوب أو الرؤية أو الفكر الذي ينتهجه والمستوى السياسي والحركي الذي يختاره، يفترق عن مساره العام بالمستوى والدرجة تبعاً للظروف التي تسود والمصالح بطبيعة الحال.

هؤلاء الحركيون منذ ثلاثين عاماً ليس مستغرباً أن تكون لهم مواقفهم المخاتلة تجاه ما يمسّ الوطن والكيان، وأن يتخذوا موقفاً يحاولون من خلاله استفزاز السياسي أو معاندته، ويظنّون أن الأرقام التي تتابعهم على مواقع التواصل الاجتماعي ستضيف لهم رصيداً على أرض الواقع.

من ألقى "صانعوا الخيام" حول أخطار التنصير الواهمة، ومن ألقى "رسالة من وراء القضبان"، و"أخي رجل الأمن"، هو من كتب مقالة شرورة، وهو صاحب محاضرة "صناعة الموت" والتي استقاها من مقالةٍ لحسن البنا حملت نفس العنوان، وفي هذه المحاضرة هو من خصّص فقرةً فيها أسمها: "السيف هو الحل" وفيها قال: " إن أبشع لقب يمكن أن يُطلق على المسلم اليوم أنه إرهابي، أو أنه ممن يستخدمون العنف أو التحريض، وهذه الألفاظ كلها ألفاظٌ شرعية".

هذه القراءة المنسجمة مع كل ما هو مطروح تبيّن المقدمات والنتائج، النظرية والتطبيق، المواجهة والمراوغة، وهذه الأطروحات قديمةً كانت أو جديدة لا تفقد قائلها المسؤولية المنهجية عنها، بل على العكس كل الطروحات القديمة تتواءم بشكلٍ كلي مع الأطروحات الحالية، من "حيّ على الجهاد" إلى "صناعة الموت"، والموقف من رجل الأمن أو حدث شرورة امتداد لطرحه الكارثي القديم.
font change