قيصر روسيا الجديد الذي أعاد للوطن وقاره ومكانته... من اختاره ولماذا؟

سولجينيتسين وبوريس يلتسين.. اتهام غير مباشر بالخيانة!

بوتين الذي يقف أمام صورة القيصر نيقولا الثاني يسعى لأن يبدو في صورة قيصر حديث (غيتي)

قيصر روسيا الجديد الذي أعاد للوطن وقاره ومكانته... من اختاره ولماذا؟

موسكو: استئنافا لما أعلنه من تحذيرات حول مغبة التفريط في الأراضي التاريخية لروسيا، عاد الأديب السوفياتي-الروسي الراحل ألكسندر سولجينيتسين إلى تسجيل مخاوفه من الانسياق وراء تخلي قيادة روسيا الجديدة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، عن أراضيها التاريخية، سعيا وراء مكاسب ضيقة، منها ما كان يتعلق بالإطاحة بالرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف. ولذا فما أن تلقى دعوة الرئيس السابق بوريس يلتسين للعودة إلى الوطن والتخلي عن الإقامة في المهجر الأميركي التي طالت لأكثر مما ينبغي، قرر صاحب نوبل للأدب ألكسندر سولجينيتسين أن يبدأ رحلة العودة من الاتجاه المعاكس. لم يختر سولجينيتسين الطريق التقليدي للعودة إلى موسكو عبر ذات طريق الرحيل عنها. فإذا كان فارقها قسرا عبر المسار الأوروبي الذي بدأ بإقامة مؤقتة في سويسرا، ومنها إلى الولايات المتحدة، فقد اختار العودة طوعا عن طريق الشرق الأقصى.

بوريس يلتسين (رويترز)


كان يلتسين قد أجرى خلال زيارة رسمية للولايات المتحدة في عام 1992، اتصالا هاتفيا مع الأديب المتمرد، طالبه خلالها بالعودة إلى الوطن بعد إسقاط ما جرى توجيهه إليه من اتهامات بخيانة الوطن، إلى جانب إلغاء قرار إسقاط الجنسية السوفياتية. وكانت روسيا الرسمية بدأت التمهيد لذلك بسلسلة من الإجراءات أهمها إعادة نشر أكبر المجلات الأدبية السوفياتية، «نوفي مير» (العالم الجديد) لفصول من روايته حول «أرخبيل الجولاج»، التي كانت سببا في اتخاذ قرار طرده من الاتحاد السوفياتي في عام 1974، فضلا عن رد اعتباره من خلال نشر الكثير من المقالات والآراء التي تعيد إلى أديب نوبل الكثير من حقه ووقاره.  


اختار سولجينيتسين العودة عبر الشرق الأقصى، وليس عبر الطريق التقليدي عبر غرب أوروبا. في مجادان شمال شرقي روسيا التي وصلها بالطائرة في مايو (أيار) 1994، كان في انتظاره استقبال شعبي يليق بما يستحق من مكانة وتاريخ. ومنها إلى بريموريه على ضفاف بحر اليابان، انطلق سولجينيتسين في أطول رحلة برية عبر القطار قاصدا موسكو. وكانت الرحلة سبيلا مناسبا إلى اللقاء بمحبيه ومواطنيه، والاستماع إليهم واستيضاح الكثير من جوانب ما خفي عليه خلال ما يقرب من عشرين عاما منذ طرده منفيا بحكم قضائي، وبإيعاز من المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي.


لكن الغريب والمثير معا أن ما لقيه من استقبال شعبي بين محبيه ومناصريه على طول الطريق إلى موسكو، لم يلق مثله بين جنبات مجلس الدوما (البرلمان الروسي). فقد اعتبر النواب حديثه إليهم «قديما متخلفا عن متغيرات وظروف العصر»، على اعتبار أنه وصل متأخرا لثماني سنوات جعلته غير مدرك لما طرأ على البلاد من تغييرات. ولم يقتصر الأمر عند ذلك الحد، حيث سرعان ما وقع الخلاف مع الرئيس السابق بوريس يلتسين الذي عارض سولجينيتسين سياساته تجاه قمع الحركة الانفصالية في الشيشان، وهو ما كان مواكبا للحملات الغربية في هذا الاتجاه. لكنه كان مناصرا للحملة المعادية المضادة للتفريط في ثروات الوطن ومقدراته التي آلت إلى حفنة من المغامرين المضاربين ممن كانون يسمونهم أوليجاركيا العصر، أو أثرياء روسيا الجدد، وهو ما كان يتفق مع التوجه العام لغالبية أبناء الشعب الروسي.

 

دبابات في شوارع موسكو أثناء «الأزمة الدستورية» (رويترز)


ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، حيث عاد إلى التذكير بحق روسيا في أراضيها التاريخية التي بذلت الغالي والنفيس من أجل لملمة أطرافها بالقوة المسلحة، تحت راية الإمبراطورية الروسية على مدى قرون عديدة، وهو ما يتفق فيه إلى حد كبير مع ما عاد الرئيس فلاديمير بوتين إلى تبنيه أساسا للكثير من قراراته وسياساته التي جنح صوبها منذ أولى سنوات حكمه في مطلع القرن الجاري وحتى اليوم.

تقديرات سولجينيتسين لسنوات حكم غورباتشوف
في حديث أدلى به إلى مجلة «دير شبيغل» الألمانية كشف أديب نوبل عن تقديراته لكل من زعماء الاتحاد السوفياتي وروسيا الجدد. وإذا كان سبق وأوضح رؤيته وتقديراته لسياسات القادة السوفيات السابقين قبل وصول الرئيس السابق ميخائيل غورباتشوف إلى سدة السلطة في الكرملين، في الكثير من رواياته التي عادت عليه بوابل من الاتهامات غير المستحقة، فقد أوجز تقديراته تجاه أخلافهم ممن تعاقبوا على حكم الاتحاد السوفياتي ثم روسيا على الوجه التالي:


قال سولجينيتسين بضرورة الاعتراف بأن «غورباتشوف (وليس يلتسين، كما هو التصور العام الذي يظل يسود كثيرا من الأوساط المحلية والغربية) هو من أعطى مواطني بلدنا حرية التعبير وحرية التنقل». لكنه سرعان ما كشف صراحة عن الكثير من أخطاء الزعيم السوفياتي السابق، ومنها ما يتعلق بأن «حكم غورباتشوف لافت للنظر في سذاجته السياسية وقلة خبرته وعدم مسؤوليته تجاه الدولة». وأضاف قوله أن سياساته لم تكن تتسم بالقوة، بقدر جنوحها صوب ما وصفه باستسلامها الطائش. كما أشار إلى أن الحماس المتبادل تجاه هذه السياسات من جانب البلدان الغربية، زاد من تكريس وترسيخ هذه الصورة.

لكن ماذا عن تقديره لسياسات خلفه بوريس يلتسين؟
قال سولجينيتسين إن سياسات يلتسين اتسمت بقدر كبير من عدم المسؤولية تجاه الكثير من الجوانب الحياتية لأبناء شعبه. أشار إلى ما وصفه بـ«تسرعه المتهور لتأسيس ملكية خاصة بديلا لممتلكات الدولة». وأضاف أنه «أطلق العنان لعملية سطو ضخمة تقدر بمليارات الدولارات للكنوز الوطنية في روسيا». كما توقف عند دعمه وتشجيعه للتيارات الانفصالية وانهيار الدولة الروسية، في محاولة للحصول على دعم القيادات المحلية في الأقاليم، وهو ما سبق وأشرنا إليه في دعوته التي أعلنها خلال إحدى زياراته لقازان عاصمة تتارستان، وقال فيها: «خذوا من الاستقلال ما تستطيعون بلعه». كما أنه «حرم روسيا في الوقت نفسه من الدور التاريخي الذي تستحقه، ومن مكانتها التي لطالما تبوأتها على خريطة السياسة العالمية.


وذلك ما علقت عليه مجلة «دير شبيغل» بقولها: «يمكن التعامل مع سولجينيتسين ككاتب على نحو مثير للجدل، بما يكتنف ذلك من صعوبات تجاه تقييم أعماله من وجهة النظر التاريخية. لكن ما قام به في التسعينات، يظل إنجازا مدنيًا حقيقيًا»، على حد تعبير هذه المجلة الألمانية.


أما عن هذه الخطوة التاريخية من جانب سولجينيتسين، فقد كان من المفترض أن يمنح الرئيس يلتسين أديب نوبل سولجينتسين في عام 1998 وسام القديس أندريه الأول، وهو أحد أعلى أوسمة الدولة. لكن سولجينتسين أعلن رفضه لتسلم الجائزة. وأوضح قراره بقوله: «لا يمكنني قبول جائزة من السلطة العليا التي أوصلت روسيا إلى حالتها الكارثية الحالية». وذلك من الصعب الاختلاف فيه مع سولجينيتسين، على حد تقدير كثيرين في روسيا.
وعن بوتين قال سولجينيتسين:


«لقد ورث بوتين دولة منهوبة، وبها أغلبية محبطة، وفقيرة من الشعب. وقد شرع في استعادة الممكن. دعنا نلاحظ، التطور التدريجي، البطيء في بعض جوانبه من أجل تصحيح ما جرى ارتكابه من أخطاء». وأشار أديب نوبل إلى أنه «لم تتم ملاحظة هذه الجهود على الفور، في الوقت الذي تستحق فيه أكبر من هذا التقدير بكثير». ومضى سولجينيتسين إلى محاولة تبرير ذلك بقوله: «وهل يمكنك أن تشير إلى أمثلة في التاريخ لقيت فيها إجراءات ترميم حصن إدارة الدولة، استحسانًا من الخارج؟».


وذلك ما قد يدعو إلى التوقف عنده بقدر كبير من الاستفاضة لسرد بعض جوانب سيرة ذلك الزعيم الذي لطالما أقضّ مضاجع الكثيرين من كبار القيادات الغربية قبل ممثلي مختلف الأوساط الاجتماعية داخل روسيا وخارجها. وذلك أيضا ما يستحق العودة إلى ما سبق وطرحته الملايين في الداخل والخارج من تساؤلات حول:
من يكون مستر بوتين؟
لم یكن هناك في موسكو من یعرف بالدرجة الكافية بوجود فلادیمیر بوتین. بل ولم یكن ثمة من یتوقع أن یصل مثل هذا الشاب ذي السبعة والأربعين عاما، متوسط القامة، نحیف الجسد، الصموت، الغامض، إلى عرش الكرملین بمثل هذه السرعة والسهولة. حتى فلادیمیر بوتین نفسه لم یكن یحلم بما وصل إلیه وهو الذي اعترف بأن أقصى أحلامه لم تكن تتعدى الالتحاق بجهاز الـ«كي جي بي»، بعد كل ما راوده من أفكار حول الالتحاق بكلیة الطیران المدنى. لكن الروایات البولیسیة، ومنها ما كان موضوعا للفیلم السينمائي «الدرع والسیف» الذي یخلد مآثر العاملین بجهاز الأمن والمخابرات، دفعته إلى الاستغراق في حلم لم یفق منه حتى الیوم.


قال بوتین إنه قرر ولم یكن قد انتهى بعد من دراسته الثانویة، الالتحاق بجهاز أمن الدولة الذي طالما عرفه العالم تحت اسم «كي جي بي». اعترف بأنه راح یطوف حول مبنى المخابرات العامة لتحمله قدماه ذات یوم إلى داخل غرفة استقبال الزوار داخل المبنى. خرج إلیه أحد المسؤولین لسؤاله عما یرید. فاتحه الصبي صراحة برغبته في الالتحاق بسلك المخابرات.


وعلى نحو یتسم بكثير من الجدیة والصرامة، صارحه ذلك المسؤول الأمني بأن مثل هذه الرغبة تستحق الإعجاب، لكن الالتحاق بالجهاز أمر یستوجب مراعاة عدة محاذیر وشروط، أولها أنهم لا یقبلون من یأتي للعمل عن طیب خاطر، ومن تلقاء نفسه. وثانیها أن الالتحاق بالجهاز لا یمكن أن یتم قبل الانتهاء من الخدمة الإلزامیة في القوات المسلحة، أو التخرج من أحد المعاهد العلیا المدنیة بغض النظر عن التخصص.


وردا على استفسار الصبي حول أي من التخصصات أكثر أهمیة ووزنا للالتحاق بما يسمح بتحقيق حلمه، قیل له: «القانون»، وهو ما قد یفسر التحاق فلادیمیر بوتین بكلیة الحقوق جامعة لینينغراد. ورغم أن أحدًا لا یستطیع الجزم بأن المسؤولین في ذلك الجهاز المخیف، الأكثر تأثیرًا ووزنًا في الساحتين السوفیاتیة والعالمية، منذ تأسیسه في مطلع عام 1918 بعد ثورة أكتوبر 1917 تابعوا خطوات ذلك الصبى الغر، فإن الواقع یقول بأن ذلك الفتى وجد من یهتم بأمره.


وفي هذا الصدد قال بوتین إن أحدًا لم یحاول تجنیده للعمل معهم على غرار تقالید أجهزة المخابرات الحریصة على توسیع شبكة عملائها السریین، ممن كشف بوتين عن أنهم عادة ما يمدون أجهزة المخابرات والأمن بما یقرب من 90 في المائة مما تحتاجه هذه الأجهزة من معلومات، استنادًا إلى قناعات سیاسیة وآیدیولوجیة. وحرص بوتین على تأكیده لضرورة التفرقة بین ما یرد من معلومات على أساس الخیانة والرغبة في الحصول على المال، وبین أخرى ترد استنادًا إلى العقیدة والفكر. فیما أشار إلى أنه من المستحیل مكافحة الإرهاب والقرصنة والجریمة بدون الحصول على المعلومات، وبغیر الاعتماد على شبكة العملاء السریین.

ألكسندر سولجينيتسين بعد عودته إلى روسيا عام 1994


ويذكر المراقبون في موسكو، تلك الدهشة التي أصابت الكثيرين في الداخل والخارج، لدى سماع خبر استقالة الرئيس السابق بوريس يلتسين، مقرونا بنبأ اختيار فلاديمير بوتين قائما بأعمال الرئيس اعتبارا من 31 ديسمبر (كانون الأول) 1999.


ذلك ما حاول القائم بأعمال الرئيس (فلاديمير بوتين اعتبارا من 9 أغسطس/ آب 1999) الإجابة عليه من خلال جلسات ليلية متصلة دامت لأربعة أيام، كان يعقدها مع ثلاثة من الصحافيين الشباب بعد انتهاء عمله اليومي. في هذه الجلسات راح بوتين يستعرض بعضا من جوانب سيرته الذاتية.  
كشف بوتین عن تاریخ التحاقه بجهاز الـ«كي جي بي». قال إن موظفا في قسم شؤون العاملین بكلیة الحقوق اتصل به تليفونيا ليطلب اللقاء معه، ولم یكن قد انتهى بعد من دراسته في السنة الرابعة أي قبل التخرج بعام ونصف العام. لم یستطع بوتین تحدید هویته، لكنه عرف فیما بعد أنه یعمل بالإدارة المسؤولة عن المعاهد التعلیمیة، حسبما كان متبعًا آنذاك. اقتصر الحدیث على الإشارة إلى الهدف من اللقاء. قال إنه يتعلق بمناقشة مسألة التوزیع بعد التخرج. والتوزیع هنا یقترب من نظام التكلیف الذي طالما اتبعته في السابق كلیات القمة مثل الهندسة والطب في بعض بلداننا العربیة بسبب نقص الكفاءات وندرة الخریجین. وقد أدرك بوتین بحسه الفطري أن عدم الإفصاح تلیفونیًا عن المقصود، یعني عملیًا الالتحاق بأحد الأجهزة السریة الخاصة. وحین تأخر المسؤول عن اللقاء الذي اختار له أحد أروقة كلیة الحقوق على ضفاف نهر نیفا، والتي طالما اشتهرت تاریخیًا بأنها ساهمت في إعداد زعیم ثورة أكتوبر الشیوعیة فلادیمیر لینین في نهایة القرن التاسع عشر، ظن فلادیمیر بوتین أن الأمر لن یخرج عن دعابة ثقیلة.


وصل الرجل متأخرًا لیبادر بالاعتذار والانتقال مباشرة إلى جوهر الموضوع: «إن الوقت لا یزال مبكرًا كثیرًا، لكن وبوجه عام نسألك رأیك عن مدى قبولك لعرض العمل في الأجهزة (وهي ما یُقْصَد بها عادة أجهزة الأمن والمخابرات)».


قال بوتین إنه لم یعترف له بأنه سبق وتوجه إلى مبنى المخابرات للإفصاح عن مثل هذه الرغبة، ربما خشیة تذكرته بما یلتزمون به عادة حول عدم قبول المتطوعین! وأضاف أن الحدیث حول هذه المسألة هو توطئة لبحث أمر التحاقه رسمیًا بجهاز «كي جي بي» في عام 1975. توقف لما یقرب من عام، وحتى استدعوه إلى قسم شؤون العاملین بذلك الجهاز لاستیفاء البيانات اللازمة. وقد بدأ الملازم بوتین أو بلاتوف- وهو الاسم الحركي الذي اختاره له الجهاز- عمله بالفعل في قسم السكرتاریة حتى انتقل إلى إدارة الأمن الخارجي للتخصص في متابعة ما سماها العناصر الأجنبیة. ومضى بوتین لیقول إن المسؤولین لاحظوا نشاطه، لیقرروا إلحاقه بجهاز المخابرات الخارجیة، الأمر الذي توجب معه انضمامه إلى الحزب الشیوعي السوفیاتي والذي لم یكن لأحد أن یبدأ عمله مع مثل هذه الأجهزة دون التمتع بعضویتها. ومن الطریف في هذا الشأن أن بوتین لم یهاجم هذا الحزب ولم یُدِنْ نشاط أجهزة الأمن والمخابرات، شأن آخرین كثیرین من ممثلي التیار الدیمقراطى في أواخر ثمانينات القرن الماضي، ولم یعلن تخلیه عن عضویة الحزب حتى بعد انقلاب أغسطس 1991، الذي تورط في القيام به عدد من كبار قيادات ذلك الحزب،  فیما یظل یحتفظ حتى الیوم ببطاقته الحزبیة، ولم یحرقها شأن مثل أولئك الذین فعلوا ذلك على نحو یتسم بكثیر من الاستعراضیة، بما یعني أنه ظل عضوًا بالحزب الشیوعي السوفیاتي وحتى الإعلان رسمیًا عن نهایته بعد انقلاب أغسطس 1999، وقبل انهیار الاتحاد السوفیاتي ببضعة أشهر، وكان بوتین قد عمل بجهاز الأمن والمخابرات (كي جي بي) ستة عشر عاما منها خمس سنوات في ألمانیا الدیمقراطیة أي منذ عام 1985 مع بدء سنوات البیریسترویكا وحتى عام 1990 بعد سقوط جدار برلين.
 
ذكريات الصبا والشباب  
كشف بوتین عن بعض ما تعرض له إبان الانتفاضة الألمانیة التي أسفرت عن سقوط جدار برلین. قال إن الجماهیر الثائرة أحاطت بمقر المخابرات السوفیاتیة في ألمانیا. وأشار إلى أن هذه الجماهیر وبعد اقتحامها لمبنى المخابرات الألمانیة حاولت اقتحام المقر، دون أن تحرك السلطات السوفیاتیة ساكنًا. وحین خرج بوتین إلى هذه الجماهیر الغاضبة لسؤالهم عما یریدون خشیة إقدامهم على اقتحام المبنى، والكشف عن الكثیر من الملفات والأسرار، وجد من یتساءل عن سر وجود سیارات بأرقام ألمانیة محلیة ما دام المبنى، كما یقول، یعتبر مقرًا لمؤسسة عسكریة سوفیاتیة؟


أجاب بوتین بأن الاتفاقیات الموقعة بین البلدین تسمح بذلك لیجد آخر یتساءل عن هویته وهو الذي یتحدث الألمانیة بطلاقة مما دفعه لتفسیر ذلك بقوله إنه یعمل مترجمًا. وكشف بوتین عن أنه سارع بعد ذلك إلى الاتصال تلیفونیًا بمقر قیادة القوات السوفیاتیة في ألمانیا، لیجد من یقول له إنهم لا یستطیعون أن یفعلوا شیئًا دون أوامر موسكو التي تواصل التزام الصمت!


آنذاك اعترف بوتین بأن هاجس انهیار الدولة ظل یراوده منذ ذلك الحین. وقال إنه وخلال سنوات عمله في ألمانیا أدرك أن مثل ذلك النظام لا مستقبل له، وأن الاتحاد السوفیاتي في زوال. ولذا لم يقبل عرض الانتقال للعمل في الجهاز المركزي للمخابرات في موسكو لیعود إلى لینينغراد حیث قبل الاستمرار في العمل تحت سقف أكبر جامعاتها، أملاً في كتابة رسالة الكاندیدات أي الدكتوراه تحسبًا لاحتمالات العمل لاحقًا في المكان نفسه، والتي استطاع الحصول علیها في العلوم الاقتصادیة. وشغل بوتین في عام 1990 منصب نائب رئیس الجامعة للعلاقات الدولیة، وهو المنصب الذي طالما كان یشغله ممثل جهاز المخابرات الخارجیة وفق مقتضیات أمن «كي جي بي». أما عن علاقته بالسلطة التنفیذیة والعمل مع نجم البیریسترویكا العمدة الجدید لمدینة أناتولي سوبتشاك الذي سبق وعمل أستاذًا بكلیة الحقوق قال بوتین إنه تلقى عرضه للعمل معه مساعدًا للشؤون الدولیة. قال سوبتشاك إنه سیفاتح رئیس الجامعة بشأن الموافقة على انتقاله للعمل معه. غیر أن بوتین لم یكن لیخفي الحقیقة عنه مؤكدًا رغبته الجادة في العمل معه. قال إنه لیس مجرد نائب لرئیس الجامعة، بل هو أیضًا ضابط في «الكي جي بي». وكانت المفاجأة التي تبدو ذات مغزى. فقد كان العداء لهذه المؤسسة الأمنیة سیئة الصیت السمة السائدة للعصر، والوتر الذي طالما عزف علیه الدیمقراطیون من أمثال سوبتشاك من المعروفین بكراهیتهم الشدیدة للشیوعیة والنظام. وصمت سوبتشاك برهة طویلة انفجر بعدها لیعبر عن تجاهله لهذا الواقع بكلمات یعاقب علیها القانون. قال بوتین إنها بدت غریبة على أستاذ للقانون، وعمدة للمدینة.


أشار إلى أنه لم یكن یتوقع مثل هذه الموافقة، وإن علمته السنوات الأخیرة عدم استغراب أي شيء. وحین فاتح رئیس الجامعة برغبته معربًا عن استعداده لتقدیم استقالته بما في ذلك طبعًا من صفوف «الكي جي بي»، لم یجد من یحبذ أمر الاستقالة بما یعني أنه انضوى للعمل تحت لواء مثل التیار الدیمقراطي ونجم البریسترویكا دون الطلاق مع أكثر الأجهزة الأمنیة عداءً لذلك التیار. فضلاً عن أنه ظل ضابطًا في جهاز أمن الدولة حتى انقلاب أغسطس عام 1991 وبعلم أناتولى سوبتشاك وثیق الصلة مع بوریس یلتسین.


أما عن حقیقة موقفه من الماضي القریب وتقدیراته للأحداث التي عصفت بما كان یسمى بالاتحاد السوفیاتي، فلم نجد یوم الإعلان عن تعیینه عنها أو حولها ما یمكن التوقف عنده طویلاً. جملة تصریحات مقتضبة حول ضرورة الاستفادة بأكبر قدر ممكن من إنجازات الماضي. مع ضرورة مراعاة أحكام العصر.


لیس كل الماضي أسود، واقتصاد السوق حتمیة حیویة. إذن لم یتنكر فلادیمیر بوتین لماضیه العائلي الذي تحدث عنه بكل صراحة.


ولم لا؟... ألم یختر جده لأبیه اسم فلادیمیر تیمنًا بفلادیمیر لینین زعیم ثورة أكتوبر؟ ألم یولد في لینينغراد مهد الثورة ویختار له أبوه اسم فلادیمیر تأكیدًا لذات التوجه؟ ألم تشأ الأقدار له أن یواصل دراسته في نفس الكلیة التي درس بها زعیم الثورة فلادیمیر لینین، أي في نفس كلیة الحقوق التي لم تغیر مقرها حتى الیوم على ضفاف نهر نیفا منذ سني دراسة لینین فیها مع نهایة القرن التاسع عشر؟


عن عائلته قال بوتین إن جده كان یعمل طباخًا في بیتربورغ وهو الاسم الأسبق لسان بطرسبورغ (اسم لینينغراد اتخذته المدینة في عام 1924 عقب وفاة لینین تكریمًا وتخلیدًا لزعیم الثورة وحتى استفتاء 1991 الذي عادت بموجبه إلى اسمها الأسبق بمباركة ومبادرة أناتولي سوبتشاك). وتقدیرًا لكفاءة الجد استدعته السلطة السوفیاتیة للعمل في جوركي بضواحي موسكو حیث كان یعیش لینین، ولینتقل بعد وفاة زعیم الثورة للعمل بإحدى داتشات (المساكن المقامة للراحة خارج إطار المدینة) الحزب والدولة.


عن والده قال بوتین إنه ولد في عام 1911 قبیل الحرب العالمیة الأولى فیما اقترن برفیقة دربه ولم یكن عمرها قد تجاوز السابعة عشر. وحین داهمتهما الحرب العالمیة الثانیة التحق الوالد بصفوف المدافعین عن الوطن، لتعیش الأم سنوات الحصار والجوع الذي كاد یودي بحیاتها. لم تكن طفولة فلادیمیر بوتين أسعد حالاً من أقرانه الذین ولدوا بعد سنوات الحرب الطویلة. عن إقامته في إحدى غرف شقق الإقامة الجماعیة قال بوتین إن الوالد حصل علیها من خلال عمله في أحد مصانع بناء قاطرات المترو. لم تكن مساحتها تتجاوز عشرین مترًا لكل الأسرة. وتعمد فلادیمیر بوتین في معرض سرده لبعض تفاصیل طفولته التوقف عند هویة بعض جیرانه وكانت أسرة یهودیة. عجوز یعمل خیاطًا مع زوجته وابنته حافا التي ظلت عانسًا بعيدة عن حظوظ الزواج. قال إنهم كانوا من الیهود المتشددین الذین یرفضون العمل في أیام السبت، فیما یحرص الأب على تلاوة كتاب منذ الصباح الباكر وحتى المساء على نحو أثار فضوله لیتساءل عن ماهیة هذا الكتاب المقدس.

خلف بوتين يلتسين في الرئاسة في أعقاب استقالة الأخير (غيتي)


كشف بوتين عن الشجارات المستمرة بین والدیه وهذه الأسرة التي لم یسمحوا له بالتدخل فیما كان یحتدم معها من جدل ومشاكل، حرصًا على أن یظل متمتعًا بحب كل جیرانهم. ولتأكید هویته المسیحیة، حرصت الأم على إبقاء خبر تعمیده مع جیرانها، سرًّا عن الوالد الذي لم یكن لیسمح بذلك بسبب عضویته في الحزب الشیوعي. ولذا فقد حرصت حین سافر إلى إسرائیل في عام 1993 ضمن قوام أحد الوفود الرسمیة على أن تعطیه الصلیب حتى یستطیع رشمه أو مباركته عند قبر المسیح. طفولته لم تكن تتباین كثیرًا عن حیاة أقرانه، وإن تمیز عنهم بالرغبة في اتخاذ مواقف تؤكد استقلالیته. لكنه صار في حاجة إلى ریاضة تسانده في عراكه مع الآخرین. اختار الملاكمة في البدایة، لكنه سرعان ما «فقد أنفه»، على حد قوله،  لیعیش الكثیر من الآلام المبرحة، ولیكف عن ممارسة هذه الرياضة العنيفة، ویتحول إلى مصارعة السامبا مع مدربه أناتولي راخلین الذي ظل یواصل تدریب الصغار هناك لسنوات طويلة، ومنها إلى ریاضة الجودو التي قال إنها فلسفة تقضي بضرورة احترام الكبار والخصم، وهو ما یتجلى في المصافحة التقلیدیة عند بدایة النزال وبعده.


ورغم أن الریاضة السائدة آنذاك كانت ریاضة الكاراتیه، فقد أكد بوتین أنها وشأن كل أنواع الریاضات التي لا یتلامس فیها الخصمان أقرب إلى البالیه وتمرینات الإحماء. قال أیضًا إن تدریبها آنذاك كان على أساس تجاري، وهو ما لم یكن یتسق مع قناعاتهم، فیما لم يكونوا يدفعون شیئًا مقابل تدریبات الجودو. وحكى بوتین كیف أنهم وصلوا ذات یوم لبدء تدریباتهم في القاعة التي وقف فیها مدرب الكاراتیه یأمر، ویواصل إصدار تعلیماته رغم انتهاء الفترة الزمنية المخصصة له، فیما أشاح بوجهه باحتقار ولامبالاة، حین طلبوا منه إخلاء المكان. فما كان من أحد زملائه إلا أن طرحه أرضًا وبرك فوقه مطالبًا الآخرین بالدخول. قال بوتین: «هكذا كان رأینا في الكاراتیه».


لم نجد في طفولة بوتین ما یثیر الاهتمام... شقاوة الصغار، وحكایات الأصدقاء ومعلمي المدرسة التي تلقى فیها تعلیمه بما كانت منها أول دروس اللغة الألمانیة سلاحه الرئیسي طوال سنوات عمله في جهاز المخابرات، الذي اعتبره شرفًا قلما یحظى به أبرز رجالات الدولة. على أن السنوات التالیة كشفت عن بعض ملامح هذه الشخصیة التي طالما عرف عنها الصمت والغموض. وذلك ما يتابع العالم بأسره اليوم بعضا منها، وفي مقدمتها ما يتعلق بقدرته على مواجهة أصعب التحديات في ظل ظروف شديدة الوطأة، عميقة المغزى وبعيدة الدلالات.


على ضوء ما ماجت وتموج به الساحتان الروسية والعالمية من أحداث جسام، منها ما يكاد يفضي بعالمنا المعاصر إلى شفا حرب عالمية ثالثة، نعيش بعضا من مقدماتها فيما يجري من أحداث على صعيد الحرب الروسية الأوكرانية أو كما تسميها الدوائر الرسمية في موسكو «العملية العسكرية الروسية الخاصة».

font change