
مع تنامي احتمالات استمرار اردوغان في السلطة لعشرة أعوام مقبلة، حيث يمنحه الدستور الحالي الحق في مدتين رئاسيتين متتابعتين كل منهما خمس سنوات، وتفاقم إصرار الرئيس الجديد على توسيع صلاحياته، سواء من خلال تفعيل ما هو منصوص عليه منها في الدستور، أو عبر السعي لتشريع المزيد منها بموجب تعديل دستوري يعقب حصد حزب العدالة لغالبية المقاعد في الانتخابات البرلمانية المزمع إجراؤها الصيف المقبل.
دواعي المراجعة
بينما كان مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية أكمل الدين إحسان أوغلو يؤكد أن تركيا تحتاج إلى مرشح يحمل لها فرص تحسين علاقاتها المرتبكة مع العالم الخارجي، والتي تتحمل حكومة العدالة والتنمية جزءا كبيرا من مسؤولية توتير بعضها أو انقطاع بعض آخر، برز عقب فوز إردوغان بتلك الانتخابات تيار من المفكرين والساسة الأتراك يتحدث عما يسمى «تصحيح مسار» السياسة الخارجية التركية، بعد التغييرات والتطورات العديدة التي اعترت المنطقة أخيرا، والتي تمخضت بدورها عن نزيف متواصل من الخسائر التركية على جميع الصعد، خاصة مع استمرار التداعيات السلبية للحراك الثوري العربي.
وثمة عوامل متنوعة تحتم على إردوغان تغيير سياسة بلاده الإقليمية حيال دول المنطقة خلال المرحلة المقبلة، من أهمها:
طموحات الدور: لم يخف إردوغان تطلعاته إلى أن يغدو «الأب الثاني» أو «المؤسس الثاني» لتركيا الحديثة بعد مؤسس الجمهورية العلمانية التركية، مصطفى كمال أتاتورك، وذلك من خلال تغيير وجه تركيا مرتكنا على ما يعتبره نداءات أخلاقية وتكليفات إلهية على شاكلة ما بدا جليا في حديثه عن «رسالته التاريخية» وتنفيذه «مشيئة الله».
وفي خطوة لا تخلو من مغزى، قام إردوغان فور تأكده من الفوز بالرئاسة بالتوجه إلى مسجد «أبو سلطان» الذي أقيم بجوار ضريح الصحابي أبو أيوب الأنصاري، للصلاة قبل مغادرته إلى أنقرة، وهو مسجد أقيم تكريما للأنصاري عندما توفي خلال إحدى محاولات المسلمين الأوائل لفتح القسطنطينية ودفن عند أحد أسوارها، ثم اعتاد السلاطين العثمانيون الذهاب إليه للصلاة قبل تتويجهم حيث يتسلمون سيف الخلافة. وفي خطاب النصر، عبر إردوغان عن رغبته في أن تكون أول انتخابات رئاسية في تركيا بواسطة الاقتراع المباشر وسيلة خير لتركيا وللدول الشقيقة والصديقة. وأكد إردوغان أن النصر الذي حققه يعتبر نصرا لكل الشعب التركي، ولشعوب المنطقة، لا سيما شعوب فلسطين وسوريا والعراق، وتعهد بأن تلعب بلاده في هذه المرحلة الجديدة دورا أكبر على الصعيد الخارجي.
تحديات إقليمية: جاء فوز إردوغان بالرئاسة وسط ظروف دولية وإقليمية معقدة ألقت بظلالها السلبية على السياسة الخارجية لأنقرة. فمن فشل حكومة العدالة في تحقيق تقدم يذكر على صعيد الإطاحة بالرئيس السوري، بشار الأسد، بعد أكثر من ثلاث سنوات من الثورة التي دعمتها أنقرة بكل السبل، مرورا بخسارتها حليفا أساسيا في مصر بعد الإطاحة بجماعة الإخوان المسلمين من الحكم، ثم ظهور خطر «داعش» في العراق وسوريا المجاورتين لتركيا وإعلانه دولة الخلافة الممتدة من الموصل إلى أطراف حلب، وصولا إلى ما عكسته الأشهر القليلة الماضية من انفصال واضح للسياسة الخارجية التركية عن أحد أبرز أسسها النظرية، وهو المتمثل في مبدأ «تصفير المشكلات». هذا علاوة على تنامي تكهنات بانتقال مركز الاستراتيجية الأميركية من العالم العربي وشرق المتوسط إلى شرق آسيا، وإعادة هندسة منطقة الشرق الأوسط جيواستراتيجيا على أسس إثنية وطائفية وفقا لما يعرف باتفاقية «سايكس بيكو 2» التي ترمى إلى تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ حسبما تم في اتفاقية «سايكس بيكو 1» في عام 1916. الأمر الذي يستوجب مراجعة شاملة للسياسة الخارجية التركية.
وانطلاقا مما سبق، هرعت حكومة «العدالة والتنمية» للهرولة صوب حلفائها بدول الجوار العربي كإيران وإسرائيل وكردستان العراق، متوخية مقاصد شتى لعل أهمها: تعويض التدهور الحاصل في علاقاتها مع عدد من الدول العربية، التي كانت علاقات أنقرة بها قد شهدت تقاربا لافتا قبيل الطوفان الثوري العربي كسوريا ومصر، فضلا عن تقوية مركز تركيا الإقليمي في أجواء إقليمية ودولية مضطربة.
استمرار التوتر مع مصر
يبدو أن التأثير السلبي لتدهور علاقات بلاده مع القاهرة والذي بلغ حد تخفيض مستوى التمثيل الدبلوماسي بينهما، بعد ما أظهرته حكومته من مواقف مستفزة حيال ما شهدته مصر يوم الثالث من يوليو (تموز) 2013، لم يحمل رئيس الوزراء التركي رجب طيب إردوغان على التوقف عن الهجوم على مصر وخارطة المستقبل، حيث أعلن إبان الزيارة المثيرة من قبل المشير السيسي لموسكو في شهر فبراير (شباط) الماضي، والتي أيد الرئيس الروسي ترشح السيسي لرئاسة مصر خلالها، أنه لن يعترف بالمشير السيسي أو بأي شخص آخر في حال انتخابه رئيسا لمصر ولو جاء بانتخابات تعددية تنافسية نزيهة.
ويرى إردوغان أن الرئيس الشرعي لمصر، من وجهة نظره، هو الرئيس المنتخب محمد مرسي، الذي حصل على 52 في المائة من الأصوات في أول انتخابات رئاسية ديمقراطية شهدتها مصر، وأن الشعب المصري وحده هو الذي يحق له إسقاطه بالوسائل الديمقراطية وليس الجيش. وشدد إردوغان على أنه لا يمكن القبول أو الاعتراف بنظام جاء إثر انقلاب عسكري، مضيفا أن أي انتخابات ستشهدها مصر ستكون موضع تساؤل، موضحا أن تركيا عرفت العديد من الانقلابات العسكرية، التي حصل منفذوها على نسبة عالية من الأصوات حينما خاضوا الانتخابات التي أجريت في عقبها، غير أن أجواء الخوف والقمع التي خيمت على مثل هذه الانتخابات قد نالت من نزاهتها، وهو ما قد يحدث في مصر.
[caption id="attachment_55252065" align="alignleft" width="300"]

وفي السياق ذاته، وبينما لم تظهر مؤشرات مؤكدة على توقف الدعم التركي الرسمي لحملات جماعة الإخوان المسلمين حول العالم من أجل تحريض المجتمع الدولي ضد مصر وخارطة الطريق، كشفت الحكومة المصرية أن تركيا عرضت على إثيوبيا مساعدتها في بناء سد النهضة، الذي سيؤثر سلبا على حصة مصر من مياه نهر النيل. فقد أكد وزير الموارد المائية والري المصري السابق محمد عبد المطلب أن وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو قد زار إثيوبيا وعرض عليها «الخبرة التركية» في بناء سد النهضة الذي يثير أزمة بين أديس أبابا والقاهرة. وفي حين لم يصدر عن الحكومة التركية ما يبدد الادعاءات المصرية في هذا الصدد، عمدت أديس أبابا إلى تأكيد تلقيها العرض التركي خلال زيارة أوغلو لإثيوبيا في شهر يناير (كانون الثاني) الماضي، والتي وصفتها الدوائر الرسمية الإثيوبية بأنها كانت مهمة وإيجابية، وأن إثيوبيا تتطلع إلى الاستفادة من خبرات تركيا في كل المجالات بما فيها الري وبناء السدود، كما تعتبر تركيا إحدى أهم الدول الشريكة لإثيوبيا في عملية التنمية.
ولم تكن مصر بعيدة عن الانتخابات الرئاسية التركية الأخيرة، إذ انصبت غالبية الانتقادات الموجهة ضد مرشح المعارضة أكمل الدين إحسان أوغلو بالأساس على عدم إبدائه - خلال توليه أمانة منظمة التعاون الإسلامي - مواقف واضحة ضد تدخل المؤسسة العسكرية في مصر للإطاحة بالرئيس محمد مرسي باعتباره انقلابا متكامل الأركان وفقا لرؤية الحكومة التركية، ونشأته وقضائه فترة كبيرة من عمره خارج تركيا حيث ولد وعاش في مصر حتى بلغ الثلاثين من عمره تقريبا. ومن ثم بدأ أنصار الحزب الحاكم في تصوير أكمل الدين باعتباره مرشح مصر في تركيا (وهو ما يسقط عليه كل أشكال الهجوم والتأطير السلبي التي تبرزها القيادات التركية ضد النظام المصري الحالي)، فضلا عن تسليط الضوء كذلك على علاقاته بفتح الله غولن وحركة «خدمة» التركية من جهة، والمملكة العربية السعودية من جهة أخرى.
ورغم أنه من السابق لأوانه الحديث عن سياسة خارجية مكتملة الأركان والسمات حيال القاهرة بعد فوز إردوغان بالرئاسة، فقد بدأت تلوح في الأفق مؤشرات تشي بعدم حدوث تحول أو تغيير جوهري إيجابي في سياسة أنقرة بهذا الصدد، حيث انطوى خطاب إردوغان الوداعي لكوادر حزبه بعد أيام قلائل من إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية على إشارات باستمرار مواقفه غير الودية إزاء النظام الجديد في مصر، فقد رفع إردوغان خلال خطابه شعار «رابعة»، مشيرا إلى أن «المصريين والفلسطينيين ينتظرون كثيرا من تركيا، وهذا يزيد من مسؤوليات حزب العدالة ويثبّت قدميه على الطريق لئلا يحيد عنها».
التصالح مع إسرائيل
بتزامن الاضطرابات الإقليمية مع ارتباك علاقات إردوغان بحلفاء إقليميين عرب محوريين، لم تجد حكومة إردوغان بدا من شحذ هممها بغرض ترميم علاقاتها مع أصدقائها القدامى والتقليديين في المنطقة كإسرائيل وإيران وإثيوبيا.
ولقد كان من شأن السحب التي لبدت سماء علاقات تركيا بدول الجوار العربي على خلفية الثورات العربية، أن دفعت بحكومة إردوغان نحو تسريع الخطى باتجاه ترميم علاقاتها المتوترة بإسرائيل، تطلعا إلى تحصين العلاقات التركية الأميركية ضد أي أزمات، وتحسبا لأي مشاريع أميركية - إسرائيلية لإعادة هندسة المنطقة جيواستراتيجيا خلال المرحلة المقبلة.
ففي مطلع شهر فبراير الماضي، أعلن وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو أن عودة العلاقات إلى طبيعتها بين تركيا وإسرائيل باتت أقرب من أي وقت مضى، بعد تقليص معظم الفجوات في المباحثات التي تستهدف تعويض ضحايا ومصابي الغارة الإسرائيلية على سفينة «مافي مرمرة» التركية التي كانت تحمل مساعدات إنسانية في طريقها إلى قطاع غزة عام 2010. وأكد أوغلو أن تركيا ما زالت مصممة على أن يتواكب تحويل التعويضات الإسرائيلية لعائلات الضحايا مع قيام إسرائيل بتخفيف الحصار على غزة، لافتا إلى أن بلاده معنية بتمثيل دبلوماسي رفيع في إسرائيل بغية مراقبة إجراءات تخفيف ذلك الحصار. وبينما أكدت إسرائيل تصريحات أوغلو، فقد طلبت من تركيا مقابل دفع التعويضات المتفق عليها سن قانون تركي يمنع تقديم دعاوى قضائية تركية ضد الجنود والضباط الإسرائيليين مستقبلا، فضلا عن إلغاء الدعاوى المرفوعة مسبقا.
وبدورها، نقلت صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية عن أوغلو أن المحادثات التركية الإسرائيلية، التي انطلقت منذ العام الماضي في محاولة للاتفاق على مصالحة تنهي حالة القطيعة والتوتر الذي استمر أربع سنوات بعد مقتل تسعة أتراك في الهجوم الإسرائيلي على السفينة التركية، قد شهدت في الآونة الأخيرة زخما ونهجا جديدين، حيث قامت بعثة تركية رفيعة المستوى بزيارة إلى إسرائيل في الشهر ذاته، والتقت كلا من المستشار الإسرائيلي للأمن القومي يوسي كوهين، ويوسف تشيخانوفير مبعوث نتنياهو الخاص للمحادثات مع تركيا، والمدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية نيسيم بن شطريت.
وأكدت الصحيفة أن معظم الخلافات بين البلدين قد جرى تخطيها تقريبا، خصوصا ما يتعلق منها بمسألة حجم التعويضات التي ستدفعها إسرائيل لعائلات الضحايا الأتراك، والذي كان يشكل العقبة الأصعب في وجه الاتفاق. ففي مايو (أيار) الماضي طلبت تركيا من إسرائيل دفع مبلغ مليون دولار لكل عائلة من عائلات القتلى التسعة، لكن إسرائيل وافقت على دفع 100 ألف دولار فقط، وأمام هذه الفجوات الكبيرة انهارت المفاوضات، لكن قبل شهور قليلة عرضت تركيا مؤخرا على الجانب الإسرائيلي استئناف المفاوضات فوافقت إسرائيل وأرسلت وفدا رفيع المستوى إلى إسطنبول رأسه مستشار الأمن القومي، يوسي كوهين، وهذه المرة طلبت تركيا رقما أقل حيث عرضت إسرائيل على تركيا دفع 20 مليون دولار كتعويضات لجميع أسر ضحايا مرمرة، وهو ما وافقت عليه أنقرة رغم أنه يمثل نصف المبلغ الذي كانت قد طلبته في السابق.
وحال تأكيد الموافقة التركية، سيوقع الطرفان اتفاقا يشمل تعويض عائلات الضحايا الأتراك مقابل تمرير قانون في البرلمان التركي يلغي جميع الدعاوى القضائية ضد ضباط وجنود إسرائيليين، ويحظر رفع دعاوى مماثلة في المستقبل، إضافة إلى زيادة تل أبيب أعداد عمال البناء الأتراك المسموح لهم بالعمل داخل إسرائيل، ثم عودة العلاقات العسكرية والاستخباراتية والأمنية والتجارية إلى سابق عهدها بين البلدين، كما سيتم الإعلان عن رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي بين أنقرة وتل أبيب إلى مستوى السفراء بما يفتح الباب أما إرسال كل طرف سفيره لدى الطرف الآخر.
[caption id="attachment_55252066" align="alignright" width="300"]

وإبان التحضير للانتخابات الرئاسية عمد إردوغان إلى توظيف تشدده المعلن إزاء إسرائيل وانتقاده إياها على خلفية العدوان الأخير على غزة وعملية «الجرف الصامد» لتعزيز موقفه التنافسي في السباق الرئاسي، حيث أمعن وحكومته في إدانة العدوان، معتبرين إياه جرائم ضد الإنسانية، وطالبوا بمقاضاة إسرائيل دوليا. وفي المقابل، أطلقت رئاسة الوزراء التركية حملة تبرعات لصالح غزّة، جمعت نحو 45 مليون ليرة تركية (نحو 20 مليون ومائتين وخمسين ألف دولار أميركي). غير أن ذلك لم يكن ليؤثر على أسس وركائز العلاقات التركية الإسرائيلية، التي شهدت انتعاشة واضحة خلال الآونة الأخيرة، حيث يبدو أن إسرائيل كانت تتفهم أن مثل هذه التصريحات والتحركات من قبل أنقرة كانت بغرض الاستعراض السياسي والاستهلاك المحلى والدعاية الانتخابية لإردوغان إبان الانتخابات الرئاسية، إذ لم تنعكس بالسلب على المصالحة الإسرائيلية التركية وتوافق تل أبيب وأنقرة وتنسيقهما مع واشنطن بشأن ملفات وقضايا إقليمية عديدة كسوريا والعراق والمسألة الكردية ومحاربة الإرهاب.
تعزيز التفاهم مع إيران
يمكن القول إن زيارة إردوغان لطهران مطلع فبراير 2013، والتي أعقبت انتخاب روحاني رئيسا جديدا لإيران، فضلا عن زيارة وزير الخارجية التركي داود أوغلو لطهران في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وكذا وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف لأنقرة في يناير (كانون الثاني) الماضي، قد منحت زخما هائلا للعلاقات التركية الإيرانية، التي شهدت نتوءات عديدة خلال الآونة الأخيرة جراء قضايا خلافية عديدة كالمسألة السورية، حيث تتهم إيران حكومة إردوغان بدعم الجماعات الإرهابية الناشطة في سوريا، فيما تحمل أنقرة القيادة الإيرانية مسؤولية إطالة عمر الأزمة السورية سواء عبر الدعم المباشر للنظام الأسدي، أو عبر إشراك قوات «حزب الله» ومجموعات قتالية شيعية من العراق في المعارك الدائرة هناك، مما مكن طهران لاحقا من التفاوض على ورقة النظام السوري في علاقاتها الانفتاحية مع الغرب، هذا بالإضافة إلى الدرع الصاروخية الأطلسية التي وافقت تركيا على نشرها فوق أراضيها، علاوة على تعقيدات البرنامج النووي الإيراني.
ويجوز الادعاء بأن تطورات الأزمة السورية قد أسهمت في تعزيز التفاهم التركي الإيرانى، فإبان زيارته لروما والتي بدأها أثناء مفاوضات إردوغان في طهران، أكد الرئيس التركي عبد الله غل للصحافيين المرافقين له أن تبادل الزيارات الرسمية عالية المستوى بين أنقرة وطهران يهدف بالأساس إلى تعظيم مغانم البلدين وتقليص خسائرهما المحتملة وسط الاضطرابات التي تحيط بهما، إضافة إلى تعزيز التعاون وبذل الجهود لتسوية الأزمة السورية، قائلا «إننا إذا تعاونا بجدية وإخلاص سيمكننا طرح مبادرة على المجتمع الدولي للحل في سوريا، فنحن يمكننا جر الغرب (للموافقة)، وإيران يمكنها إقناع الطرف الآخر».
ولعل إردوغان يسعى من خلال زيارته لطهران إلى تحقيق هدفين: أولهما، إعادة صوغ العلاقات الإقليمية لتركيا، عبر النافذة الإيرانية، بعد الإخفاقات التي مُنيت بها سياستها في ملفات إقليمية ساخنة. وثانيهما الاستفادة من تعافي السوق الاقتصادية الإيرانية الواعدة في مرحلة ما بعد العقوبات بعد إبرام اتفاق جنيف بين إيران والدول الست المعنية بملفها النووي، بالتزامن مع مساعي ترميم العلاقات التركية - الإيرانية، التي تميزت عبر العصور بصعودها وهبوطها.. وتقدمها وتراجعها.. تحت رحمة القوى والإمبراطوريات التي استولت على المنطقة وحددت لها مسارها، إلى أن نجحت الدولتان في توقيع معاهدة «قصر شيرين» التاريخية عام 1639 التي حمت علاقاتهما وتحكمت فيها حتى يومنا هذا.
ومن زاوية أخرى، يأتي التقارب التركي الإيراني في توقيت بالغ الدقة في ما يخص التنسيق المشترك بشأن تقليص واحتواء الآثار السلبية للأزمة السورية، خصوصا في ما يتعلق بالملف الإثني بالبلدين وتحديدا القضية الكردية المتأججة، حيث سارعت القوى الكردية في شمال سوريا لإعلان دستورها المحلي، والتحرك في إطار حكم ذاتي وإدارة سياسية مستقلة تذكر بحالة شمال العراق، وهي تعد نفسها لاستنساخ التجربة في سوريا هذه المرة، لا سيما أن رئيس إقليم كردستان العراق مسعود بارزاني جلس يكرر على مسامعهما في دافوس أن الكرد في سوريا كانوا محرومين من حقوقهم ولا يزالون، وأن شمال العراق مع أي قرار يتخذه أكراد سوريا بهذا الشأن.
وتأمل أنقرة أن يفضي تنشيط التنسيق الأمني مع طهران إلى تبديد مخاوف الأتراك من أعمال تخريبية إيرانية محتملة داخل تركيا، حذرت منها تقارير أمنية تركية، تفيد بتحرك إيراني عدائي داخل الأراضي التركية عبر تحريك خلايا تجسس وعمليات تهدف للضغط على أنقرة من أجل تبديل سياساتها السورية، وذلك عبر لقاءات كشف النقاب عنها بين رجال من الأمن الإيراني وشبان أتراك محسوبين على حزب العمال لبحث سبل تبادل الخدمات، إضافة إلى حديث دائم عن محاولات إنعاش خلايا نائمة تابعة لـ«حزب الله» التركي.
بيد أن اللافت حقا في أمر زيارة إردوغان لطهران، والتي رافقه خلالها وفد بارز يضم وزراء الخارجية أحمد داود أوغلو، والتنمية جودت يلماز، والاقتصاد نهاد زيبكتشي، والطاقة تانر يلدز، أنها أسفرت عن إبرام خمسة اتفاقات تعاون في مختلف المجالات، كما اقترح وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إنشاء لجنة مشتركة عليا للتعاون بين البلدين، في ما بدا وكأنه تجاهل من أنقرة وطهران لخطوط حمر أميركية عكستها تحذيرات ديفيد كوهين، وكيل وزير الخزانة الأميركي لشؤون الإرهاب والاستخبارات المالية، والتي أطلقها من أنقرة قبل الزيارة بأيام، حينما ذكّر الطرفين بأن جزءا مهما من العقوبات على طهران ما زال قائما، وأن على الشركات المهتمة في ذلك تأجيل العمل أو الاستثمار داخل إيران.
تنسيق مع كردستان العراق
على الرغم من عوامل التوتر المتعددة التي تلف العلاقات التركية العراقية، لم يتورع إردوغان عن فتح قنوات تفاهم مع إقليم كردستان العراق توخيا لبلوغ غايتين: أولاهما، تحقيق اختراق داخل الدوائر الكردية ومحاصرة معاقل حزب العمال الكردستاني. وثانيتها، تعظيم استفادة تركيا من نفط كردستان العراق بما يعينها على تلبية احتياجاتها المحلية الملحة والمتزايدة في مجال الطاقة من جهة، وتمكين تركيا من أن تكون ممرا وسيطا لتصدير النفط غربا عبر ميناء جيهان التركي مقابل تحصيل رسوم تؤول إلى الخزانة التركية، وهو دور الوسيط الاستراتيجي الذي طالما تطلعت تركيا إلى الاضطلاع به في مجال أمن الطاقة، من جهة أخرى.
ففي أواخر العام الماضي 2013، أبرمت تركيا اتفاقات في مجال الطاقة بمليارات الدولارات لتصدير النفط من الإقليم شبه المستقل عبر تركيا إلى الأسواق الدولية. وفي مطلع فبراير الماضي، أعلن وزير الطاقة التركي تانر يلدز أن ضخ النفط الخام قد بدأ من خط أنابيب جديد من كردستان العراق إلى ميناء جيهان التركي على البحر المتوسط. لذا، لم تدخر حكومة إردوغان وسعا لتسريع الحصول على موافقة الحكومة العراقية على إتمام الاتفاق وإنفاذه، حيث زار وزير الطاقة التركي تانر يلدز بغداد في أوائل ديسمبر (كانون الأول) الماضي، لإجراء محادثات مع نائب رئيس الوزراء العراقي حسين الشهرستاني، الذي أبدى بدوره تحفظات على التقارب بين تركيا والإقليم الكردي.
وعلى غير المعهود، بدأت حكومة إردوغان تبدي تقبلا ضمنيا لإعلان استقلال إقليم كردستان العراق، خصوصا في ظل تفاهمات تتضمن مغانم مشتركة للطرفين على مختلف الصعد، أبرزها العمل معا بقصد الحيلولة دون تمكن حزب العمال الكردستاني التركي من بلوغ هذه المرحلة.
تحول تجاه الأزمة السورية
شهدت الأشهر القليلة المنقضية ما يمكن اعتباره تحولا لافتا في مواقف حكومة إردوغان إزاء ما يجري في سوريا. وهو التحول الذي يمكن تفسيره بحزمة من العوامل، أبرزها تفاقم الاتهامات الدولية لأنقرة بدعم الإرهاب داخل سوريا، فبينما دأبت تركيا على الدعوة لتقديم دعم للمعارضة السورية المسلحة، إذا بها تواجه اتهامات مؤخرا بتسهيل صعود الجماعات المتطرفة بسوريا من خلال السماح بمرور أسلحة ومقاتلين أجانب عبر الحدود. فقد لاحقت حكومة إردوغان اتهامات بدعم تنظيم القاعدة وتنظيمات متطرفة في سوريا وتقديم السلاح لها عبر الحدود التركية السورية، وشنت وسائل إعلام غربية في شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي حملة شرسة على رئيس الاستخبارات التركية خاقان فيدان، المعروف بأنه الذراع اليمنى لإردوغان، واتهمته بدعم تدفق المقاتلين المتطرفين والجهاديين التكفيريين إلى سوريا، وتحديدا جبهة النصرة وداعش . كذلك، أكدت وسائل إعلام محلية أن الشرطة التركية ضبطت شاحنتين تابعتين لمؤسسة الإغاثة الإنسانية على متنهما ذخائر وأسلحة في إقليم أضنة قرب الحدود مع سوريا. وذكرت وكالة «دوغان» للأنباء أن الحافلتين كانتا في طريقهما إلى إقليم هاتاي التركي الحدودي.
وبدوره، نفى رئيس الوزراء التركي إردوغان الاتهامات السورية والإقليمية والدولية لبلاده بدعم تنظيم القاعدة في سوريا أو المنطقة، غداة تنفيذ قوات الأمن حملة ضد مشبوهين في الانتماء للتنظيم في ست محافظات، مما أدى إلى اعتقالات ودهم مقر لمؤسسة إغاثة إنسانية قريبة من الحكومة، مؤكدا أن تركيا اتبعت «سياسة الباب المفتوح» طوال الصراع السوري، وقدمت شريان حياة للمناطق التي يسيطر عليها مقاتلو المعارضة من خلال السماح للجيش السوري الحر بتنظيم نفسه على أراضيها. غير أن ظهور جماعات لها صلة بـ«القاعدة»، مثل «جبهة النصرة» و«داعش»، في أجزاء من شمال سوريا قرب الحدود، قد عرض أنقرة لاتهامات بأنها تقدم دعما إلى جماعات إسلامية متشددة.
وقد شكلت التداعيات السلبية المتلاحقة للثورات العربية عموما والأزمة السورية تحديدا، دافعا مهما لإعادة أنقرة النظر في سياساتها حيال سوريا، فلطالما راهنت تركيا على إمكانية إسقاط النظام السوري بسرعة كنظرائه في تونس ومصر وليبيا، بعد أن انتفض الشعب السوري بصورة لم تكن متوقعة. غير أن مجريات الأحداث خلال ما يقارب الثلاث سنوات من عمر الأزمة السورية أدت إلى نتائج كانت تخشاها تركيا. فمن جهة، توترت علاقاتها مع إيران جراء تباين المواقف حيال ما يجري في سوريا، وبينما تقف حزمة من المحاذير حائلا دون إمكانية الحسم العسكري للأزمة، تتعاظم خسائر تركيا على كل الصعد بمرور الوقت جراء استمرار الوضع المتدهور في سوريا.
وبرأسه يطل الهاجس الإثني، بعدما شرع حزب الاتحاد الديمقراطي، وغيره من الأحزاب الكردية، في السيطرة على مناطق واسعة من مناطق شمال وشمال شرقي سوريا، والتي تسكنها غالبية كردية، وشرعوا في ترتيبات لإدارتها ذاتيا، الأمر الذي يشكل قلقا حقيقيا للسلطات التركية خصوصا لجهة تأثيره على الأكراد الأتراك وسائر الأقليات الإثنية داخل تركيا. ففيما تخشى تركيا من أن يتحول شمال سوريا مجددا إلى قاعدة ومنطلقا لمقاتلي حزب العمال الكردستاني في حال فشل الاتفاق الذي أبرمه إردوغان معه لتسوية القضية الكردية في تركيا سلميا، بدأ العلويون الأتراك، الذين يشكلون كتلة سكانية كبيرة، يهددون بأنهم لن يقفوا مكتوفي الأيدي في حال تعرضت الأقلية العلوية في سوريا لصراع طائفي.
في غضون ذلك، تبلور لدى صناع القرار في أنقرة اعتقاد بأن الأزمة في سوريا قد تحولت إلى ما يشبه الحرب بالوكالة بين قوى إقليمية ودولية على الأراضي السورية في نسخة مكررة من المشهدين اللبناني والعراقي. وكم كان موحيا ومؤثرا للأتراك تبدل مواقف حلفاء تركيا الغربيين حيال الأزمة السورية، حيث أبدت الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية تراجعا عن سياسة المواجهة مع إيران والنظام السوري عبر إعادة النظر في مواقفهما السابقة إزاءهما بما يتيح التفاهم مع إيران والحوار مع الأسد توطئة لإعادة بناء تحالفات جديدة في المنطقة بأسرها.
لقد تراءى لحكومة العدالة التركية أن انحيازها لما تعتبره ثورة الشعب السوري الطامح للحرية والديمقراطية للإطاحة بالنظام الأسدي القمعي قد أضحى مجافيا لمنطق الحسابات العقلانية البراغماتية، إذ لا يبدو المجتمع الدولي مستعدا لدعم تلك الثورة، ليس فقط بسبب تعرض مصالحه في المنطقة للخطر، ولكن لنجاح الأسد في تشويه تلك الثورة الشعبية عبر الدفع بتنظيمات إرهابية وإسلامية جهادية متطرفة إلى صفوفها الأمامية. وبناء عليه، آثرت أنقرة تدارك الموقف وتغيير سياساتها إزاء الأزمة السورية، عساها تقلص خسائرها المتنامية جراء الثورات العربية عموما، والسورية منها على وجه التحديد، ولعلها تعزز مركزها وتعظم مغانمها من الترتيبات الإقليمية الجديدة التي يتم الإعداد لها في واشنطن بشأن مستقبل المنطقة، بما يساعد في نهاية المطاف على تقوية الموقف التنافسي لإردوغان وحزبه خلال الاستحقاقات الانتخابية المصيرية التي بدأت رحاها في الدوران.
فلقد اعترى الموقف التركي من الأزمة السورية تغير لافت خلال الأشهر القليلة المنقضية، حتى بات متناغما مع نظيريه الإيراني والأميركي، بعدما تراءى لأنقرة استحالة نجاح أي نهج انفرادي في التعاطي مع الأزمة السورية بمنأى عن طهران وواشنطن. وفي خطابه الوداعي، أثنى السفير الأميركي لدي أنقرة على التعاون الأمني الذي «لا يستهان به» بين بلاده وتركيا بخصوص الأزمة السورية وظاهرة تدفق المقاتلين الأجانب إليها، والذي يأتي ضمن تعاون عالمي موسع لمكافحة الإرهاب المستشري في المنطقة ستكون إسطنبول مركزا إقليميا له، كما ثمن إدراج حكومة إردوغان «جبهة النصرة» على اللائحة التركية للمنظمات الإرهابية استجابة لمطلب واشنطن و«الناتو».
وبينما يعد من السابق لأوانه الحديث عن سياسة خارجية مكتملة الأركان وواضحة المعالم لتركيا في ظل رئاسة إردوغان، وبينما تبقى السياسة الخارجية نتاجا وانعكاسا لنظيرتها الداخلية، فإنه لم يتم ترتيب الأوضاع السياسية الداخلية في البلاد وفقا لتعديلات دستورية تحدد الشكل النهائي لصلاحيات الرئيس المنتخب وتسمية رئيس الحكومة الجديد وتحديد علاقته برئيس الدولة، كما لا يزال الجميع يترقب انتخابات برلمانية تحدد ما إذا كان حزب العدالة سيتمكن من حصد الأغلبية البرلمانية التي ستخوله بتشكيل الحكومة الجديدة منفردا وتعديل الدستور دون الحاجة لدعم الكتل البرلمانية لأحزاب أخرى أو إجراء استفتاء شعبي، أم لا.
وعلى الرغم من جدية الاعتبارات التي تفرض على إردوغان ضرورة العمل على مراجعة وتقويم وتصحيح مسار السياسة الخارجية لبلاده، وتحديدا في علاقات بلاده مع العالمين العربي والإسلامي، لا تلوح في الأفق مؤشرات جادة أو بشارات مشجعة في هذا الصدد. ففي خطابه الوداعي لكوادر حزبه قبل أن يغادره إلى رئاسة الجمهورية منتصف شهر أغسطس (آب)، أكد إردوغان أن حزب العدالة والتنمية الحاكم حقّق إنجازات وإصلاحات كثيرة، مشددا على وجوب أن يتابع سياستيه الداخلية والخارجية، وأن يتجاهل أي اعتراض أو انتقاد لهما، سواء جاء ذلك من دول أو أطراف سياسية داخلية وخارجية أو حتى من وسائل إعلام محلية وعالمية. وقال «دعوا القافلة تسير.. الإنسان يموت مرة واحدة فقط».