"روجافا" تواجه مصيرا غامضا

الصورة لدليل سليماني - أف ب - "غيتي"
الصورة لدليل سليماني - أف ب - "غيتي"
من جنازة عنصر في "قوات سوريا الديمقراطية" قتل اثناء غارة تركية قرب القامشلي في أغسطس الماضي

"روجافا" تواجه مصيرا غامضا

تبدو منطقة الحكم الذاتي الفعلية في شمال وشمال شرق سوريا والتي يشير إليها الأكراد باسم "روج آف"، في حالة تتزايد خطورة. أما حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، وهو حزب كردي يهيمن على روجافا، فتعتبره تركيا منظمة إرهابية بسبب صلاته بحزب العمال الكردستاني (PKK). وتهدد أنقرة بغزو آخر لسوريا بعدما استولت بالفعل على مساحات شاسعة من الأراضي بين عامي 2016-2018. والذريعة هذه المرة هي الانتقام من هجوم اسطنبول الإرهابي الذي وقع في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2022 وأسفر عن مقتل ستة أشخاص في شارع "استقلال"، وهو عمل يزعم الأتراك أن التي نفذته سيدة سورية تعمل مع حزب العمال الكردستاني.

في الوقت الراهن، أخذت حماية الولايات المتحدة للأكراد السوريين في التأرجح، حيث تغض إدارة بايدن الطرف عن التدخل التركي الذي بدأ في 20 نوفمبر/تشرين الثاني، والذي أطلق عليه اسم "عملية المخلب السيف". في غضون ذلك، تواصل الحكومة السورية في دمشق إنكار إعلان الأكراد الحكم الذاتي في روجآفا واعتبارها غير شرعية. وأما الداعمون الروس الذين لعبوا دورا رئيسا في الماضي في التوسط في الصفقات التي جرت بين روجافا ودمشق، فقد تشتت انتباههم على أثر الحرب الأوكرانية، ويبدو أنهم باتوا يتكيفون بشكل متزايد مع المخاوف الأمنية التركية. ويمكن القول إن روجافا اليوم تواجه حالة من عدم اليقين أكثر من أي وقت مضى خلال 11 عامًا من الصراع السوري، أو بشكل أكثر تحديدًا، منذ أن هزم مقاتلوها مقاتلي تنظيم (داعش) في 2019. فهل يكون هذا بداية النهاية للحكم الذاتي الكردي في سوريا؟ أم أن الحكم الذاتي هذا سيتمكن من الصمود؟

كيف نشأت منطقة الحكم الذاتي الكردية

دبت الحياة في فكرة "روجافا" في 2012، أي بعد عام واحد من بدء الصراع السوري. وعندما انسحبت القوات الحكومية من أجزاء من الشمال والشرق لتركيز انتباهها على المناطق الأ كثف سكانا، أكد حزب الاتحاد الديمقراطي سيطرته على منطقة الفراغ الحاصل هناك. وكان انتقال الحكم في تلك المنطقة إلى أيدي حزب الاتحاد الديمقراطي في الواقع سريعًا سهلاً لدرجة أن البعض اتهم الأكراد بالتواطؤ والتعاون مع دمشق، وهي نظرية تبدو معقولة نظرًا لعلاقات الحكومة السورية الطويلة مع حزب العمال الكردستاني، والذي كان زعيمه عبد الله أوجلان ضيفًا على سوريا حتى خروجه القسري منها في عام 1998. وقد ظلت علاقات الأكراد مع نظام بشار الأسد غامضة، مع استمرار دمشق في دفع رواتب موظفي الحكومة في المناطق الكردية التي أخليت وتجنب الصراع العسكري معهم إلى حد كبير.

وعندما عزز حزب الاتحاد الديمقراطي سيطرته على المدن والبلدات الواقعة شرق نهر الفرات، هُزمت الجماعات الكردية المنافسة، ما سمح لحزب الاتحاد الديمقراطي، في أوائل 2014، بإعلان المناطق الواقعة تحت سيطرته على أنها أقاليم "روجافا" الثلاثة، وهي كلمة كردية تعني "الغرب"، أي "كردستان الغربية".

الأهم من ذلك، أن ذلك بدا وكأنه إعلان كردي للحكم الذاتي وليس للاستقلال. وقد أصرت قيادة حزب الاتحاد الديمقراطي على أن الاستقلال (أو الانفصال) ليس هدفهم، وأن حقيقة الأمر هي تنفيذ رؤية عبد الله أوجلان للأراضي الكردية، المتمثلة في إنشاء مجالس ديمقراطية محلية مستقلة تقدمية.

بالنسبة لمؤيدي الأكراد في شمال شرق سوريا، وفي أوساط المعجبين بهم في الغرب، كانت هذه بمنزلة مدينة "فاضلة" تقدمية، باعتبار من يراها ديمقراطية محلية حقيقية تجد نفسها بين طيات شرق أوسط استبدادي استبدادًا عظيمًا واسعًا. لهذا، جرى الاحتفاء على نحو خاص بالمساواة بين الجنسين في الأقاليم الكردية، حيث أصبحت رئاسة أي مجلس تتشكل بالاشتراك مناصفةً بين الرجال والنساء على سبيل الإلزام، إلى جانب إنشاء ميليشيا نسائية بالكامل، تعرف بوحدات حماية المرأة (YPJ)، وهي مكلفة بالقتال من أجل الحقوق الكردية يدًا بيدٍ وكتفًا إلى كتفٍ مع نظرائهن من الرجال في وحدات حماية الشعب (YPG). لكن بالنسبة للمنتقدين، لم تكن هذه المجالس الكردية المحلية سوى واجهة لهيمنة حزب الاتحاد الديمقراطي، حيث لا يُسمح إلا بقليل من المعارضة الحقيقية في "كردستان الغربية".

صعود "داعش"

جاء التحول الحقيقي في مسار "روجافا" والاتحاد الديمقراطي مع صعود "داعش"، الذي اجتاحت قواته مساحات شاسعة من الأراضي في شمال شرق سوريا بعد إعلان ما سماه التنظيم"الخلافة" في 2014. وعلى أثر صعود "داعش"، تلقى الأكراد على الفور تقريبًا الدعم والحماية من الولايات المتحدة. وشكلت واشنطن تحالفًا مع الأكراد بعد انتصار مقاتلي وحدات حماية الشعب ومقاتلات وحدات حماية المرأة على التنظيم في معركة كوباني - رغم كل الصعاب - في أوائل عام 2015. وبتشجيع من الولايات المتحدة، والذي اتخذ شكل الدعم العسكري والمالي، حاول حزب الاتحاد الديمقراطي توسيع قاعدة دعمه من خلال محاولة الظهور بمظهر يبدو عليه الحزب وكأنه أقل تمحورًا حول الأكراد. وأنشأ الحزب ما بات يعرف باسم "قوات سوريا الديمقراطية" (SDF)، التي ضمت المسيحيين السريان في شرق سوريا وبعض العرب إلى التحالف، ثم استبدل بهدوء اسم "روجافا" باسم "منطقة الحكم الذاتي في شمال وشمال شرق سوريا"، وهو اسم عملي يلائم الوظيفة والغرض المقصود منه. وقد أظهرهم ذلك في مظهر أكثر شمولاً، على الرغم من أن الاسم السابق ظل يهيمن على كل الأدبيات والخطابات الكردية. وعلى هذا، سُلمت المناصب العليا في قوات سوريا الديمقراطية، العسكرية والسياسية على حد سواء، لأكراد حزب الاتحاد الديمقراطي، حيث واصلت الولايات المتحدة توفير الأسلحة والمال والتدريب.

وقد مكن ذلك الحزب في نهاية المطاف من هزيمة التنظيم، واجتياح آخر معاقلهم في الباغوز (بمحافظة دير الزور) في عام 2019. ثم وسع الأكراد رقعة الأراضي الواقعة تحت حكمهم، على نحو عدواني إلى حد ما، على طول الطريق وصولاً إلى الحدود العراقية، متجاوزين بذلك المناطق ذات الأغلبية الكردية في شمال سوريا. وقد أثارت هذه النجاحات المتتالية مشاعر القلق وإشارات التحذير في الأوساط التركية.

المخاوف الأمنية التركية

من وجهة نظر تركيا، فإن حزب الاتحاد الديمقراطي "هو نفسه" حزب العمال الكردستاني، وهو منظمة انفصالية مسلحة تقاتلها أنقرة منذ أوائل الثمانينيات. وكان العديد من حلفاء تركيا الغربيين، بما في ذلك الولايات المتحدة، قد صنفوا بالفعل حزب العمال الكردستاني ككيان إرهابي. ومع ذلك، شدد حزب الاتحاد الديمقراطي على أن المسلحين الأكراد الأتراك والسوريين كانوا مختلفين، وهو تمييز يبدو أن واشنطن تقبله، بغض النظر عن مدى ضعف هذا الرأي في الواقع. وكان بعض الأكراد السوريين المنتمين للحزب حاليًا قد حملوا السلاح سابقًا للقتال مع حزب العمال الكردستاني في الثمانينيات والتسعينيات، بمن فيهم القائد الحالي لقوات سوريا الديمقراطية، مظلوم عبدي.

علاوة على ذلك، أعلن حزب الاتحاد الديمقراطي بفخر تمسكه بأيديولوجية عبد الله أوجلان، ورفع لوحة ضخمة تصور مؤسس حزب العمال الكردستاني في وسط الرقة، بعد تحريره من تنظيم الدولة.

لذلك، ولأسباب أخرى، تنظر أنقرة بريبة كبيرة إلى المجموعة الكردية، وكانت غاضبة من حلفائها الأميركيين لتزويدها بالمال والسلاح والتدريب المتقدم. ولدى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مخاوف أمنية حقيقية فيما يتعلق بتمكين جميع الجماعات الكردية المرتبطة بحزب العمال الكردستاني في سوريا، في حين أن شن الضربات العسكرية ضدهم يلقى دائما صدى جيدًا مع جمهوره المحلي، ما يزيد من معدلات تأييده قبل الانتخابات أو كلما احتاج إلى حشد السكان الأتراك.

ومع استمرار قوات سوريا الديمقراطية في توسيع سيطرتها على الأراضي السابقة التي كانت تخضع لـ"داعش" في جميع أنحاء سوريا، زادت العمليات التركية، وهي التي بلغ عددها ثلاث عمليات على الأقل في أقل من ثلاث سنوات، وكل ذلك بهدف معلن وهو مكافحة الإرهاب وتأمين الحدود التركية من التهديد الكردي.

في المرة الأولى، استولى الأتراك على مدينة الباب الحدودية والمناطق المحيطة بها في 2016، لمنع قوات سوريا الديمقراطية من السيطرة على المنطقة. ثم انتقلوا بعد ذلك في منتصف ٢٠١٨ الى بلدة عفرين الكردية التي كان يسيطر عليها حزب الاتحاد الديمقراطي، ثم تبع ذلك بعد عام واحد المنطقة المحيطة بتل أبيض.

في المناسبتين، طُردت قوات سوريا الديمقراطية وحزب الاتحاد الديمقراطي معًا، ثم جلبت مجموعات معارضة سورية صديقة لتتولى الحكم في ما أصبح دويلات تابعة موالية لتركيا. ومع ذلك، لم ينته أردوغان بعد، وصرح مرارًا عن نيته تطهير المنطقة الحدودية بأكملها من المسلحين الأكراد، على عمق يصل إلى 30 كيلومترًا داخل الأراضي السورية. وفي منتصف 2022، ألمح إلى إمكان استهداف البلدات الاستراتيجية في تل رفعت شمال حلب، ومنبج، وربما حتى مدينة كوباني التي اكتسبت رمزية معينة.

وخلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 2022، انتشرت شائعات في جميع أنحاء المنطقة، عن غزو تركي وشيك، قبل التفجير الذي وقع في اسطنبول في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، والذي ربطه أردوغان بحزب الاتحاد الديمقراطي.

وقد ارتفع التوتر إلى مستويات جديدة عندما بدأت القوات التركية في قصف المواقع الكردية في عمق سوريا، مع التهديد بعملية برية كاملة ضد معاقل الأكراد التي تشكل حجر الأساس في دعم حزب الاتحاد الديمقراطي. وعانى الأكراد بالفعل من ضربة كبيرة مع احتلال عفرين في 2018، وهي المدينة التي تأسس فيها حزب الاتحاد الديمقراطي في الأصل، ويخشى قادة "روجافا" على نحو يمكن فهم أبعاده، من أن عملية تركية جديدة من نفس الحجم قد تفضي بمشروعهم إلى أن يصير أثرًا بعد عين لا يمكن الدفاع عنه ما إن تصير تلك المناطق ذات غالبية عربية وليست كردية.

المساعدة من الخارج

ورغبة في تجنب هذا السيناريو بأي ثمن، بدأت قوات سوريا الديمقراطية في التواصل مع الأطراف الخارجية للحصول على مساعدتها. كانت الولايات المتحدة بطبيعة الحال هي أول وجهة للتواصل، بالنظر إلى استمرار قوات بالتمركز داخل مناطق شرق سوريا ولا تزال تسيطر على مجالها الجوي. وقد أكد قائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي، في مقابلة أجريت معه مؤخرًا في 7 ديسمبر/ كانون الأول 2022 مع صحيفة "الشرق الأوسط"، أن إدارة بايدن لن تسمح لتركيا بشن "عملية برية مدمرة" ضد قوات سوريا الديمقراطية، مضيفًا أن الحد من وتيرة الضربات الجوية التركية كان بسبب الضغط الأمريكي على أنقرة. ومع ذلك، فقد أعرب عن استيائه من صمت واشنطن بشأن الهجمات التركية السابقة، مدعيًا أنها لم تفعل سوى "الإدلاء بتصريحات لوسائل الإعلام".

ويسود قلق واسع النطاق من أن الولايات المتحدة قد حصلت في النهاية على ما كانت تحتاجه بالفعل من قوات سوريا الديمقراطية، بالتالي فإنها ستعطي الأولوية الآن لتحالفها مع تركيا، وهي العضو في الناتو، وليس لأكراد سوريا. هذه المخاوف ليست من دون أساس. فالآن وقد هزم "داعش"، تراجعت اولوية سوريا بالنسبة لإدارة بايدن التي تجد نفسها مضطرة إلى التركيز أكثر على الحرب في أوكرانيا، وهو صراع يتطلب الحياد التركي. وفي مقابل ذلك، قد تغض واشنطن الطرف عن هجمات أنقرة على مناطق قوات سوريا الديمقراطية في سوريا.

يضاف الى ذلك، إن للولايات المتحدة سجل ولاء سيئ مع حلفائها الأكراد. لقد تخلت عنهم لأول مرة في السبعينيات، ومؤخرًا لم تفعل الكثير لمساعدتهم في العراق عندما فقدوا السيطرة على كركوك في 2017. ثم جربت قوات سوريا الديمقراطية شيئا من الخداع الأميركي عندما أعطى دونالد ترامب الضوء الأخضر لغزو أردوغان لتل أبيض في 2019. وربما كان جو بايدن قد قدم تأكيدات بأنه سيكبح تركيا عن شن أي هجوم مستقبلي على سوريا، لكن حزب الاتحاد الديمقراطي محق في التشكك فيما قد يكون المستقبل يخبئه له.

يسود قلق واسع النطاق من أن الولايات المتحدة قد حصلت في النهاية على ما كانت تحتاجه بالفعل من قوات سوريا الديمقراطية، بالتالي فإنها ستعطي الأولوية الآن لتحالفها مع تركيا، وهي العضو في الناتو، وليس لأكراد سوريا. 

وفي هذا الصدد، يجادل البعض في حزب الاتحاد الديمقراطي بأن على "روجافا" السعي للمصالحة مع الأسد تحت حماية حلفائه الروس. وتتمتع موسكو وقوات سوريا الديمقراطية بالفعل بعلاقات عملية وظيفية. وفي 2019، أبرم عبدي اتفاقًا مع روسيا، على خلفية عملية تركية وإعلان الرئيس ترامب أنه سيسحب القوات الأميركية من سوريا. وبموجب شروط اتفاقية 2019، التي لم تنفذ في نهاية المطاف، كان من المقرر أن يرسل الأسد وبوتين قوات إلى الحدود السورية التركية لمنع تركيا من التوسع في أراضي قوات سوريا الديمقراطية، مع الإشراف على اتفاقية هدنة في سوتشي.

وبينما تقدر الولايات المتحدة علاقتها مع تركيا، تولي روسيا أهمية لتحالفها مع الأسد أكثر مما تولي علاقتها مع الأكراد. ولهذا يخشى أعضاء قوات سوريا الديمقراطية من احتمال أن تبيعهم موسكو هي الأخرى، كما فعلت في 2018 عندما سقطت عفرين في أيدي تركيا، بعد أن أعطت روسيا الإذن للقوات الجوية التركية باستخدام المجال الجوي السوري. ويدرك قادة حزب الاتحاد الديمقراطي أنه إذا غادرت الولايات المتحدة سوريا أو توقفت عن دعمهم، فلن يكون أمامهم خيار سوى طلب الحماية الروسية في وجه تركيا، وهذا بدوره يتطلب الخضوع لبشار الأسد.
 
بين المشككين والحذرين


لكن المتفائلين في حزب الاتحاد الديمقراطي (ومن بينهم عبدي) يميلون إلى الاعتقاد بأن المصالحة مع الأسد لن تنهي بالضرورة مشروع "روجافا". وبالنظر إلى أن دمشق باتت ضعيفة بعد أكثر من عقد من الحرب الأهلية، وأن روسيا مشتتة بسبب الحرب في أوكرانيا، فقد يكون من الممكن قبول حكم الأسد اسميًا، مع الحفاظ على الهيكل المستقل لمجالس روجافا "الديمقراطية". وبالمثل، قال عبدي إن قوات سوريا الديمقراطية يمكن دمجها في الجيش السوري.

ومع ذلك، يقول المشككون إن الأسد لا يمكن الوثوق به، زاعمين أنه وحلفاءه الروس قد يقبلون مجموعة من مطالب قوات سوريا الديمقراطية، دون احترامها على المدى الطويل. وإذا حدث وأن غادرت القوات الأميركية سوريا، وهو بلا شك شرط تحرص عليه كل من موسكو ودمشق، فلن تكون هناك حينئذٍ أي حماية خارجية لحزب الاتحاد الديمقراطي. عندئذٍ، يمكن أن يبدأ الأسد ببطء في إعادة تأكيد سيطرته على روجافا.

يقول المشككون إن الأسد لا يمكن الوثوق به، زاعمين أنه وحلفاءه الروس قد يقبلون مجموعة من مطالب قوات سوريا الديمقراطية، دون احترامها على المدى الطويل

ومن المعروف أن نظام الأسد يتمتع بعقود من الخبرة في السيادة والهيمنة كان قد اكتسبها من تجربته في لبنان، حيث كان يتلاعب بدافع من الريبة طيلة ما يقرب من ثلاثين عامًا بفصائل مختلفة ويحرك بعضها ضد بعضها. وكان قد لجأ كذلك إلى سياسة الاغتيالات المدروسة عندما شعر بحاجته لإجراء مناورة سياسية تعيد ترتيب الأمور في اتجاه إيجابي له. لذلك فإن المتشككين في حزب الاتحاد الديمقراطي قلقون لأسباب مفهومة من أنه إذا سُمح لهم بالعودة إلى روجافا، فإن النظام سيحاول فعل الشيء نفسه، بغض النظر عن المدة التي سوف يستغرقها في سبيل ذلك.

ولهذا كله، تواجه قيادة روجافا خيارًا غير مستساغ بين أمرين: إما الإبقاء على ثقتها في الولايات المتحدة، على أمل أن تحميهم من أي عدوان في المستقبل، أو التخلي عن واشنطن والسعي إلى المصالحة مع دمشق من خلال موسكو. السيناريو الأول سيكون مشروطًا ومرهونًا بمدى التزام بايدن وخلفائه تجاه أكراد سوريا، وأما السيناريو الثاني فإنه سيتعين فيه أن يؤخذ في الاعتبار عدم جدارة الأسد بالثقة واحتمال أنه سيتجاهل بمرور الوقت أي تنازلات يعد بها اليوم.
 
الاستلهام من العراق، أم أخذ العبر منه؟
وقد يجد بعض الأكراد السوريين الإلهام لدى إخوانهم في العراق، وهم الذين كانوا في وضع مماثل في التسعينيات، عندما وفرت الولايات المتحدة الحماية لهم من صدام حسين. وفي هذه الحالة، تمسكت الولايات المتحدة بحلفائها الأكراد، ما أدى في النهاية إلى الإطاحة بصدام وتسهيل إنشاء حكومة إقليم كردستان المتمتعة بالحكم الذاتي. ومع ذلك، فإن الظروف أقل مواتاة بكثير لأكراد سوريا، لاعتبارات عدة. أولاً، على خلاف ما كان في تسعينيات القرن الماضي، فإن القوة العالمية والإقليمية للولايات المتحدة تتضاءل ولم تعد كما كانت في عهد جورج بوش الأب أو في عهد نجله. ومنذ فترة حكم إدارة أوباما، كانت واشنطن ولا تزال تبحث عن طرق لفك ارتباطها عن المنطقة، بينما كانت تعمل في التسعينيات على زيادة حضورها فيها، وذلك في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي مباشرة. ومن المؤكد أن فرصة شن الولايات المتحدة غزو لدمشق كما فعلت في بغداد عام 2003 ضئيلة للغاية.

ثانيًا، الأسد ليس صدام. فبينما كان صدام معزولاً على المستوى الدولي، وغير قادر على منع اللاعبين الخارجيين من إخراج الشمال العراقي عن سيطرته، فإن الأسد مدعوم من روسيا وإيران. أخيرًا، يختلف موقف تركيا بشأن سوريا اختلافًا كبيرًا عن موقفها الذي كانت عليه حيال العراق، حيث قبلت هناك الحكم الذاتي الكردي وأثبتت في النهاية أنها شريك تجاري رئيسي لحكومة إقليم كردستان بعد أن حصلت على حكم ذاتي رسمي في عام 2003. وعلى النقيض من ذلك، فإن تركيا تبغض حزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا وستقاوم قيام أي نوع من مناطق الحكم الذاتي الرسمية في هذه الدولة التي مزقتها الحرب.
لكن حتى حكومة إقليم كردستان أدركت أن طموحاتها كانت محدودة عندما دعت إلى استفتاء للاستقلال في عام 2017، وهو الذي رفضه جميع جيرانها رفضًا قاطعًا، ما أدى إلى حصار اقتصادي أعقبه توغل عسكري من بغداد. أما روجافا فهي أضعف بكثير من الناحية القانونية والدولية من تلك التي كانت عليها نظيرتها العراقية. وسواء اختار عبدي وقادة آخرون من  سوريا الديمقراطية الإبقاء على ثقتهم بالولايات المتحدة أو رمي حجر الرهان والمقامرة في ساحة الأسد وروسيا، فإن الأطراف التي بيدها هذا الملف لن تقبل على ضخ الأموال على روجافا حتى لو حدث وأن تمتعت في نهاية المطاف بنفس الحكم الذاتي الرسمي الذي يتمتع به شمال العراق.

إن موت روجافا ليس محققا، ولكنها تواجه مصيرًا صعبًا في مقبل الأيام.

 


 

font change