دموع كريستيانو

رسم: آندي إدواردز

دموع كريستيانو

مشهد اللاعبين الذين يرتمون على العشب عند سماع صافرة إعلان نهاية المباراة التي تقصيهم نهائيا من كأس العالم، يكاد يكون مألوفا، بل إنه بات جزءا من دراما كرة القدم، حتى على مستوى أقلّ من بطولة كأس العالم الأغلى معنويا والأكثر جماهيرية، وبالتالي الأشد شحنا باللحظات الفارقة التي لا يفوت عدسات آلاف الكاميرات رصدها وتوثيقها وإتاحتها للتداول.

لكنّ لحظة انهيار كريستيانو رونالدو في نهاية المواجهة مع منتخب المغرب أو "أسود الأطلس" كما يلقب، وخروجه وحيدا من الملعب، باكيا حدّ النحيب، ربما تكون الأكثر أيقونية بين تلك المشاهد. قبل تلك اللحظة، كانت الحيرة سيدة الموقف. هل سيفعلها مدير المنتخب فرناندو سانتوس ثانية، ويبقي كريستيانو على دكة البدلاء مثلما فعل في المباراة السابقة مع سويسرا، التي انتهت بفوز مظفر عدّه كثر، للمفارقة، هزيمة ساحقة لكريستيانو وإقصاء نهائيا له، من اللعبة نفسها، وليس من صدارة المنتخب، بوصفه مهاجمه وصانع ألعابه ولاعبه الأشهر (بل هو بلغة الأرقام والإحصاءات والجوائز، اللاعب الأعظم على مستوى العالم، مع الأرجنتيني ميسي، قبله أو بعده، بحسب هوى المتكلم وانحيازاته). كُثُر عدّوا ذلك الفوز البرتغالي، في غياب كريستيانو، ومع بروز نجم آخر صاعد هو غونزالو راموس، نهاية رسمية لكريستيانو وسقوطا له من ذرى المجد والشهرة إلى أروقة النسيان وحجراته المعتمة.

 

المواجهة

بعد الاستبعاد الأول كان على سانتوس أن يقدّم بعض الأجوبة. فالعالم بأسره يتساءل ومصير المواجهة الحاسمة المقبلة مع "قاتل العمالقة"، أي منتخب المغرب، على المحك. سانتوس نفسه، متعللا بمكانة رونالدو، لم يستطع البقاء صامتا طويلا. كان عليه أن يبرّر قراره ويعطي لمحة عما سيجري بعد ذلك. فأخبر الصحافيين والعالم، في مؤتمر صحافي، أنه تحدّث مع رونالدو عقب الغداء، يوم المواجهة المنتظرة مع سويسرا. أخبره بقراره. اعترض رونالدو بطبيعة الحال لأنه لم يعتد الجلوس على دكة البدلاء، وخصوصا في المواجهات الكبرى، ولم يهدّد مثلما شاع بالانسحاب من المنتخب.

بعد تلك المباراة مع سويسرا، التي انتهت لصالح البرتغال بستة أهداف ساحقة مقابل هدف واحد، وتخللها صعود نجم راموس بـ"هاتريك" يكاد يكون شبه مستحيل في بطولة صعبة مثل كأس العالم، وفي مرحلة حرجة منها، ازدادت التكهنات حول خلاف بين سانتوس ورونالدو، بسبب ما شاع أنه احتجاج النجم البرتغالي العلني على إخراج المدرب له من المباراة السابقة مع كوريا الجنوبية.

 

تأديب!

هناك من رأى في خطوة سانتوس تلك "تأديبا" لرونالدو أو صفعة تعيد إليه حسّ المسؤولية والانضباط، وزاد ذلك الشعور بصوابية "استراتيجية" المدرب المخضرم ذي الملامح القاسية عقب الفوز المدوّي على سويسرا. في حين رأى آخرون في ذلك إهانة متعمدة لرونالدو، سرعان ما ارتقت إلى مستوى الخيانة والطعن في الصدر والظهر معا، لدى تخلي سانتوس عنه، وربما عدد من رفاقه في المنتخب، خلال المواجهة مع المغرب.

بالنسبة إلى المدافعين عن سانتوس وقراراته، فالشعار هو "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، ومصلحة الجماعة فوق كلّ شيء. أما بالنسبة إلى المنافحين عن كريستيانو والمتعاطفين معه، سواء من المعجبين به أم من غير المعجبين، فقد برروا له صرخة الاحتجاج الفردية تلك (أكانت ضدّ المدرب أم ردا على استفزاز اللاعب الكوري، مثلما قال هو نفسه)، إذ رأوا فيها دفاعا عن النفس وانتقاما للكبرياء والكرامة الفردية. لحظة تمرّد على "السلطة"، متمثلة في سانتوس ومتجسدة أيضا في التوقعات الجاهزة بأنّ على اللاعب أن ينصاع ويكون "عاقلا" ومنضبطا ومسؤولا، أي أن يكون جزءا من اللعبة، لا اللعبة نفسها.

هذان الانضباط والمسؤولية، هما بالضبط ما تعلل به سانتوس لتخفيف آثار صدمة استبعاد نجمه الأول من المواجهة مع سويسرا، إذ استشهد باحتفاء كريستيانو بالأهداف التي حققها زملاؤه "بل إنه هو من دعا الفريق إلى شكر الجمهور بعد انتهاء المباراة"، ليؤكد بذلك أن استراتيجيته نجحت، ليس فقط في ضمان تذكرة العبور إلى المرحلة اللاحقة، بل في فرض هيمنته على لاعب، تحول هو نفسه إلى مؤسسة، وبدأ يستعد للانتقال إلى اللعب مع نادي النصر السعودي مقابل مبلغ عدّته أوساط الكرة خرافيا بكل المقاييس.

كان يمكن أن ينتهي الأمر هنا. وكان يمكن أن يدخل قرار سانتوس استبعاد كريستيانو في طيّ النسيان، أو أن يصبح مثالا على تفوق "الاستراتيجية" وقيم الانضباط والالتزام، على الفردية المتفلتة، في حال نجح رهان سانتوس وتكرّر الانتصار خلال المواجهة مع المغرب. السؤال التفضيلي الذي فرضته خيارات سانتوس (وربما مواقف كريستيانو): المؤسسة أم اللاعب؟ الفرد أم الجماعة؟ المدير أم "الموظف"؟ القائد أم التابع؟ هذا السؤال ظلت مآلاته مرتبطة بنتيجة المباراة مع المغرب.

 

 

دموع كريستيانو وانكساره ذكّرت سانتوس ومعه العالم، بأن سرّ سحر كرة القدم وجاذبيتها للجماهير حول العالم، هو أنها تتحدث أيضا بلغة القلب، وأنها تنتمي أولا وأخيرا إلى الخيال

 

ذلك كلّه تغيّر بعد انتهاء المباراة، وخروج كريستيانو باكيا من الملعب، بمشهدية مغايرة وأسئلة من نوع آخر. حجة سانتوس حول الانضباط والاستراتيجية تداعت مع دموع كريستيانو. أما تبريره الأبرز "لا أستطيع التفكير بقلبي"، الذي احتجّ به لإقصاء كريستيانو من المواجهة التي أرادها هذا الأخير تتويجا مشرفا لمسيرته المديدة مع كأس العالم، فلم تعد له قيمة تذكر. القلب انتصر على العقل في النهاية، إذ إن دموع كريستيانو وانكساره ذكّرت سانتوس ومعه العالم، بأن سرّ سحر كرة القدم وجاذبيتها للجماهير حول العالم، هو أنها تتحدث أيضا بلغة القلب، وأنها تنتمي أولا وأخيرا إلى الخيال، وليس إلى لغة الأرقام والخطط والخرائط والإحصاءات.

دهشة

تلك اللحظة التي يسمّيها أورسون ويلز بـ"الحادثة" التي تصنع الدهشة السينمائية، وتتحدّى كلّ التوقعات والسيناريوهات والترتيبات المسبقة، هي نفسها التي هيمنت على الدورة الأخيرة من كأس العالم. كلّ مباراة حملت مفاجأتها الخاصة، وسحرها المتفرد، كل هزيمة أو انتصار، جاء مخالفا للتوقعات، مغايرا للتحليلات، متحديا للإحصاءات، وفي النهاية انتصرت دائرية الكرة على المربعات والمثلثات والخطوط والزوايا الحادة التي تسعى جهود "مأسسة" اللعبة والأموال الطائلة التي تستثمر فيها إلى حصرها فيها.

جسّدت نهاية المباراة بين البرتغال والمغرب، لحظة التماهي المطلق بين اللعبة واللاعبين والمتفرجين عليها وعليهم. انتصار منتخب المغرب الذي لا ينتمي تقليديا (ومن يمثلهم من عرب وأفارقة) إلى نادي "الكبار" و"المفضلين" والمعترف بهم، هو انتصار للجماعات "الصغيرة" والمهمشة وغير المفضلة، وهو في الوقت نفسه انتصار فرديّ بامتياز. كلّ متفرج شعر على حدة بهذا الانتصار، وربما شعر بـ "انتقام" شخصي من حياة غير منصفة ولا عادلة، ولعلّ هذه اللحظة نفسها هي التي دفعت كثرا، جماعات وأفرادا، إلى التعاطف مع كريستيانو الذي كان حتى الأمس يمثل الكبار والنخب والمتفوقين، إلى أن أعادته دموعه لحظة الهزيمة والخيانة والخذلان، إلى عالم المصائر الفردية، عالم لا تحكمه دوما الخطط الكبرى ولا الأضواء الساطعة ولا حتى هدير الجماهير في المدرجات والشوارع، بل تسيطر فيه أحيانا الدموع المكتومة، والهزائم الصامتة، والخيبة المريرة تجاه تقلبات الكرة وانقلاباتها وغدر المقربين وخيانة الأصدقاء.

font change