
كان من أبرز دوافع التجاوب القطري بشأن مطالب مصر، الضغوط الخليجية القوية التى مورست على الدوحة. فمما يستلفت الانتباه بهذا الصدد أن كافة الخطوات والمبادرات التقاربية القطرية حيال القاهرة كانت تأتى مباشرة وتباعا فى أعقاب فعاليات وملتقيات رسمية خليجية لا تخلو بدورها من تحرك سعودى – إماراتى حثيث لحمل قطر على الالتزام بتعهداتها الخاصة بالمصالحة مع مصر.
فلقد جاءت خطوات المصالحة المصرية القطرية تتويجا لمسيرة من مساع خليجية بقيادة سعودية كانت قد بدأت فى أبريل /نيسان الماضى حينما اجتمع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي بمدينة جدة السعودية واتفقوا على ضرورة اعتماد الآليات التي تكفل السير في إطار جماعي يجنب الدول الأعضاء أية تأثيرات سلبية لأية سياسات أحادية الجانب من قبل أى منها على مصالح وأمن واستقرار وسيادة باقى الدول الأخرى. وفي هذا الخصوص أكد وزراء الخارجية موافقة دولهم على آلية تنفيذ "وثيقة الرياض"، و"اتفاق الرياض التكميلي"، الذي جاء عليه البيان الختامي لاجتماع الرياض فى منتصف شهر نوفمبر الماضى، والذي استضافه العاهل السعودي، وشارك فيه كل من ملك البحرين الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة، وأمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الصباح، وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، ونائب رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، وولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان.
ترحيل سبعة من قيادات الإخوان
فبعد أقل من يومين على المؤتمر الدولي الذي استضافته مدينة جدة السعودية فى شهر سبتمبر الماضى للتباحث بشأن الحرب ضد تنظيم "داعش"، الذي تشترك فيها نحو أربعين دولة، من بينها عشر دول عربية، قررت السلطات القطرية فى حينها ترحيل سبعة من قيادات جماعة الإخوان المسلمين المصريين المقيمين على الأراضى القطرية، وطلبت منهم رسمياً مغادرة أراضيها. وفى أعقاب القمة الخليجية الخامسة والثلاثين ،والتى استضافتها الدوحة فى التاسع من شهر ديسمبر المنقضى ، بدأت شبكة الجزيرة الإعلامية القطرية تظهر تحولا إيجابيا طفيفا فى سياستها التحريرية ،خصوصا فيما يتصل بتناولها للشأن المصرى .
وقبل أن يطوى العام 2014 صفحاته، وامتثالا لمبادرة العاهل السعودى الملك عبد الله، جاءت الزيارة المشتركة التى قام بها كل من مبعوث أمير قطر و رئيس الديوان الملكى السعودى، إلى القاهرة والتقاؤهما بالرئيس المصرى عبد الفتاح السيسي والتباحث معه بشأن سبل تجاوز الخلافات وتفعيل العمل العربى المشترك. وبعدها بأيام قلائل ، كانت زيارة مدير المخابرات القطرية للقاهرة بغرض التحضير لقمة مصرية- قطرية فى الرياض برعاية سعودية وبحضور خادم الحرمين الشريفين خلال الأيام القلية المقبلة.
[inset_left]رأب الصدع بين القاهرة والدوحة جاء تتويجا لمساع خليجية بقيادة سعودية[/inset_left]
ولم يمض يومان فقط على تلك الخطوة الأخيرة، حتى أدهشت السلطات القطرية الجميع بإعلانها وقف بث قناة "الجزيرة مباشر مصر" ومطالبتها قيادات جماعة الإخوان المسلمين وغيرها من التنظيمات والحركات الإسلامية الأخرى والموجودين على الأراضى القطرية بعدم ممارسة أى نشاط سياسي انطلاقاً من تلك الأراضى.
غير أن تعثر المساعى الدبلوماسية الخليجية لإقناع قطر بإبداء مزيد من المرونة فيما يخص تسوية الخلافات بينها وبين دول مجلس التعاون من جانب كما القاهرة من جانب آخر، قد دفع بدول المجلس إلى تبنى بعض الإجراءات التصعيدية إزاء الدوحة تمثلت فى: سحب ثلاث دول خليجية هى السعودية والإمارات والبحرين لسفرائها من الدوحة مطلع شهر مارس الماضى، جراء عدم استجابة الأخيرة لمطالب خليجية بإنهاء دعمها للجماعات الاسلامية المتطرفة في المنطقة والمضي قدماً في استضافتها لبعض قيادات هذه الجماعات والمتعاطفين معها ،بما يشكل تهديدا ،ليس لأمن واستقرار دول مجلس التعاون فحسب ،وإنما لغيرها من دول المنطقة . وهو التحرك الخليجى التصعيدى الذى حمل فى طياته وقتذاك تأثيرات سلبية على سوق الأسهم القطري الذى أحاط به الارتباك بجريرة تفاقم قلق المستثمرين بشأن احتمالات العزلة الإقليمية للدوحة، الأمر الذى امتدت تداعياته لتلقى بظلالها الكئيبة على خطط قطر الرامية إلى إنفاق مليارات الدولارات على جهود تهيئة البنية التحتية القطرية استعدادًا لاستضافة نهائيات كأس العالم لكرة القدم عام2022.
عدم جدوى الرهان على الجماعة
ومع استمرار تقاعس الدوحة عن استكمال جهود المصالحة مع دول مجلس التعاون وكذلك القاهرة ،بدأت بعض دول المجلس تلوح باتخاذ إجراءات عقابية تصعيدية ضدها قد تشمل قيوداً على استخدام قطر المجال الجوي والحدود البرية لدول مجلس التعاون ،الأمر الذى من شأنه أن يكبد الحكومة القطرية خسائر اقتصادية هائلة كونها ستضطر إلى الاعتماد فى تجارتها على الإمدادات المنقولة بحرًا، ناهيك عن أن إغلاق الحدود البرية السعودية أمام قطر سيزيد من تكلفة المواد الغذائية الأساسية للشعب القطرى، والتي تأتي غالبيتها من إنتاج القطاع الزراعي السعودى. هذا ناهيك عن أن التهديد بإغلاق المجال الجوي السعودي أمام الطائرات القطرية كفيل بأن يوجه ضربة قوية لشركة الخطوط الجوية القطرية ذات الطموح العالمى الهائل والنمو المتسارع.
-تيقن الدوحة من استحالة عودة عقارب الساعة إلى الوراء فى مصر وعدم جدوى الرهان على جماعة الإخوان المسلمين مجددا بغية إسقاط السلطة الحالية فى مصر ،والتى كانت تعتقد الدوحة فى أنها تقلدت الحكم بطريقة غير شرعية بعد الإطاحة بأول رئيس منتخب بعد ثورة يناير من عام 2011 ،توطئة لإعادة حكم الإخوان المسلمين ورئيسها المعزول محمد مرسى ، لاسيما بعدما التفت جموع المصريين حول السيسي ووضعته على كرسى الحكم فى انتخابات ديمقراطية اعترف بنتائجها المجتمع الدولى قاطبة، فيما أعطت خسارة المرشح الرئاسى التونسى ،المدعوم من حركة النهضة الإخوانية المنصف المرزوقى فى الانتخابات الرئاسية التونسية ،التى أجريت مؤخرا، مؤشرا موحيا لتراجع حضور الإخوان المسلمين فى المشهد السياسي العربى بوجه عام.
أما القاهرة من جانبها، ورغم ترحيبها بالخطوات التقاربية وإجراءات بناء الثقة القطرية حيالها ، فتبدو متريثة فى ردات أفعالها إذ لا تريد التعجل فى الاحتفاء بتلك الخطوات والإجراءات القطرية مخافة أن تتوقف عندها قطر وتعتبرها جل المطلوب منها لاستعادة دفء العلاقات مع القاهرة ودول مجلس التعاون ،لاسيما فى ظل تداول بعض التقارير معلومات بشأن إمكانية لجوء قطر لتدشين منابر إعلامية بديلة لقناة "الجزيرة مباشر مصر" ،أو ابتكار وسائل جديدة للهجوم على القاهرة والإضرار بأمنها واستقرارها .
شروط المقاربة
وتأسيسا على ذلك، أكد الرئيس المصرى عبد الفتاح السيسى من بكين خلال لقاء جمعه وإعلاميين مصريين كانوا يرافقونه، "أن زيارة مبعوث أمير قطر للقاهرة كانت مجرد نقطة انطلاق لتوجيه رسالة ترضية إلى المصريين"، وطالب السيسي بضرورة الانتظار لرؤية أبعاد قرار غلق قناة "الجزيرة مباشر مصر" مؤكدا أنه ينتظر أفعالا وليس أقوالاً فيما يتصل بالجزء الإعلامي من ملف المصالحة مع قطر، كأمر ضروري قبل التورط في تصريحات مرحبة بالخطوة من دون معرفة إلى أين ستذهب الآلة الإعلامية القطرية. بيد أن السيسي اعتبر القرار مقدمة معقولة تتطلب مزيداً من الخطوات على صعد أخرى موازية كتسليم ناشطين إسلاميين ومعارضين في الدوحة وغيرها من المواضيع التى ستكون محل بحث قريباً مع السلطات القطرية ،وحذر السيسى من أن الجهات التي تخطط لتدمير مصر لم ترفع راية الاستسلام بعد، وما زالت تعمل بدأب من أجل بلوغ هدفها.
[inset_right]أدهشت السلطات القطرية الجميع بإعلانها وقف بث قناة "الجزيرة مباشر مصر"[/inset_right]
وبتصريحاته تلك ،يكون السيسي قد حدد معالم أية مقاربة للمصالحة بين القاهرة والدوحة، والتى تستند بدورها إلى حزمة شروط أو مطالب وضعتها دوائر رسمية وشعبية مصرية ،لعل أبرزها: وقف الدعم القطرى للجماعات الإرهابية والعناصر الهاربة من مصر، كما الجماعات التى تناهض النظام المصرى داخل مصر وخارجها، خاصة جماعة الإخوان المسلمين، التى أصدرت الحكومة المصرية في نهاية شهر كانون الأول /ديسمبر الماضي قراراُ باعتبارها تنظيماً إرهابياً، كما صدرت قرارات أخرى بمصادرة أموال وممتلكات قياداتها ،فيما صدر حكم قضائي بحل حزب الحرية والعدالة المنبثق عنها والذى يعد ذراعها السياسي، وقف الدعم القطري للجماعات المسلحة في ليبيا، وأن تتوقف الحرب الإعلامية التى تشنها الدوحة ضد القاهرة، سواء عبر شبكة الجزيرة القطرية أو غيرها. وألا تنطوى أية شراكة استراتيجية بين قطر وتركيا على أية مخططات أو مشاريع للإضرار بمصالح مصر وأمنها واستقرار نظامها لا سيما وأن الرئيس التركى إردوغان لا يزال مصرا على التغريد خارج السرب الدولى عبر رفض الاعتراف بالرئيس السيسي واعتبار الإطاحة بالرئيس الإخوانى المعزول محمد مرسى فى الصيف الماضى انقلابا عسكريا.
مصالحة قبل 25 يناير
تبقى الإشارة أخيرا إلى أن الخطوات والإجراءات القطرية التقاربية إزاء القاهرة تكتسب من حيث التوقيت أهمية بالغة - بحسب مصادر امنية - كونها استبقت يوم الخامس والعشرين من يناير المقبل، والذى يصادف الذكرى الرابعة لاندلاع الثورة المصرية فى العام 2011 ،وهى المناسبة التى كانت بعض الدوائر الأمنية المصرية تتوقع أن تستغلها الدوحة لشن حملات دعائية مناهضة للسلطة الحالية فى مصر من خلال الآلة الإعلامية القطرية الجبارة التى تأتى فى القلب منها "قناة الجزيرة مباشر مصر" ، بالتوازى مع تمويل بعض الأنشطة المخالفة بغية إحراج تلك السلطة أو حتى إسقاطها.
وبناء عليه، يجوز الادعاء بأن مجىء تلك المساعى التقاربية القطرية قبل حلول تلك المناسبة إنما يعكس إرادة قطرية حقيقية للتجاوب مع المناشدات الخليجية والمبادرات السعودية الرامية إلى طى خلافات الماضى وتذويب الجليد بين الدوحة والقاهرة. وتلك خطوة يتعين على القاهرة وضعها فى الحسبان واتخاذ ما يلزم حيالها بمنأى عن أية مزايدات رخيصة أو تحريض مغرض من قبل بعض الأصوات غير المدركة لكيفية صناعة السياسة الخارجية وغير الواعية لغاياتها ومقاصدها.