عندما قبل عبد الناصر بمفاوضة إسرائيل

الفكرة راودت الرئيس المصري منذ عام 1952

أ ف ب
أ ف ب
الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر والزعيم الليبي معمر القذافي يصلان معاً إلى مقر القمة العربية في الرباط في 23 ديسمبر 1969

عندما قبل عبد الناصر بمفاوضة إسرائيل

قبل قرابة الشهرين، انتشر تسجيل صوتي على مواقع التواصل الاجتماعي يعود إلى شهر أغسطس/آب 1970، سمع فيه الرئيس المصري جمال عبد الناصر، يحدث الزعيم الليبي معمر القذافي عن استحالة تحرير فلسطين. فضّل عبد الناصر الدخول في مفاوضات سلام مع إسرائيل، ما أثار حفيظة جمهوره الغفير، الذي طالما هاجم الرئيس أنور السادات ووصفه بـ"الخائن" لأنه زار إسرائيل عام 1977، ووقع على اتفاقية "كامب ديفيد" عام 1978. رفضوا التصديق بأن "ناصر العرب" كان مستعدا للدخول في مفاوضات سلام مع الإسرائيليين، بعد ثلاث سنوات من هزيمته في حرب يونيو/حزيران 1967، قبل أسابيع قليلة من وفاته في شهر سبتمبر/أيلول 1970. ولكن إذا عدنا إلى أرشيف الصراع العربي الإسرائيلي، نجد أن هذه الفكرة قد راودت الرئيس المصري منذ عام 1952، وقد دخل في مفاوضات سرية من يومها، كانت نتيجتها الفشل.

قناة اتصال سرية في باريس

في خريف عام 1952، كان الملحق الصحافي المصري في باريس عبد الرحمن صادق، حاضرا في قصر شايو، مقر اجتماعات الهيئة العامة للأمم المتحدة في فرنسا، عندما تقدم منه أحد موظفي السفارة الإسرائيلية. قال له: "أنا يهودي، وأريد أن أرى سلاما بين مصر وإسرائيل". سأله صادق: "هل أنت يهودي أم إسرائيلي؟".

أجاب الرجل أنه يعمل في السفارة الإسرائيلية في فرنسا، وعندها سأله صادق: "من تمثل؟" أجاب الدبلوماسي الإسرائيلي: "أمثل موشي شاريت، واسمي زيامه ديفون". كان موشي شاريت أحد الآباء المؤسسين لدولة إسرائيل، وقد هاجرت أسرته إلى فلسطين عام 1906، حيث أتقن اللغة العربية، وعاش طفولته بين رام الله ويافا. تعرف على رياض الصلح في مرحلة مبكرة، عندما كان الأخير يقضي إجازات الصيف مع أبيه في فلسطين، وفي عام 1949، حاول شاريت الدخول في مفاوضات سلام مع سوريا في عهد حسني الزعيم. وفي سنة 1952، سعى شاريت إلى إقامة سلام مع مصر، بعد أشهر من الانقلاب العسكري، الذي أطاح بحكم الملك فاروق، وفوض زيامه ديفون بفتح قناة تواصل مع عبد الرحمن صادق.

وفي لقاء مسجل لديفيد بن غوريون، بثّته قناة "BBC" في نهاية التسعينات، قال: "إنه حاول التواصل مع عبد الناصر بواسطة الرئيس اليوغوسلافي جوزيف تيتو، حيث عرض عليه الدخول في مفاوضات سرية مباشرة، ولكن عبد الناصر رفض، قائلا إن هذا الأمر قد يعرضه للاغتيال".

في لقاء مسجل لديفيد بن غوريون، قال: "إنه حاول التواصل مع عبد الناصر بواسطة الرئيس اليوغوسلافي تيتو، حيث عرض عليه الدخول في مفاوضات سرية مباشرة، ولكن عبد الناصر رفض، قائلا إن هذا الأمر قد يعرضه للاغتيال"

موافقة عبد الناصر

بعد هذا الاجتماع الخاطف، عاد عبد الرحمن صادق إلى مصر، وزار جمال عبد الناصر في مكتبه الذي بادره بالسؤال: "كيف حال صديقك؟"، كان عبد الناصر عضوا في "مجلس قيادة الثورة"، وقد علم باجتماع صادق مع ديفون ولم يعارضه، بل شجع عليه شرط أن لا يتطرق الحديث إلى الأمور العسكرية. طلب إلى صادق الاستمرار باللقاءات غير الرسمية مع ديفون، وبأن يعلمه بسيرها عبر رسالة خطيّة، يرسلها عبر الحقيبة الدبلوماسية ويوجهها إلى مدير مكتبه علي صبري. عاد صادق إلى باريس، والتقى مجددا بديفون في 1 فبراير/شباط 1953، قائلا: "إنه مخول بالتواصل من قبل شخصية رفيعة من القيادة السياسية المصرية، دون أن يسمي عبد الناصر بالاسم". على مدى جلسات عدة عقدت في الفنادق والمقاهي، جرى التطرق إلى المواضيع الآتية:

1- وقف التحريض الإعلامي المصري ضد إسرائيل، والإسرائيلي ضد مصر.

2- ضبط العمليات العسكرية الفلسطينية من قطاع غزة.

3- أن تستخدم إسرائيل ما لديها من نفوذ كبير في بريطانيا لتحرير قناة السويس.

4- أن تستخدم مصر ما لديها من نفوذ لتخفف من الاحتقان العربي تجاه إسرائيل.

سأل صادق إن كانت إسرائيل مستعدة لإعادة المواطنين الفلسطينيين، الذين طردوا من ديارهم سنة 1948، فأجابه ديفون، بحسب شهادته على قناة "BBC" بأن "إسرائيل مستعدة لمناقشة هذا الأمر". سأله صادق: "كم ستعيدون منهم؟ سبعين في المئة؟ ثمانين في المئة؟ تسعين في المئة؟"، لم يجب ديفون على هذا السؤال، وانتقل للحديث عن حق إسرائيل باستخدام قناة السويس، فأجابه صادق: "ننتظر تحرير القناة أولا".

غيتي
أعلن الرئيس المصري جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس أمام حشد بلغ 250 ألف شخص خلال الاحتفال بالذكرى الرابعة لثورة 26 يوليو 1956

مجزرة قبيا

لبناء الثقة بين البلدين، التزم موشي شاريت، بما توصلت إليه مفاوضات باريس، كما التزم بها عبد الناصر. وبالفعل، تمكن الأخير من إيقاف العمليات الفدائية من غزة، ولكنه لم يتمكن من ضبط تحركاتها من الأردن، حيث لا سلطة له ولا نفوذ. وفي 12 أكتوبر/تشرين الأول 1953، هاجم مقاتلون فلسطينيون من الأردن مستوطنة إسرائيلية، وقتلوا سيدة. فرد الجيش الإسرائيلي بمهاجمة قرية قبيا في الضفة الغربية يوم 14 أكتوبر. قاد هذه العملية الضابط الشاب آرئيل شارون، وقتل خلالها 69 فلسطينيا، مع تدمير 45 منزلا.

كان ردا قاسيا من قيادة الجيش الإسرائيلي، وادعى موشي شاريت أنه لم يأمر به، ولم يكن موافقا عليه. في باريس، سأل عبد الرحمن صادق ديفون عن هذه المجزرة، فأجابه الأخير بأنهم "متطرفون إسرائيليون"، يتبعون رئيس الوزراء الأسبق ديفيد بن غوريون. عاد صادق إلى مصر لإبلاغ عبد الناصر، فقال له الأخير: "قررت أن أدخل المعركة بين المعتدلين والمتشددين في إسرائيل. سأخرج إلى العلن، وبإمكانك أن تخبر الشخص الذي تجتمع به في فرنسا بأنني المسؤول عن هذه المفاوضات". ولكن الأجواء العامة في إسرائيل لم تكن مستعدة لإنجاح هذه المساعي، وقد تدخل لإفشالها بن غوريون عبر بنحاس لافون، وزير الدفاع في حكومة موشي شاريت.

أجهضت مفاوضات صادق– ديفون، وأدرك عبد الناصر أنه لا خيار أمامه إلا محاربة إسرائيل، بعد مذبحة قبيا، وما عرف بفضيحة لافون، وقد نقل عنه قوله آنذاك: "عاوزين سلاح، حتى لو من الشيطان نفسه"

عملية لافون

خطط لافون لشن سلسلة من العمليات الإرهابية ضد مصالح أجنبية داخل مصر، تهدف أولا إلى ضرب العلاقات المصرية الغربية، وإبقاء البريطانيين في قناة السويس، وإلى نسف مفاوضات باريس السرية بين زيامه ديفون وعبد الرحمن صادق. جندت إسرائيل خلية سرية من 13 يهوديا مصريا للقيام بهذه الأعمال التخريبية، وفي 2 يوليو/تموز 1954، فجرت مركز البريد في الإسكندرية، وبعدها بأقل من أسبوعين، ضربت مسرحا ومكتب الإعلام الأميركي في الإسكندرية والقاهرة.

غيتي
ياسر عرفات والملك حسين ملك الأردن يتصافحان بحضور الرئيس المصري جمال عبد الناصر، في 27 سبتمبر 1970 في القاهرة

ألقي القبض على أحد أعضاء هذه الخلية، وفي التحقيقات، تبين أنها تعمل لصالح إسرائيل. أعلن الخبر عبر الإذاعة الرسمية المصرية، وعندما سمعه شاريت قال لمستشاره غيديون رفائيل: "لا يمكن... أنا رئيس الوزراء ولم أعطِ أوامر بهذا الشأن". سارع شاريت لإبلاغ عبد الناصر– بواسطة صادق– بأنه بريء من هذه الشبكة، طالبا العفو لأعضائها المعتقلين. أجابه عبد الناصر بعد أيام أن الأمر خرج من يده، وأصبح مسألة رأي عام مصري وعربي. أقصى ما يمكن له أن يفعله هو ضمان محاكمة عادلة للمعتقلين، ولكنه بالمقابل، أوقف الرقابة التي فرضت على الصحف المصرية، وسمح لها بمهاجمة إسرائيل. بدأت المحاكمات في 11 ديسمبر/كانون الأول 1954، واستمرت لغاية 27 يناير/كانون الثاني 1955. انتحر اثنان من المعتقلين في السجن، وحكم على اثنين آخرين بالإعدام شنقا، بينما حكم على البقية بالسجن ما بين سبع سنوات إلى المؤبد.

علّق موشي شاريت في مذكراته: "إذا لم أُقِل لافون، فسأكون قد دعمت شيئا عفنا سوف يُدمر وزارة الدفاع وقيادة الجيش. وإذا اتخذت إجراء ضده، فسوف أدمر الحزب وأسبب فضيحة. ماذا أفعل؟". أجبر لافون على الاستقالة من منصبه في 21 فبراير/شباط 1955، ولكن الضرر قد وقع. أجهضت مفاوضات صادق– ديفون، وأدرك عبد الناصر أنه لا خيار أمامه إلا محاربة إسرائيل، بعد مذبحة قبيا، وما عرف بفضيحة لافون، وقد نقل عنه قوله آنذاك: "عاوزين سلاح، حتى لو من الشيطان نفسه".

font change

مقالات ذات صلة