هل هناك حرب أهلية أميركية جديدة في الأفق؟

الاستقطاب السياسي وانتشار الأسلحة وظهور الميليشيات عوامل تُنذر باندلاع قتال قد يتركز داخل المدن

أندريه كوجوكارو
أندريه كوجوكارو

هل هناك حرب أهلية أميركية جديدة في الأفق؟

كان الشخص الذي هاجم مكتب التحقيقات الفيدرالية في 11 أغسطس/ آب الماضي، جنديا أميركيا سابقا ويرتدي سُترة واقية من الرصاص ومُسلحاً ببندقية آلية. وكان قد كتب على مواقع التواصل الاجتماعي أن مكتب التحقيقات الفيدرالية يُشكل تهديدا للولايات المتحدة بعد دخوله إلى منزل دونالد ترمب في فلوريدا وإعادته الوثائق السرية إلى سيطرة الحكومة. وكتب أيضاً أنه لابد من قتل ضباط المكتب.

وعندما انطلق جرس الإنذار أثناء فحص الزوار، حاول المهاجم الفرار في سيارته فحاصرته الشرطة على الطريق وفتح النار عليها. ردت الشرطة عليه بالمثل وأردته قتيلا. ويصفه المتطرفون اليمينيون على مواقع التواصل الاجتماعي بـ"البطل الشهيد"، فيما يساور القلق العميق العديد من المراقبين السياسيين في الولايات المتحدة بشأن المستقبل.

ونشرت صحيفة "نيويورك تايمز" في 6 أكتوبر/تشرين الأول الماضي مقالة على صفحتها الأولى بعنوان: "تزايد الحديث عن الحرب الأهلية". فقد خلص استطلاع للرأي أجرته مجلة "الإيكونوميست" ومنظمة "يوغوف" في أغسطس (آب) الماضي، إلى أن ما يقرب من نصف الأميركيين يعتقدون أن نشوب حرب أهلية أمر محتمل الحدوث خلال السنوات المقبلة. وأشار كتابان نُشرا العام 2022 إلى تفشي ظاهرة الميليشيات، وارتفاع وتيرة الاستقطاب السياسي وحذرا من أن الولايات المتحدة معرضة لمخاطر جسيمة باندلاع الحرب الأهلية.

وفي حين يرفض بعض المحللين استطلاعات الرأي ذات الصلة، ويشككون في احتمال نشوب حرب أهلية جديدة، إلا أنه ليس هناك مفر من خطر تزايد العنف السياسي إثر الانقسامات السياسية العميقة.

هل يمكن للحكومة الأميركية أن تتعثر في خطواتها إلى الأمام؟

من المهم ملاحظة أن الحياة تتواصل يومياً في الولايات المتحدة على نحو يبدو طبيعيا في الظاهر، وربما تتعثر الحكومة الأميركية لسنوات عديدة من دون اندلاع أزمة كبيرة أو نشوب حرب أهلية.

أحد العوامل المساعدة في هذا السياق أن الحكومة تعمل على المستويات المحلية أفضل مما تفعل الحكومة المركزية في واشنطن. وتدير الحكومة المحلية المدارس وقوات الشرطة وجمع النفايات وصيانة الطرق الحيوية والمطارات. واعتاد الكاتب جيمس فالوز الكتابة عن سياسة الأمن القومي الأميركي، لكنه غيّر تركيزه إلى تناول شؤون الحكومة المحلية، وهو متفائل. فقد قال في كتابه الصادر عام 2017 بعنوان: "بلداتنا: رحلة إلى القلب الأميركي"، أن الجمهوريين والديمقراطيين في المدن الصغيرة، في مختلف أنحاء أميركا، ما زالوا يعملون سوياً بسلاسة ويسر.

بيد أن الأحداث في أميركا تتفوق على الرسالة المتفائلة التي تبثها مشاعر السيد فالوز. فثمة مؤشرات، منذ 2017، على الاستقطاب السياسي الحاد الذي يصيب البلديات الآن. وفي الولايات المحافظة مثل تينيسي وتكساس وفلوريدا، يريد الحزب الجمهوري مشاركة الأحزاب السياسية في انتخابات مجالس المدارس المحلية (المجالس المحلية التي تحدد السياسات المدرسية، بما في ذلك برامج التعليم). ففي الماضي، كانت انتخابات مجالس المدارس غير سياسية، وكان التركيز فيها مُنصباً على القضايا الفنية، مثل الموازنات ومتطلبات البنية التحتية المدرسية. لكن خلال السنوات الأخيرة الأربع، بدأ الحزب الجمهوري في استغلال المخاوف بشأن تدريس التاريخ الأميركي والعلاقات العرقية من أجل فرض الصبغة السياسية على انتخابات مجالس إدارات المدارس، وتنشيط الأمهات والآباء للتصويت لصالح الجمهوريين. في الوقت ذاته، فإن حالات إساءة الشرطة التعامل مع المواطنين، لا سيما ضد المواطنين السود والاستجابة المناسبة، جعلت مسألة الشرطة المحلية أكثر إثارة للجدل وذات طابع سياسي باستمرار.

هل الحل في دستور جديد؟

عملتُ في بلدان مثل الجزائر والعراق وسوريا، واجهت أزمات سياسية وتحولت جميعها إلى التغيير الدستوري لمحاولة معالجة الأسباب الجذرية للاستقطاب السياسي. وفي أميركا كذلك، تدور المناقشات الآن حول عقد مؤتمر وطني لتغيير الدستور. ومنذ انعقاد المؤتمر الأول عام 1789، لم يُعقد أي مؤتمر دستوري آخر. وتنص المادة الخامسة من دستور الولايات المتحدة على وجوب عقد الكونغرس للمؤتمر الوطني إذا طالب به ثُلثا الولايات في البلاد، ما يعني أن 34 ولاية لابد وأن تدعم المطلب هذا. وحتى الآن، وافقت المجالس التشريعية في 19 ولاية فقط، جميعها خاضعة لسيطرة الحزب الجمهوري، على قرارات تدعو إلى عقد مثل هذا المؤتمر، بما في ذلك انضمام أربع ولايات جديدة في عام 2022.

 أجندة الجمهوريين واضحة: يريدون الحد من سلطة الحكومة المركزية، ومنح حكومات الولايات المزيد من الصلاحيات، ويريدون فرض حدود قانونية لإنفاق الحكومة المركزية. كما شرع البعض من الحزب الديمقراطي في تأييد عقد مؤتمر دستوري جديد، وأجندتهم تدعو سلطة الحكومة المركزية إلى الحد من ملكية الأسلحة، وزيادة حماية الحكومة للحقوق المدنية

 

الواقع أن أجندة الجمهوريين واضحة: إنهم يريدون الحد من سلطة الحكومة المركزية، ومنح حكومات الولايات المزيد من الصلاحيات، ويريدون فرض حدود قانونية لإنفاق الحكومة المركزية. كما شرع البعض من الحزب الديمقراطي في تأييد عقد مؤتمر دستوري جديد، وأجندتهم تدعو سلطة الحكومة المركزية إلى الحد من ملكية الأسلحة، وزيادة حماية الحكومة للحقوق المدنية. وتعمق مثل هذه القضايا من حالات الاستقطاب الشديدة في الولايات المتحدة، وليس من الواضح كيف سينجح المؤتمر الدستوري الجديد والكبير بين الأميركيين المنقسمين على أنفسهم في التوصل لإجابات. إذ يمكن بسهولة للمؤتمر التحول لحالة منفجرة من الجدال المرير بين مختلف المندوبين. 
وكما هو الحال في الجزائر وسوريا والعراق، فإن التعديلات الدستورية لا تقدم حلولاً جذرية للمشاكل القائمة.

كيف سيكون شكل الحرب الأهلية؟

إذا لم يكن هناك حل سياسي للاستقطاب في الأفق، فكيف قد يبدو شكل الحرب الأهلية في أميركا؟ 
من المرجح أن يشارك فيها المئات من العنصريين البيض، والميليشيات المحافظة على أحد الجوانب. ويحذر المحللون الخبراء في شؤون الميليشيات اليمينية من أن بعضها يستعد علنا للصراع المسلح، ويتدرب عناصرها علنا على مهمات قتالية وعلى استخدام البنادق الآلية ومختلف الأسلحة ولا يُخفون توقعاتهم بمحاربة الحكومة المركزية يوما ما.


على الجانب المقابل، سوف تكون قوات الأمن الحكومية مدعومة بشكل خاص من المدن ذات التركيبة السكانية المتنوعة. ومن المحتمل وجود جماعات مسلحة شُكلت أيضاً للدفاع عن حركات الاحتجاج اليسارية. وقد رأينا مجموعة مسلحة تحتشد لحماية المتظاهرين السود في جورجيا عام 2020. ومن المهم أن نتذكر توافر نحو 430 مليون قطعة سلاح ناري بين السكان الأميركيين البالغ عددهم 330 مليون نسمة، وأن ملكية السلاح منتشرة بصفة خاصة في المناطق الريفية من البلاد.

إن حرباً أهلية جديدة اليوم لن تشبه الحرب الأهلية الأميركية في القرن التاسع عشر أبداً، مع الجيوش التي ترتدي الملابس العسكرية وخطوط المواجهة التي تتحرك شمالاً وجنوباً. فالمجتمعات البيضاء والأقليات مختلطة في كل ولاية، والجمهوريون والديمقراطيون مختلطون كذلك. وعلى الأرجح، فإن الحرب الأهلية في أمريكا، إذا ما اندلعت، سوف تكون أشبه بالقتال في الجزائر خلال "العشرية السوداء" من تسعينات القرن الماضي، حيث كان المتطرفون الإسلاميون وأنصار الحكومة يعيشون في المدن ذاتها. وقد يكون القتال في المحافظات والمدن العراقية المختلطة، مثل بغداد، مثالاً جيداً آخر على ذلك. وفي الجزائر، قطعت الميليشيات المناوئة للحكومة الطرق، وأوقفت السيارات والحافلات، واعتقلت أو اغتالت المعارضين المحتملين، واقتحمت المنازل ليلاً في كثير من الأحيان، كما أرهبت، وربما قتلت، السكان "المشتبه" في دعمهم للحكومة المركزية. وفي الأثناء ذاتها، وُجهت الاتهامات لقوات الأمن الجزائرية المحلية بمساعدة الميليشيات الموالية للحكومة عبر ارتكاب انتهاكات مريعة لحقوق الإنسان.


يمكننا تصور نشوب بعض الاشتباكات في بعض الأماكن بين الميليشيات اليمينية والشرطة المحلية ووحدات الجيش. وقد تكون هناك حالات ينشق فيها الجنود عن وحداتهم العسكرية، كما حدث في الجزائر وسوريا. وقد حذر بعض الضباط الأميركيين من تسلل العناصر المتطرفة الى داخل الجيش الأميركي، كما أن العديد من أعضاء الميليشيات اليمينية لديهم خبرة عسكرية سابقة. مع ذلك، فإن المؤسسة العسكرية الأميركية تتمتع بقوة هائلة، وهذا من شأنه التأثير على الكيفية التي تُدار بها الحرب الأهلية. وتوقعت المحللة السياسية الأميركية باربرا  ف. والتر، التي ألفت كتاباً أوائل 2022 بعنوان: "كيف تبدأ الحروب الأهلية"، أن الحرب الأهلية الأميركية الجديدة قد تُشبه موجات العنف بين الكاثوليك والبروتستانت في إيرلندا الشمالية إبان سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، إذ لم يحاول الجيش الجمهوري الأيرلندي الاستيلاء على مدن في إيرلندا الشمالية، لكنه استخدم القنابل والاغتيالات ضد الجيش البريطاني وأنصاره.


وفي الجزائر، لم تحاول الميليشيات الإسلامية المتطرفة الاستيلاء على المدن والسيطرة عليها في مواجهة الجيش الجزائري القوي. بدلاً من ذلك، تعرضت للجيش الجزائري بهجمات الكمائن والاغتيالات والقنابل على جوانب الطرق. وغالباً ما كانت هذه الميليشيات تنفذ هجماتها تحت جنح الليل.

إن حرباً أهلية جديدة اليوم لن تشبه الحرب الأهلية الأميركية في القرن التاسع عشر أبداً، مع الجيوش التي ترتدي الملابس العسكرية وخطوط المواجهة التي تتحرك شمالاً وجنوباً. فالمجتمعات البيضاء والأقليات مختلطة في كل ولاية، والجمهوريون والديمقراطيون مختلطون كذلك

إن هجوم السيارة المفخخة ضد المبنى الحكومي في مدينة أوكلاهوما عام 1995 على أيدي متطرف يميني، الذي أسفر عن مصرع 160 شخصا، مع هجوم 11 أغسطس (آب) 2022 على مكتب التحقيقات الفيدرالية، هما مثالان على هذا النوع من الهجمات التي شهدناها بالفعل في الولايات المتحدة. إضافة إلى ذلك، أشارت دراسة، أجرتها جامعة جورج واشنطن في سبتمبر /أيلول 2022 في العاصمة واشنطن، حول العنف السياسي في أميركا، إلى أنه منذ عام 2019، شنت الجماعات العنصرية البيضاء المزيد من الهجمات ضد أهداف البنية التحتية في البلاد. وأشارت الدراسة، على وجه الخصوص، إلى وجود المزيد من المؤامرات للهجوم على شبكة الكهرباء. وكانت هجمات المتمردين ضد البنية التحتية شائعة في الحروب الأهلية في الجزائر والعراق أيضاً.

هل المخاوف قاتمة أكثر مما ينبغي؟
كتب المؤلف الأميركي توماس ريكس كتابين ممتازين عن الحرب في العراق، كما ألّف كتباً رائجة عن التاريخ السياسي الأميركي. وتوقع، في مقال افتتاحي لصحيفة "واشنطن بوست" في 5 سبتمبر/ أيلول من العام الماضي، ألا تنشب حرب أهلية في الولايات المتحدة في نهاية المطاف. 


وقال إن نظام المحاكم الأميركية كان قوياً، وعاقب الأشخاص المسؤولين عن الهجوم على مبنى الكابيتول في 6 يناير /كانون الثاني 2021. أضاف أنه برغم التهديدات الموجهة لموظفي مكتب التحقيقات الفيدرالية، إلا أن المكتب يواصل التحقيق مع المتطرفين الذين يهددون وينفذون أعمال العنف، ويحيلهم الى المحاكمة، على غرار أولئك الذين خططوا لاختطاف حاكمة ولاية ميشيغان. كما لاحظ توماس ريكس أن المتطرفين المناهضين للحكومة أنفسهم لا يريدون أن يكونوا "شهداء". وقد تراجع بعضهم عن أفكاره خلال محاكماتهم بُغية تجنب أحكام بالسجن لفترات طويلة، كما تعاون آخرون منهم مع المحققين الحكوميين لقاء إنقاذ أنفسهم من السجن. ولم يُندد أي منهم بالحكومة المركزية أو يشير إلى إدانة القمع الحكومي أثناء محاكماتهم. 


والأهم من ذلك، لاحظ ريكس أن الشرطة، ومكتب التحقيقات الفيدرالية، سوف يتمكنان من اختراق واحتواء الجماعات المتطرفة العنيفة في غياب معارضة أشد قوة وأكثر إخلاصاً في التعامل معها. بمعنى آخر، لم نرَ حتى الآن شخصية "علي بلحاج" الأميركي الراغب في الذهاب إلى السجن لقاء التنديد بالحكومة المركزية كما كان في الجزائر، ولا يوجد أبو مصعب الزرقاوي "الأميركي" الراغب في الموت شهيدا كذلك.

وتجدر الإشارة إلى دراسة بحثية أجرتها مجموعة من العلماء السياسيين الأميركيين المتخصصين في الرأي العام في سبتمبر/ أيلول 2021، خلصت إلى أن عدد المواطنين الأميركيين الذين يؤيدون العنف لأغراض سياسية قليل للغاية في الواقع. وأكدوا أن استطلاعات الرأي السابقة التي أظهرت نسبة 40 في المائة من الأميركيين سوف يقبلون العنف السياسي في بعض الحالات، هي نسبة مبالغ فيها للغاية. وقالوا إن استطلاعات الرأي هذه تطرح أسئلة مُبهمة، ولا تحدد العنف تحديداً دقيقاً في أسئلة الاستطلاع، ما يُسهل على المستجيبين لأسئلة الاستطلاع دعم نوع من العنف الغامض. وعندما أجرى هؤلاء العلماء السياسيون استطلاعاتهم الخاصة، اكتشفوا أن السواد الأعظم من المواطنين الأميركيين يؤيدون العقاب القاسي على الجرائم السياسية، مثل الاغتيال، بصرف النظر عن التوجهات السياسية. وكان استنتاج العلماء الأخير أن عدداً قليلاً فقط من الأميركيين يدعمون العنف السياسي، لكن نفس هذه المجموعة تدعم العنف بصفته العامة.

تأييد العنف السياسي ليس واسعا
يمكن لعدد قليل من الناس، المؤيدين للعنف والمالكين لأعداد كبيرة من الأسلحة، التسبب بمشاكل كبيرة. ولقد شهدنا بالفعل رجلاً يهاجم المرشح الجمهوري لمنصب حاكم نيويورك أثناء خطاب ألقاه في يوليو /تموز الماضي، كما ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" أن عدد التهديدات ضد أعضاء الكونغرس ارتفع 5 أضعاف منذ عام 2016، كي يتجاوز عشرة آلاف تهديد العام الماضي. كما يعين المزيد من النواب المزيد من الحراس الشخصيين. وفي الوقت نفسه، تلقى الموظفون العاملون في مواقع الانتخابات عام 2020 آلاف التهديدات. وأظهر استطلاع أجري أوائل 2021 أن 1 من كل 6 من العاملين في الانتخابات أبلغ عن تلقيه تهديداً من المتطرفين الذين زعموا حدوث تزوير كبير في الانتخابات.


وأظهر استطلاع أجرته شبكة "سي بي إس نيوز" أواخر أغسطس/ آب الماضي، أن 64 في المائة من الأميركيين يتوقعون مزيداً من العنف السياسي خلال السنوات المقبلة. لكن، حتى إن تجنبت الولايات المتحدة نشوب الحرب الأهلية، فليس هناك اتفاق بين الزعماء السياسيين الأميركيين بشأن كيفية تضييق حلقة الانقسامات السياسية والإقلال من مخاطر العنف السياسي.

font change