
في العشرينيات من القرن الماضي، قال الروائي والناقد الإنجليزي جورج أوريل: «ربما نكتشف على المدى البعيد أن الطعام المعلب هو سلاح أكثر فتكا من البنادق». وبالفعل، أصبح الأمن الغذائي اليوم قضية حيوية بالنسبة للعديد من الدول في جميع أنحاء العالم، وليس مجلس التعاون الخليجي استثناء من ذلك. فوفقا لآخر تقارير صندوق النقد الدولي «الآفاق الاقتصادية الإقليمية»، سوف تشهد دول مجلس التعاون الخليجي زيادة في معدلات التضخم بنسبة 5.3 في المائة في 2011 بعدما كانت تبلغ3.2 في المائة العام الماضي، و«سيكون العامل الأساسي للتضخم الكلي هو ارتفاع أسعار الغذاء». ثم يحذر التقرير من أن «ارتفاع الضغوط التضخمية» يقتضي أن تقوم حكومات مجلس التعاون الخليجي بـ«مراقبة الآثار الثانوية التي تعمل على تحويل التضخم الغذائي إلى تضخم غير غذائي».
[caption id="attachment_4053" align="alignleft" width="179" caption="ارتفاع الاسعار العالمية يزيد من الحاجة الى الاعتماد على الانتاج المحلي"]

في الوقت نفسه، المعضلة الحقيقية في المنطقة، كما يوضحها وزير الزراعة السعودي، فهد بن عبد الرحمن بالغنيم، هي أن أي تحرك نحو الاكتفاء الذاتي سوف يزيد من تفاقم أزمة الأمن الغذائي بالنسبة للأجيال القادمة، نظرا لأن الاستثمارات المرتفعة في الأراضي وإدارة موارد المياه المطلوبة لتحقيق ذلك الهدف سوف تقلل الموارد المخصصة لقطاعات شديدة الأهمية مثل التعليم والصحة.
وبالمثل، ليس هناك شك في أن مزاعم الأمن الغذائي واحدة من أكثر التحديات التي تواجه منطقة الخليج خلال العقود المقبلة، خاصة أن المنطقة تعتمد إلى حد بعيد على الصادرات الغذائية. وبالتالي، يرتبط ذلك الاعتماد بالعرض والطلب. وسوف يزداد الطلب نظرا لعدة عوامل تتضمن الزيادة السكانية، وسرعة التطور المدني، وتغير أنماط الاستهلاك؛ نظرا - من بين عدة أمور أخرى - لارتفاع مستوى الدخل.
وتتضمن العوامل الخاصة بالعرض محدودية الموارد الطبيعية بما في ذلك الأرض والمياه. وبالإضافة إلى ذلك هناك عامل التغير المناخي والذي سوف يؤثر سلبا على الوضع الهش للأمن الغذائي في المنطقة. فسوف يكون لذلك العامل تأثير مباشر على الإنتاج الزراعي وتوافر المياه فيما سوف تتضمن التأثيرات غير المباشرة ارتفاع أسعار البضائع المصدرة وتغير تكلفة الطاقة والمواد الزراعية. ولا حاجة للقول بأن الافتقار إلى الاستثمار الملائم في الأبحاث وقصور التعاون بين وزارات الزراعة ووزارات المياه والري يعد من العقبات الكبرى أمام زيادة الإنتاجية الزراعية.
عجز و انكماش
لقد أبرز ارتفاع أسعار الغذاء والبترول في 2007 - 2009 هشاشة الأمن الغذائي في المنطقة. وما زاد الأوضاع سوءا، هو أن حكومات مجلس التعاون الخليجي لديها العديد من الأسباب المتعلقة بالميزانية والأسباب السياسية والتاريخية التي تجعلها قلقة بشأن العجز التجاري الغذائي في المنطقة.
بالإضافة إلى أن الانخفاض الحاد أو المستمر في أسعار البترول بالتزامن مع الارتفاع المستمر في أسعار الغذاء يمكن أن يؤدي إلى انكماش للفوائض التجارية، وهو ما يؤثر سلبا على عائدات العملات الأجنبية وعائدات الدولة وخيارات الاستثمار. ومن هذا المنطلق تتحول الفوائض المالية والتجارية إلى ما يطلق عليه قصور مزمن.
[caption id="attachment_4054" align="alignright" width="300" caption="البقاء للأقوى"]

وعلى المستوى السياسي، وكما أظهر الربيع العربي بوضوح، يمكن أن يصبح ارتفاع أسعار الغذاء عاملا محفزا لحركات التمرد التي يمكن أن تؤدي إلى تغيرات عنيفة وفورية للأنظمة. ووفقا لتقرير نشرته حديثا «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية»، بعنوان «الصدمات العالمية المستقبلية» فإن الربيع العربي بدأ كنتيجة لحرائق الغابات التي دمرت خمس محصول القمح الروسي في 2010، والفيضانات في أستراليا وكندا التي أسفرت عن ارتفاع في الأسعار على مستوى العالم.
وعلى المستوى التاريخي، ما زالت التهديدات الغربية بحظر تجارة الغذاء كرد فعل على القطع العربي للبترول في السبعينيات حية في ذاكرة حكومات مجلس التعاون الخليجي. كما ساعد أيضا الحظر الغذائي الذي فرضته الولايات المتحدة على الاتحاد السوفياتي والإخفاقات المتكررة في تأسيس احتياطي غذائي دولي لدول الخليج عن إدراك الطبيعة المسيسة لأسواق الغذاء العالمية. وبالتالي، فإنها تنظر حاليا إلى اعتمادها على استيراد الغذاء باعتباره عجزا استراتيجيا يجب التعامل معه بكافة الوسائل المتاحة.
وبالتالي، فخلال السنوات القليلة الماضية، سعت دول مجلس التعاون الخليجي لتعزيز معروضات الغذاء المحلي من خلال شراء أو تأجير أراض صالحة للزراعة في عدد مختلف من الدول الآسيوية والأفريقية ودول أميركا اللاتينية، بغرض تحقيق «قدرة ثنائية على تعزيز إنتاجية الغذاء وتقليل فرص التعرض لإخفاقات السوق والقيود التي تفرض على الصادرات». وبالمثل، تستكشف الحكومات والشركات الخاصة تقنيات جديدة لمساعدة المنطقة على تطوير إنتاجها الغذائي بتكلفة معقولة. من بينها «برنامج قطر الوطني للأمن الغذائي»، ومبادرة «صندوق أبوظبي للتنمية» في الأمن الغذائي.
ويعتقد أن الاستثمار في الأراضي الأجنبية سوف يقلل من قدر الحبوب التي تحتاج دول مجلس التعاون الخليجي لاستيرادها بالأسعار العالمية. بالإضافة إلى أن صادرات الغذاء من دول الطرف الثالث سوف تمكن حكومات الخليج من تقليل دور ما يطلق عليه بالوسطاء في تجارة الغذاء؛ وبالتالي تجنب المضاربات حول أسعار الغذاء العالمي. وفي الوقت نفسه، اشترطت الدول المضيفة ضخ رأس المال في قطاعاتها الزراعية والاستفادة من التقنيات الزراعية الجديدة التي يأتي بها المستثمرون. وتتضمن المزايا المحتملة للفقراء المحليين توفير عدد هائل من فرص العمل وتنمية البنية التحتية الريفية.
ولكن، «الاستحواذ على الأراضي»، وفقا للبنك الدولي والفيدرالية الدولية للمنتجين الزراعيين لا يساهم إلا على نحو محدود في معالجة المخاوف المتعلقة بالأمن الغذائي لدول مجلس التعاون الخليجي.
ارتفاع الأسعار
كما يتطلب الاستثمار في دول الطرف الثالث، بخلاف الاعتماد على السوق، أن يأخذ المستثمر في اعتباره المخاطر المناخية والسياسية للدولة المضيفة بدلا من الاختيار ببساطة الدولة التي يمكنها توفير الغذاء. بالإضافة إلى أن ناصر محمد الحريري، رئيس شركة «حصاد» الغذائية القطرية يقول إن هناك أيضا قضايا تتعلق بالمخاوف من عدم قدرة السكان المتضررين على الدفاع عن مصالحهم بالإضافة إلى التأثير المحتمل على الإنتاج الغذائي المحلي في الدول المستهدفة، أخذا في الاعتبار أن معظم تلك الدول لديها مخاوفها المتعلقة بالأمن الغذائي.
بل إنه نظرا للمخاوف المتعلقة بتطبيق صفقات الأراضي تلك، أثارت بعض المشروعات احتجاجات قوية من قبل الملاك الصغار للأراضي في الدول المضيفة. فعلى سبيل المثال كان على «مجموعة بن لادن» أن تتراجع عن مشروع بقيمة 4.3 مليار دولار لزراعة الأرز في إندونيسيا نظرا لاندلاع احتجاجات عنيفة. بالإضافة إلى أن حكومات مجلس التعاون الخليجي واجهت ارتفاع أسعار الغذاء من خلال رفع الأجور في القطاع العام، بالإضافة إلى برامج شبكات الأمان الاجتماعية التي تمثلت في تقديم دعم نقدي. ولكن تلك السياسات خلقت مشكلات أكثر مما قدمت حلولا. ففي الواقع الاجتماعي الذي تمثل فيه الروابط الأسرية والولاءات القبلية أهمية اجتماعية سياسية بالغة، من المرجح أن تزيد برامج تقديم الدعم النقدي من الفساد الرسمي الذي سوف يفاقم الأوضاع. حيث تعد زيادة أجور القطاع العام استجابة غير محسوبة سوف تؤدي إلى زيادة الضغوط التضخمية وهو ما يمكن أن يزيد على نحو خطر من التوقعات الشعبية التي لن تستطيع الحكومة مواجهتها على المدى البعيد.
[caption id="attachment_4059" align="alignleft" width="300" caption="زراعة الأرض.. الضمان الحقيقي للمستقبل"]

وعلى الرغم من ثرواتهم الوطنية الهائلة، تواجه دول الخليج أزمة غذائية محتملة في ظل استمرار ارتفاع أسعار الغذاء. كما تواجه أسواق غذائية عالمية انكماشا أكثر نظرا لتقلص فوائض التصدير، وانخفاض الإنتاج الغذائي المحلي، والنمو السكاني. وخوفا من ألا تتمكن في يوم ما من تزويد مواطنيها بالغذاء الكافي، زادت كافة تلك الدول الدعم الحكومي وحاولت مراكمة مخزون استراتيجي، بالإضافة إلى مساعي الاستثمار في الزراعة بالخارج. إلا أن هناك حاجة لاتخاذ المزيد من التدابير وعلى الفور. فهناك حاجة ماسة لتداول وتطبيق استراتيجية ثلاثية الأبعاد تمكن الدول من التكيف الفوري مع تزايد الاستهلاك المحلي عبر التعليم وتنظيم الأسرة. كما يجب تعزيز الإنتاجية كذلك عبر الاستثمارات متعددة الأطراف والاستثمارات الإقليمية في الأبحاث والتنمية ونقل التكنولوجيا بالإضافة إلى تعزيز إدارة الموارد المائية.
وأخيرا، هناك حاجة إلى تقليل فرص التعرض لتذبذبات السوق عبر الأدوات المالية مثل العقود المستقبلية وتوفير بدائل بالإضافة إلى تأسيس كيانات مشتركة مع المزارعين المحليين بدلا من الاستحواذ على الأراضي.
نيما خورامي أسل