إيران بين الفتن والانقسام والطائفية

إيران بين الفتن والانقسام والطائفية

[caption id="attachment_55253279" align="aligncenter" width="620"]صور الخميني وخامنئي ومراجع ايران تنتشر في شوارع بيروت صور الخميني وخامنئي ومراجع ايران تنتشر في شوارع بيروت[/caption]


لم يعد يخفي على أحد أن التنسيق الأميركي - الإيراني فيما خص أفغانستان والعراق كان قائما أقله في المرحلة الأولى من الاجتياح الأميركي للمنطقة. وكان قاسم سليماني مسرور جدا من هذا التعاون على ما أسر به كبار المفاوضين الإيرانيين للسفير الأميركي رايان كروكر.

فالإيرانيون أعطوا الأميركيين معلومات قيمة عن نقاط تمركز قوات طالبان، في أفغانستان، وهم ضمنوا وقوف الشيعة على الحياد في العراق. كذلك أعطى الأميركيون، الإيرانيين معلومات استخباراتية حساسة تتعلق بأمنهم الداخلي.
الإيرانيون كان لهم سببان أساسيان دفعاهم للتنسيق مع الأميركيين؛ الأول التخلص من نظام الرئيس صدام حسين من أجل السيطرة على العراق، العائق الأساسي في منع اكتمال الهلال الشيعي الممتد من إيران مرورا بسوريا وصولا إلى لبنان. أما الدافع الثاني، فكان الخوف من توسع حدود الاجتياح الأميركي ليشمل إيران أيضا. أما الدبلوماسية الأميركية، من جهتها، فافترضت وجود بعض القواسم المشتركة مع إيران حيال المنطقة، كالعداء للنظام العراقي، وطالبان، وقد تمكنه من تحويل نظام الملالي المعادي للغرب والولايات المتحدة خاصة، إلى صديق.

مع سقوط صدام حسين في العراق وتأكد المسؤولين الإيرانيين أن الولايات المتحدة لا تنوي توسيع خارطة الاجتياح، بدأ العمل الجدي من قبل الحرس الثوري لإحراج الأميركيين من أجل إخراجهم من المنطقة. وهكذا فوض قاسم سليماني أذرعته العسكرية في العراق، بمهاجمة الجيش الأميركي وإنزال أكبر عدد ممكن من الخسائر البشرية فيه، مما قد يؤثر سلبا على الرأي العام في الولايات المتحدة ويحمله على الضغط على الإدارة من أجل إعادة الجنود الأميركيين إلى بلادهم.
وبالفعل كوفئ قاسم سليماني مع إعلان توصيات «لجنة بايكر هاميلتون» التي كانت مكلفة بتقييم الوضع في العراق والتي حددت عام 2008 موعدا لسحب معظم القوات الأميركية الموجودة في العراق.

بعد انسحاب الولايات المتحدة من العراق عسكريا، وإبداء رغبتها في الانكفاء السياسي عن الشرق الأوسط، انتقلت إيران إلى المرحلة الثانية، وهي إقناع الولايات المتحدة بأهمية تحولها إلى الشريك في قرارات المنطقة والعامل الأساسي في استقرارها، خاصة بعد أن خلق «الربيع العربي» فراغا على مستوى الأنظمة والدول.
هذه الرسالة الإيرانية تم إيصالها عبر القنوات الدبلوماسية المختلفة؛ ففي أحد تلك اللقاءات، في مدينة إسطنبول، دخل كيا طبطبائي، المدير العام السابق لوزارة الخارجية والسفير السابق لدى روسيا، على الأميركيين مبتسما مادا يده، في إشارة إلى موافقته الضمنية على كلام الرئيس أوباما عن رغبته في التواصل مع إيران إن هي تخلت عن مواقفها العدائية تجاه الولايات المتحدة. نظر إلى المجتمعين وقال لهم: «كفانا عداء»، مضيفا: «يجب علينا الالتقاء حول مصالحنا المشتركة وتحديد الأهداف التي تهمنا في ما يتعلق بالقضايا الإقليمية، ومن ثم التعاون بين الحكومتين لتحقيقها، مما سيبني نوعا من ثقة سيؤدي طبيعيا للوصول إلى النقطة المركزية الأهم: العلاقات الإيرانية - الأميركية.»

طبعا مهمة إيران لم تكن بحاجة إلى جهد كبير لدى إدارة الرئيس أوباما، الذي قال للصحافي جيفري غولدبرغ، ردا على تساؤله إن كان يعي أن سياساته تجعل حلفاءه العرب مضطربين، إن «هناك تغييرات جذرية لسياسة الولايات المتحدة، وهي أخذت كثيرين على حين غرة. التغيير غالبا ما يخيف».
وهكذا صار؛ ففي عام 2009 نزل الشعب الإيراني إلى الشوارع احتجاجا على النظام فيما عرف بـ«الثورة الخضراء». فرصة الولايات المتحدة في التدخل بقوة لصالح الشعب الشجاع الذي واجه القمع، والتأمل في إمكانية زعزعة نظام عدائي، لم تكن في عقل الرئيس أوباما لأهمية التقرب من خامنئي والحلم في بدء عصر جديد من العلاقات الودية بعد عقود من المواجهة.

ثم اكتشف العالم أن الأميركيين والإيرانيين كانوا عقدوا اجتماعا سريا في منتصف عام 2012 في مسقط حضره من الجانب الأميركي جايك ساليفان مدير التخطيط للسياسات الخارجية في عهد وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون. بعد انتخاب الرئيس أوباما لدورة ثانية، عام 2013 أصبح كل أعضاء إدارته منغمسين في اجتماعات مع نظرائهم الإيرانيين: ويليام بيرنز نائب وزيرة الخارجية، وبونيت تالوار من مجلس الأمن القومي، ومستشار وزارة الخارجية روبرت إينهورن، وسفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة سوزان رايس. تكللت تلك اللقاءات بمكالمة هاتفية تاريخية بين الرئيس الأميركي والرئيس الإيراني المنتخب حديثا حسن روحاني. لم يخف الرئيس الأميركي في مقابلاته وخطبه وتصريحاته هدفه إدخال إيران شريكة أساسية واستراتيجية في شؤون المنطقة، وإيجاد نوع من التوازن بين القوتين العربية والفارسية، أو السنية والشيعية، يفضي إلى أكثر من منافسة وأقل من حرب.



الثورة الإيرانية وأبعادها




بعد رحيل الشاه ونجاح الخميني في الاحتفاظ بالسلطة، دعا الإمام إلى تصدير مبادئ الثورة إلى الجوار، وإسقاط الأنظمة الملكية واستبدال جمهوريات إسلامية بها، ونادى الشعوب العربية إلى التحرك من أجل التحرر من الظلم الاجتماعي والفساد والتأثير الغربي عليها. فحاول الإمام تأجيج الشارع العراقي وتأليبه على نظامه بإحداث سلسلة من الانفجارات في الجامعة المستنصرية شبيهة بتلك التي سبقت القيام بالثورة الإيرانية، وتدهورت علاقات إيران مع البحرين على أثر توقيف الشيخ البحريني الشيعي محمد علي العكاري العائد من إيران، واتهم الإمام الخميني المسؤولين البحرينيين باضطهاد الشيعة، مما حمل المملكة العربية السعودية ومصر على التضامن مع البحرين.
استغلت إيران فشل المحادثات السورية - العراقية، والكره المستفحل بين البعث وقاداته في فرعيه الشامي والبغدادي، وانفتحت على الرئيس الأسد. وجاء هذا الانفتاح حاجة لمواجهة الإمام الخميني التوتر المتزايد بينه وبين معظم الدول العربية، فزار عبد الحليم خدام طهران من أجل تطوير العلاقات بين البلدين، واجتمع مع وزير الخارجية إبراهيم يزدي، ورئيس الوزراء برزغان، كما اجتمع في قم بالإمام الخميني ليعلن بعدها أن «الثورة الخمينية هي أهم حدث في تاريخنا المعاصر»، مؤكدا أن «سوريا ساعدت القوى الثورية قبل اندلاعها، وفي أثنائها، وعند انتصارها».


[inset_left]لم يعد يخفي على أحد أن التنسيق الأميركي - الإيراني فيما خص أفغانستان والعراق كان قائما أقله في المرحلة الأولى من الاجتياح الأميركي للمنطقة
[/inset_left]


وبالفعل سوريا كانت أمنت انتقال القوى المعارضة الإيرانية إلى لبنان في أواخر السبعينات من القرن الماضي، وتحديدا إلى مخيمات التدريب التابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، التي ستصبح النواة التنظيمية لحزب الله.
الحرب العراقية - الإيرانية أبطأت المد الإيراني، لكنها لم توقفه. وعلى هذا، قام «فيلق القدس» من أجل رد أعداء إيران وبسط نفوذها على الشرق الأوسط. وعام 1990 قال خامنئي في أحد خطاباته إن مهمة «فيلق القدس» هي «إنشاء خلايا (حزب الله) شعبية في جميع أنحاء العالم».
وعلى مدى ثلاثة عقود قامت إيران ببناء النفوذ الشيعي أو ما وصفه الملك عبد الله الثاني بـ«الهلال الشيعي»، الذي يمر عبر العراق وسوريا وصولا إلى البحر الأبيض المتوسط. جنبا إلى جنب مع حلفائها في سوريا ولبنان، شكلت إيران ما سمته «محور المقاومة»، الذي وقف ضد الغرب (قبل تفاهم أوباما – خامنئي) وضد القوى العربية السنية في المنطقة، فقام قاسم سليماني بتجنيد شباب عراقيين وتدريبهم. وهكذا في لحظة سقوط صدام، كانت لدى سليماني مجموعة عسكرية عراقية، بينها «فيلق بدر»، ساهمت هي الأخرى في الإطاحة بالنظام العراقي. أما في لبنان، فالمؤسسات التي ترعى الطائفة الشيعية، والتي يديرها حزب الله، مثل «جهاد البناء» و«مؤسسة الشهيد».. وغيرها من البرامج الإعلامية والتثقيفية، ممولة بالكامل من قبل إيران.

همّ إيران الاستراتيجي يقوم على هدفين: الهدف الأول يقوم على تأمين تحالف عربي - إيراني بوجه البلدان الخليجية والعربية المناهضة لسياساتها التوسعية، والهدف الثاني العمل على تمديد نفوذها وصولا إلى البحر الأبيض المتوسط.
ولهذين الهدفين دخلت إيران المجتمعات العربية من خلال الثقافة والدين والمال طبعا. فمثلا في تسعينات القرن الماضي، فتحت اليمن أبوابها للشركات الإيرانية في مجالات الكهرباء والبناء، فاستغلت إيران وجودها في اليمن، خاصة في حضرموت، من أجل تشييع وتسييس السكان، مما حدا بوزير الخارجية اليمني آنذاك عبد الرحمن الكربي لدعوة البلدين لاحترام خصوصيتهما وعدم تخطي الخطوط الحمر.
إيران استثمرت في الطوائف الشيعية كما في العراق مثلا، أو لبنان، أو حتى اليمن وسوريا، وأقامت فيها نفوذا عسكريا، واقتصاديا، كما استثمرت في بعض الحركات المناهضة للأنظمة العربية القائمة، كحركة حماس، وأمدتها بالسلاح والمال وحتى بتكنولوجيات حربية كتصنيع الصواريخ كما الحال في غزة، وكانت إيران ببساطة تحاول محاصرة أعدائها على حدودهم هم، وبعيدا عن حدودها هي، فيما تمضي قدما في العمل على تطوير صناعتها الحربية النووية.
فإسرائيل، المعترض الأول على البرنامج النووي الإيراني، باتت محاصرة من حماس وحزب الله عسكريا، وسياسيا من الولايات المتحدة الأميركية التي تمانع ضرب المفاعلات الإيرانية. أما دول الخليج، خصوصا المملكة العربية السعودية، فإيران حاولت استنساخ تجربة حزب الله في اليمن مع الحوثيين، ومدهم بالصواريخ الطويلة المدى، التي تستطيع تهديد أمن المملكة القومي بها.
وإلى جانب كل ذلك، لا تتوانى إيران عن استعمال الإرهاب أداة للتفاوض السياسي. تاريخ حافل بالتفجيرات والاغتيالات آخرها كانت محاولة اغتيال السفير السابق للمملكة ووزير الخارجية الحالي عادل الجبير في أحد مقاهي واشنطن.



إيران والواقع العربي




تتمتع إيران بخطاب شعبوي موجه أساسا للشعوب العربية والإسلامية، ويرتكز أساسا على القضية الفلسطينية، التي خصص لها الإمام الخميني «يوم القدس العالمي»، كما يرتكز على فكرة مناهضة الغرب والوقوف بوجه سياساته.. هذا ضمن الإطار النظري؛ فإيران حاربت إسرائيل من خلال أدواتها العسكرية في المنطقة؛ أي حزب الله، وحماس، و«حركة الجهاد الإسلامي». أما على صعيد العداء للغرب، فهي ما انفكت تتعامل معه طوال فترة الثورة وحتى يومنا هذا، إن كان تجاريا، أو في الحقل التكنولوجي، أو حتى في المجال العسكري مثل فضيحة «إيران غيت» الشهيرة، على قاعدة «الآيديولوجية في خدمة المصالح الاستراتيجية».
هذا التضليل السياسي التي مارسته إيران طوال عقود، والذي صورت نفسها فيه على أنها رأس الحربة في المطالبة أو الدفاع عن حقوق المسلمين بكل أطيافهم، انفضح للرأي العام على الأقل في العراق وسوريا.
في العراق، عمدت إيران إلى تأليف ما عرف بـ«فرق الموت»، ومهمتها الأساسية كانت الانتقام من البعثيين، والتي انتهت إلى الانتقام من الطائفة السنية والتنكيل بها، وهذا الأمر يعزوه بعض الباحثين إلى قيام «داعش». أما في سوريا، فدعم الرئيس بشار الأسد ونظامه قائم على أساس مذهبي محض؛ فالدفاع عن نظام الأسد ليس له ما يبرره سوى حماية أهم حلقة في «الهلال الشيعي».

إيران تستفيد اليوم من الغطاء الأميركي المقنع، ومن ظهور حركات مثل «النصرة» و«داعش»، التي اعتبرها المجتمع الدولي إرهابا يجب التخلص منه، من أجل التمدد في الشرق الأوسط. ولم تكن صدفة مطلقا تصريح الوزير الإيراني السابق حيدر مصلحي بأن إيران تسيطر على أربع عواصم إيرانية، وقبْلا تصريحات مستشار الرئيس الإيراني لشؤون الأقليات علي يونسي التي اعتبر فيها أن العراق «عاصمة إمبراطورية إيران الجديدة».
كثير من المسؤولين الإيرانيين يقولون إن طهران نجحت في تصدير ثورتها إلى كثير من دول المنطقة، وإنها مستمرة في زيادة نفوذها من خلال دعم حلفائها بكل الوسائل في هذه البلدان. ولكن الحقيقة هي غير كذلك؛ فلا رهان الرئيس أوباما على إيران بصفتها عاملا في الاستقرار ومركز نفوذ في الشرق الأوسط، ولا رهان إيران على ضعف قدرات العالم العربي في غياب مصر عن مقاومة مدها، نجح.
إيران تعاني في سوريا واليمن، والعراق، وكل الذي بنته على مدى ثلاثة عقود، من أحلام سيطرة على الشرق الأوسط؛ من بلدان وخلجان وممرات، على وشك الانهيار.
«عاصفة الحزم» كانت مفصلية في هذا المجال؛ إذ هي كانت نقطة تحول في الصراع على سوريا، وحققت المعارضة إنجازات عسكرية ميدانية لافتة جعلت نظام الأسد يتقلص جغرافيا.
أما في اليمن، فطائرات دول التحالف دمرت القدرات الصاروخية الإيرانية، وبالتالي تخلصت هي الأخرى من تهديد إيران لأمنها القومي.
يبقى العراق حيث السنة يرفضون أن يقعوا ضحية المذهبية الإيرانية العراقية، وهم أيضا يرفضون محاربة «داعش» إن لم يحصلوا على مكاسب.
قد لا تستطيع الدول العربية بقيادة المملكة العربية السعودية حسم المعركة ضد إيران، ولكنها بالتأكيد تلحق باستراتيجيتها هزائم كبيرة لم تحسب القيادة الإيرانية حسابا لها.

font change