التجربة السياسية العربية .. من شعار الثورة إلى غول الجمهورية

التجربة السياسية العربية .. من شعار الثورة إلى غول الجمهورية

[caption id="attachment_55252027" align="aligncenter" width="620"]الملك محمد ادريس السنوسي الملك محمد ادريس السنوسي[/caption]

نشأتُ في دولة ملكيّة، وكانت لي بمثابة الأم الرؤوم بالرّغم من أنّي قد وُلدت قبلها بقليل، فحاولت أن تغدق عليّ العطف والحنان بكلّ إمكانياتها المتاحة.
بدءًا بتربيتي على فكرة الولاء للوطن المتجسّد من خلال تطابقه مع الدولة الوطنيّة. وكنا أطفالاً نحفظ الأناشيد الوطنيّة ونرددها كلّ صباح، ونقف في خشوع لتحيّة العلم. ولكن ما إن وصلنا إلى سنّ المراهقة وبدأنا ككلّ المراهقين تجربة التّمرد على الأب وقتله رمزيًّا، حتّى برزت الأفكار القوميّة من بعثيّة وناصريّة تحرّضنا على قتل الأب فعليًّا، فاستجبنا لها؛ وقمنا بقتل الأب من لحم ودم ممثلاً برأس الدولة.

كانت أيدينا ملطخة بالدّماء فرسمنا بالنّجيع دولة الجمهوريّة، وفي غمرة فرحتنا بمخلوقنا الجديد كفرنا بالوطن المتعين داخل حدود الدولة “القُطرية” وآمنّا بوطن هيوليّ لا وجود له إلاَّ داخل رؤوسنا الصغيرة المغرّر بها.

ربّما كان من سمات المَلَكيّة خلط فكرة خفض جناح الذّل من الرحمة لمواطنيها بفكرة خفض جناح الذّل من الوهن في محاسبتهم.
أذكر أنّني في إحدى المظاهرات المناوئة للنظام الملكي قمت بقراءة منشور يحرِّض على إسقاط الملكيّة لا أعرف من كتبه ولا أهداف من وزّعوه، وكانت النتيجة أنّني اعتقلت وفهمت من وكيل النيابة الّذي حقّق معي، وكان سوري الجنسيّة، أنّ تهمتي تستوجب عقوبة لا تقلّ عن خمس سنوات سجن، ولكن لم أُمضِ مع رفاقي أكثر من شهر ونصف في السجن حتّى تمّ العفو عنّا بأمر ملكي.



الصنم الجمهوري





أسقطنا الملكيّة ولم تدم فرحتنا بذلك الصنم الجمهوري الّذي اجترحناه في خيالنا، ثمّ نحتناه بأيدينا قبل أن يتحوّل لاحقاً إلى غول يسعى إلى التهامنا، فبعضنا مات برفسة من قدميه وبعضنا ذاب في لعاب شدقيه، وكنت أنا وبعض الآخرين فرحين بنجاتنا في بؤس المنافي.

حاولنا قتل ذلك الغول تكفيرًا عن خطايانا الّتي اقترفناها بقتل الأب، ولكننا لم نفلح لأنّ الغول قد استحوذ على كلّ التركة وأنجب أنغالاً من زنا المحارم لا يقلون همجيّة وغلظة عنه.
ومضت السنون وانتظمت عقودًا متتالية، ورجعنا إلى خرائب الوطن عندما تظاهر الغول بالأناسة، وحاولنا أن نرمم ما اشتركنا في تخريبه باستحداث نظامٍ ملكيٍّ من نوع جديد مدججين بالواقعيّة المحفوفة بالخيبات، ولكن فجأة سقط الغول ميّتًا مُتسمّمًا من كميّة الجثث الّتي ازدردها طوال العقود السّابقة.

بعد موته حاول أبناؤنا أن يستغفروا لنا خطايانا بإرجاع العلم المَلَكي والنشيد الوطني، ولكنّهم ما كانوا يعرفون غير طقوس ذلك الوثن الّذي تَرَبّوْا ودَرسُوا وترعرعوا في كنف حكمه فلم يستطيعوا أن يتجاوزوا ثقافته. وأراهم اليوم يُعيدون الكرّة لاستنساخ غول جديد.

كان النّظام المَلَكي قد شُيّد في ليبيا على وطن متهالك دمرته الحروب، وكان يعتبر أفقر بلد في العالم وأشدّها بؤساً: فقد كان مترعًا بالجوع والجهل والأوبئة، وكان سكانه لا يعرفون أّي مؤسسة أو أيّ نوع من التنظيم المدني؛ فقد كنّا مجموعة من القبائل متناحرة يغزو بعضها بعضًا وتعيش على الثأر الأبدي.

كان تاريخنا يكتبه الغزاة، ولهذا السبب ثمّة عداوة بين البحر والليبيين: فهم يقلُّون من أكل الأسماك، وقلّما يذهبون إلى السباحة في مياهه؛ إذ من هذا البحر كانت تأتيهم مراكب الغزاة وشذاذ الآفاق فتزيد فقرهم إدقاعًا وجوعهم سغبًا وأوبئتهم فتكًا.

كانت الأمم المتّحدة تتوجس من أن هذه الدولة الّتي منحت الاستقلال قد تتردى في الفشل لأنّها لم تكن تملك غير مؤهلات الفشل.

وكان الرهان على قيام هذه الدولة يبدو خاسرًا منذ البداية، ولكن حدثت المعجزة ، وانضوت القبائل تحت راية الملك، وشمّر خيرة رجالها عن سواعدهم وقَبلوا التّحدي وبَدَأُوا في بناء الدولة.

كانت ميزانيّة الدولة تعتمد على المنح والمساعدات وريع تأجير القواعد العسكريّة لبريطانيا وأمريكا والقليل من الضرائب والمكوس. وقد وظّف الآباء المؤسسون معظم هذه الإمكانيات المتواضعة للتنمية البشريّة في التعليم والصحة.

بعد عشر سنوات من الاستقلال أبرزت تقارير الأمم المتّحدة أنّنا تفوقنا على أهمّ الدول العربيّة الغنيّة في مجالي التعليم والصحّة، ثمّ بدأت تباشير اكتشاف النفط اللّعين تتبدى في الأفق فبرزت معها الأطماع الأجنبية. والأخطر من كلّ ذلك أن النفط أرجعنا إلى سفالة الغريزة القبليّة في الاستيلاء على الغنيمة ولكن بدون تكاليف الغزو المسلّح.

وكانت الغزوة الكبرى بتاريخ 1سبتمبر 1969 والّتي معها فقدنا كلّ شيء: فقدنا هامش الحريّة القليل الّذي كنّا نتمتّع به، وتحوّل التعليم من الكيف إلى الكمّ، وتغيّر سلوك النّاس من العمل إلى الاستجداء، وانهارت المنظومة الصحيّة فأصبحنا نتنقّل بمرضانا عبر قارّات العالم.

وأُممت الممتلكات، وصودرت الأموال ليس بموجب الحاجة وإنّما بدافع الحقد، وأهدرت الأموال العامّة في مشاريع فرعونيّة كان القصد منها التهويل الدعائي لمنجزات القائد الفذّ. وبدأ الفساد يستشري من خلال القائمين على القطاع العام، والمتحكمين بمقدرات الشعب، والقيِّمين على استيراد حاجياته من الغذاء والملبس والمركوب. وأصبح الشعب بكامله يمدّ يده للدولة كموظفين في تكية البطالة المقنّعة. والقائمة تطول في تعداد ما أنجزته تلك الغزوة الهمجيّة من مهالك.


[caption id="attachment_55252028" align="alignleft" width="237"]ياسر عرفات ومعمر القذافي ياسر عرفات ومعمر القذافي[/caption]


ثمّ توفّرت بعد أربعة عقود كافة الشروط الذاتيّة والموضوعيّة للشعب لكي ينهي هذا المسلسل العبثيّ في يوم 17 فبراير 2011. وكان السبب الرئيسي لهذه الثورة سببًا اقتصاديًّا بامتياز: فالشباب كانوا عاطلين عن العمل، والتنمية أضحت بحكم المستحيلة، والأموال العامة تنهب على مرأى ومسمع من النّاس.

كان أوّل فعل رمزي قام به الشباب هو إرجاع العلم والنشيد الملكي ثمّ بدأت المطالبة بإرجاع دستور المملكة، ولكنّ الغريب في كلّ ذلك أنّهم لم يطالبوا بإرجاع المَلَكيّة، وهنا يبرز السؤال : لماذا يرجَعُ كلّ ما هو ملكي إلاَّ المؤسسة المَلَكيّة؟

إذا كان الشعب الليبي قد توافق جماهير ونُخبًا على أنّ انقلاب القذّافي كان غير شرعيٍّ، وأنّ إسقاطه للمَلَكية كان اغتصابًا للسلّطة، وأنّ هذه الثورة تطمح لإعادة الشرعيّة وللقطيعة مع النظام السابق، فلماذا لم تُطرَح إعادة المَلَكيّة؟


إنّ السبب فيما يبدو هو أنّ نظام القذّافي قد ربَّى كلّ هذه الأجيال المتعاقبة على امتداد أربعة عقود على كُره المَلَكيّة، واعتبارها عميلة ورجعيّة وفاسدة، ولم يكن بالإمكان في نظام مغلق التعبير عمّا يخالف ذلك. فهذه الأجيال قد درست في مدارس وجامعات القذّافي، ولم ترَ غير القنوات التلفزيونيّة للنظام، ولم تسمع غير إذاعاته، ولم تقرأ غير الكتب الّتي تتماشى مع أفكاره؛ لذلك ترى الليبيين يكيلون كلّ الشتائم لنظام القذّافي ويصفونه بكلّ النعوت السيئة، ولكنّهم لا يعلمون أنّهم متمسكون بثقافته المعادية للمؤسسة المَلَكيّة. إنّهم لم يعرفوا شيئًا غير هذه الثقافة مثل شعوب الاتحاد السوفياتي عندما ثارت على الشيوعيّة ووجدت نفسها تتغنّى بأناشيدها الحماسية لأنّها لم تتعلّم غير ذلك.

مجمل القول أنّ المَلَكيّة لن ترجع في ليبيا، وأنّ سلوك التسوّل والاستجداء بدل العمل والإنتاج سوف يستمر، وأنّ ثقافة الفساد باستحلال أموال الدولة سوف تتواصل، أيّ باختصار شديد أن القذّافي قد مات وشبع موتًا ولكنّه سيظلّ يحكم المجتمع الليبي من قبره عبر ثقافته الّتي تجذّرت في نفسيات المواطنين.

إنّ الليبيين اليوم يعيشون في تفكك مجتمعي وأخلاقي لم يكن وليد ما حدث أخيرًا، بل هو نتيجة تداعيات لما حصل وتراكم خلال العقود الماضية.
لم يعد في ليبيا اليوم أي شيء يمكن البناء عليه، حتّى القبيلة ما عادت تحظى بالنفوذ الّذي كان لها عبر التاريخ في هذا البلد، وإنّ المؤسسات الّتي حاول النظام المَلكي إرساء تقاليدها قد دُمرت بالحكم والتحكم الفردي، وفكرة الوطن أضحت غائمة بسبب التجاذبات الإقليميّة والمناطقيّة. أمّا إقامة الدولة فهي شبح أصبح يرعب الكثيرين، ولذلك التقت إرادات أكثر الفاعلين السياسيين والمسلحين، سواء كانوا من بقايا النظام السابق أو من الثورجيين الجدد، أو من عصابات الجريمة المنظمة، على عدم السماح للدولة بالتأسس، لأنّهم جميعًا أجرموا في حقّ شعبهم، وقيام الدولة تستتبعه محاسبتهم عمّا اقترفوه من جرائم في حقّ هذا الوطن.

لذلك فليبيا اليوم مفتوحة على كلّ السيناريوهات الكارثيّة من انقسام أو إلحاق أو ضمّ إلى دول الجوار ، أو حرب بين الغرب والتنظيمات الإرهابيّة الّتي عشّشت في البلد، وهي حرب مرشحة للاستمرار لعقود قادمة.



[blockquote]إنّ من لهم الكلمة العليا في ليبيا اليوم هم أسوأ مكونات هذا الشعب، فبعضهم جاء من كهوف أفغانستان كالجماعة الليبية المقاتلة والتنظيمات المتشددة كالقاعدة وجماعة أنصار الشريعة. وبعضهم جاء من أوكار التآمر كحركة الإخوان المسلمين، والبعض الآخر أتى من مواخير الغرب وشبكات التجسس العالمية. وفئته تنتمي إلى تجار النضال ويملأها الحقد نتيجة بقائها فترة طويلة في سجون النظام، ثمّ انضمّ إلى ذلك الحشد مجرمو النظام السّابق الّذين يخشون المحاسبة، وكذلك المجرمون العتاة الّذين أطلق القذّافي سراحهم في الأيّام الأولى للثورة، ويقدّر عددهم بعشرات الآلاف.[/blockquote]



كلّ هؤلاء لا مصلحة لهم في إقامة الدولة، بل إنّ وجود الدولة يتنافى مع وجودهم سواء أكانوا مدججين بأسلحتهم أم بعقائدهم الإقصائية.
مجمل القول أنّنا قد قرّرنا إنهاء الدولة، ووضع الوطن في درب المخاطر منذ اليوم الّذي أسقطنا فيه نظامنا المَلَكي.

إنّ حنيني إلى الملكيّة المغدورة لا يختلف عن حنين بعض الرومانسيين إلى استرداد غرناطة. إنّه بكاء على الحليب المسكوب.
ورغم ذلك لن أقيم سرادق للعزاء، ولن أتقبّل أيّ نوع من المواساة، ليس من باب الرفض الشّديد لفكرة الموت رفضًا يعتبر مرضيًّا وقد يقود إلى الجنون، وإنّما لإحساسي بأنّه لم يعدْ في العمر بقيّة حتّى أهدره في الحسرة والأسى، وإنّ ما تبقى منه سوف أنفقه في مديح الاستقرار المشرئب إلى المستقبل، وفي نصح الشباب الّذي لا زالت تحكمه الملكيّات بالمحافظة عليها وإعانتها في الإصلاح من خلال التنميّة المستدامة وأخذ العبرة والاعتبار من شعوبنا الّتي أضاعت ملكيّاتها فضاع مستقبلها وتشظَّت أوطانها.. إنّها عبرة لمن يعتبر.



تجارب ناجحة مستقرة





كانت الدول العربية بعد الاستقلالات كلّها تحكم من أنظمة مَلَكيّة، وكانت الأسر الحاكمة أسرًا متوافقا عليها بسبب قيامها بتوحيد القبائل كما في ليبيا والسعوديّة، أو لأنّها كانت الضامن الوحيد لعدم تشظّي اللحمة الوطنية بسبب الخلافات الإثنية والعرقيّة كما هو الحال في العراق أو لأنّها كانت امتدادا لشرعيّة تاريخيّة ضاربة الجذور كما في مصر والسودان تحت مظلّة الملكيّة الّتي أنشأها محمد علي الكبير أدنى، أو في المغرب وأسرته العلويّة أو باي تونس سليل الأسرة الحسينية أو ملكيّة اليمن الّتي بقيت محصنة بأسوار العصر الوسيط بحيث لم يستطع أحد اختراقها حتّى من الدول الاستعماريّة الأكثر سطوة.
وتشذّ عن هذه القاعدة بلدان عربيان هما لبنان الذي اختير له نظام جمهوريّ يشبه الملكيّة إلّا أنّها ملكيّة محصورة في الطائفة المارونية، ولم تكن محصورة في أسرة بعينها، أو نظام الجزائر الّذي استقلّ متأخرا في سنة 1962 عندما كان الوطن العربي قد أسقط أغلب الملكيّات الحاكمة. والبلد الثّاني هو سوريا الّتي فرضت عليها الجمهوريّة في ظلّ الاحتلال الفرنسي.
كان لكلمة الجمهوريّة في الخمسينات والستينات من القرن المنصرم وقع سحري باعتبار أنّ هذا النظام السّياسيّ عنوان للتقدم والحداثة. ولكن بعد انقضاء القرن العشرين الّذي شهد قيام كلّ هذه الملكيّات و سقوط أغلبها، وبعد هذه الفوضى العربية الّتي نشاهدها اليوم وجب علينا التوقف والتأمل في هذا المسار التاريخي لهذه الدول والشعوب وتقييم أداء كافة أشكال الأنظمة الّتي هيمنت على المسرح السياسي العربي.



التصفيق للجمهوريات





في الخمسينات والستينات من القرن المنصرم كنّا نصف الملكيات بكلّ النعوت الهجائية المتوفرة في القاموس السياسي، وكنّا نكيل المدح للجمهوريات الّتي تأسست على أنقاضها بفعل الانقلابات العسكريّة أو غيرها. وكنّا نصفق في كلّ مرّة تسقط فيها ملكيّة وتؤسس على أنقاضها جمهوريّة عسكريّة. وما كنّا نلتفت إلى الاجراءات الاستثنائية الظالمة الّتي أصابت شرائح اجتماعية وثقافية عريضة بحجّة حماية الثّورة، وكنّا نَصِفُ بالرجعيّة كلّ من يطرح أسئلة حول شرعيّة ما يحدث أو يبدو عليه امتعاض ممّا يجري.
كنّا نعتبر قيام الجمهوريّة وسقوط الملكيّة غاية في حدّ ذاته، وكنّا نعتبر أنّ الولوج للحداثة والرفاهيّة والتنمية مقرون بالنظام الجمهوري، ونعتبر النظام الملكي نفيا لكلّ القيم الانسانية.
كما كنّا لا نتساءل عن طبيعة ما يقوم به هؤلاء الانقلابييون من الناحية الشرعية الدستورية أو من الناحية الأخلاقية الّتي تتمثّل في الحنث بالقسم بالحفاظ على النظام والدستور. كانت الغوغائية المؤدلجة قد أعمتنا على أن نرى الأشياء كما هي. كنّا نرى العالم كما نبتغيه أن يكون.
وكانت لدى الانقلابيين وصفة سحريّة لتخدير الجماهير حتّى يتمكنوا من سرقة السلطة لمصلحتهم و يمكنهم من خلالها التّحكم في مقدرات النّاس وأقدارهم.


[caption id="attachment_55252029" align="alignright" width="150"]الملك فاروق الملك فاروق [/caption]


هذه الوصفة تتمثّل في العداء لأمريكا والغرب، و تحرير فلسطين من اليهود، وتأميم أملاك الميسورين باسم الاشتراكية ورفع شعار الحريّة لكلّ الشعب و تتفيه الدولة القُطرية برفع شعار الوحدة العربية الشاملة.
ثمّ تتالت السنون والعقود كما توالت الانقلابات على الانقلابات، وفي كلّ مرّة يدغدغون مشاعرنا ويركبون رغائبنا الجامحة و يسمّون مؤامراتهم و دسائسهم باسم الثورة أو الثورة التصحيحيّة.
وكانت المحصّلة من قيام الجمهوريات الثورجيّة أن تحقّقت شعاراتها بشكل معكوس. فعندما رفعوا شعار الحريّة للشعب، ولا حريّة لأعداء الشعب، وجد الشعب نفسه في سجن كبيرٍ، وأصبحت الحريّة حكرا على الحكام الجدد الّذين اختزلوا الشعب في أشخاصهم. وعندما رفعوا شعار تحرير فلسطين من النهر إلى البحر مات أفضل هؤلاء الانقلابيين وجزء من أرض مصر محتلا كما لم يحدث من آلاف السنين. وعندما نادوا بشعار الوحدة الشاملة في ازدراء واضح للدولة الوطنيّة أصبحنا نحلم بالدولة القُطرية الموحّدة. وعندما أعلنوا الاشتراكية ما كان من اجراءاتهم إلاّ توزيع الفقر على الجميع، وتقلّصت الطبقة الوسطى إلى حدّ الانقراض. وتزايد عدد السّكان على شكل متولية هندسية كقنابل ديمغرافية سوف تفجر أي خطة تنموية في المستقبل.
وعندما أبلسوا أمريكا والغرب لعقود واعتبروها الشرّ المحض، وقفوا في آخر أيّامهم يتسوّلون على أبوابها سياسة واقتصادا.
هذا ما كان من صانعي الجمهوريّات الانقلابية، ولكن ماذا حدث في الدول العربية الأخرى الّتي حافظت على أنظمتها المَلَكيّة و كتبنا فيها كلّ معلّقات الشّناء.

إنّها في أغلبها تنعم بالاستقرار والأمن وكثير منها اعتمد التنميّة المستدامة طريقا للخروج من مجتمعات الفقر إلى مجتمعات الوفرة. وحتّى إذا قال قائل إنّ بعضها يعاني من مشكلات اقتصاديّة وهذا صحيح إلاّ أنّها استطاعت أن تحمي شعبها من القتل و التهجير ومدنها من الدّمار و لُحمتها الوطنيّة من التفسّخ، وهذا في حدّ ذاته إنجاز عجزت عنه الجمهوريات العسكرية.
لماذا حدث كلّ هذا للشعوب الّتي أضاعت ملوكها؟ ولماذا حدث كلّ ذلك للشعوب الّتي حافظت عليهم؟



طبيعة المجتمعات العربية





إنّ المجتمعات العربية هي مجتمعات قبليّة وطائفيّة في أغلبها، وفي أحسن الأحوال لها انقسامات جهويّة و إثنيّة، والسمة الغالبة لهذه المجتمعات هي السمة الأبوية.
هذه المجتمعات البدائية الّتي استحالت شعوبا ما كان يمكنها أن تنسجم في دولة واحدة إلاّ بطريقتين؛ إمّا أن تحكمها أسرة مالكة متوافق عليها ومنظور إليها على أنّها فوق المشاحنات والعداوات المجتمعيّة، وإمّا أن تُحكم بالتسلّط والدكتاتوريّة والقهر لتجميد هذه الصراعات دون تجاوزها بإرساء قواعد المواطنة كما حدث في الجمهوريّات الثورجيّة. وحتّى عندما حاولت هذه الأنظمة الدكتاتورية أن تخفف من القمع وتستحدث ظروفا أكثر إنسانيّة في مجتمعاتها اضطرّت إلى استدعاء الملكيّة من جديد فاستحال بعضها إلى جمهوريّات وراثية ولكن دون التوافق الّذي حظيت به الممالك الّتي انقلبوا عليها فباءت بالفشل.
ولنا في نظام عائلة الأسد المثل الأكثر وضوحا وفي محاولات القذّافي الّذي أصبح في آخر أيّامه ملك الملوك وعبد الله صالح وحتّى زين العابدين بن علي الّذي كان يخطط لتوريث ابنه الصغير من خلال فترة انتقاليّة تشغلها السيّدة الأولى.

قد يعترض أحدهم بالقول أنّ الأنظمة الملَكيّة نالت هذا القسط من الاستقرار بسبب ثروتها الريعيّة الكبيرة، ويمكن الردّ عليه بأنّ الثروة الريعيّة كانت عنصرا متوفرا حتّى في العراق و ليبيا والجزائر.
وقد يقول قائل إن تجربة الملكيّة المستقرّة هي ظاهرة خليجيّة بامتياز، ولكن واقع الحال يقول بغير ذلك فإنّ الأردن ليست دولة خليجيّة، وكذلك المغرب القابع على ضفاف الأطلس هو الأكثر بُعدًا عن الخليج من الناحية الجغرافيّة.
ثمّ قد يلوم البعض على أنّني لم أذكر تجربة جمهوريّة حالفها نوع من النجاح وهي الجمهوريّة التونسيّة الّتي حقّقت كثيرا بفضل تبنيها الحكم الرشيد في العهد البورقيبي الأوّل، وهذا صحيح، ولكنّ لو كان بورقيبة قد ترك "الباي" بصلاحيات دستوريّة رمزيّة لما وصل بورقيبة إلى الخرف على كرسي الحكم ولاستطاع الباي إحلال أحد الزعماء البورقيبيين الشباب محلّه، ولم يسرق السلطة مغامر من جهاز الاستخبارات الّذي أطلق يد أصهاره وأقربائه فعاثوا في تونس الفساد.
بعد هذا الحصاد المرّ لتجربة الأنظمة الجمهوريّة في الحكم فإنّ ما تحتاجه الشعوب العربيّة هو الحكم الأبوي المتمثّل في المَلَكِيّة. فإنّ الأنظمة المَلَكيّة كمالك العقار يتعهده بالعناية والصيانة لأنّه لا يريد أن يترك لورثته عقّارًا آيلاً للسقوط، ولكنّ رؤساء الجمهوريات العربية يتصرفون كمستأجر لشُقة مفروشة لا يهمّه غير استغلالها إلى الحدّ الأقصى وقد يقوم بتخريبها نكاية في المؤجر وهو الشعب.
إذا استطاعت الأنظمة الملكيّة الباقية في الوطن العربي تحقيق التنمية المستدامة وإذابة كافة الصراعات المجتمعيّة من إثنيّة وطائفيّة وقَبليّة في البوتقة الوطنيّة، وضمان المشاركة التدريجيّة للشعب في اتّخاذ القرار و تحويل مجتمعاتها من الارتكاسات الأهليّة إلى الانفتاح المدني، فإنّها ستبقى أنسب الصيغ السياسية للحكم في هذه المنطقة.




font change