هل يمكن توقع حصول الزلازل؟

تركيا ومحيطها من أكثر المناطق نشاطا زلزاليا في العالم

EPA
EPA

هل يمكن توقع حصول الزلازل؟

يمثل الزلزال العنيف الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا فجر السادس من فبراير/ شباط والزلزال الارتدادي القوي الذي تلاه بعد ساعات اثنين من 70 زلزالاً شديداً شهدتها المنطقة منذ مطلع القرن العشرين. ويجعل الصدعان الرئيسيان المحيطان بتركيا – صدع الأناضول الشرقي (بطول حوالي 500-530 كيلومتراً) وصدع الأناضول الشمالي (حوالي 1,350-1,500 كيلومتر) – تركيا ومحيطها من أكثر المناطق نشاطاً زلزالياً في العالم. ووقع الزلزالان الأخيران، البالغة قوتهما 7.8 درجة و7.5 درجة على مقياس ريختر وخلفا آلاف القتلى وعشرات آلاف الجرحى في البلدين معاً، في صدع الأناضول الشرقي. أما الزلزال الأبرز قبلهما، الذي ضرب شمال البلاد عام 1999 وبلغت قوته 7.6 درجة وتسبب بمقتل 17,000 شخص فوقع في صدع الأناضول الشمالي.

يتألف سطح الأرض، أو الغلاف الصخري (lithosphere)، من صفائح سبع رئيسية، وكثير من الصفائح الثانوية. تتقارب هذه الصفائح وتتباعد ويحتك بعضها ببعض، بضغط من حرارة باطن الكوكب، ما يراكم ضغطا لا يلبث أن ينفجر في موجات من الطاقة تنتشر عبر الأرض وفوق سطحها فتتسبب باضطراب هو الزلزال الذي نشعر به. وتُسمّى الصفائح التكتونية (tectonic) أي البنائية بالمعنى الحرفي للكلمة، لأنها تشكل البناء الخاص بسطح كوكبنا. الصفائح السبع الرئيسية هي الأفريقية، والأنتاركتيكية، والأوراسية، والهندية الأوسترالية، والأميركية الشمالية، والباسيفيكية، والأميركية الجنوبية. وثمة صدوع تفصل بين الصفائح الرئيسية والثانوية.

إن أحداً لا يستطيع توقع حصول زلزال وأقصى ما يستطيع الخبراء فعله هو وضع ترجيحات بحصول زلازل في صدوع تشهد نشاطاً لافتاً، لكن الترجيحات تمتد على سنوات.

وكالة المسوح الجيولوجية الأميركية

لكن بعض الزلازل ينجم عن النشاط البشري، مثل شق الأنفاق وبناء السدود وتنفيذ مشاريع مثل استخراج الحرارة الأرضية أو تصديع الصخور بالمياه بغرض استخراج النفط والغاز الصخريين. وترتبط زلازل كثيرة بالنشاط البركاني. لكن هذين النوعين من الزلازل يكونان عادة أقل شدة من الزلازل التكتونية ويطاولان مناطق أصغر لجهة المساحة. وتطلق البراكين حممها، وهي صخور منصهرة تقع على أعماق دفينة حيث درجات الحرارة مرتفعة جدا، حين تتراكم هذه الحمم وتشق طريقها إلى سطح الأرض مسببة ارتجاجات زلزالية. ثمة نوع من الزلازل ينتج من انخساف الأرض بسبب تآكل الصخور الكلسية أو انهيار المناجم.

وتُعَدّ شبه الجزيرة العربية جزءا من صفيحة تكتونية (الصفيحة العربية) تتحرك ببطء شمالا فتصطدم بالصفيحة الأوراسية، ما يضغط على تركيا الواقعة عند الحد الجنوبي للصفيحة الثانية. وقال مايكل ستيكلر، العالم في مرصد لامونت-دوهيرتي للأرض بجامعة كولومبيا، لـ"الإذاعة العامة الوطنية" (إن بي آر) في الولايات المتحدة: "تتحرك شبه الجزيرة العربية ببطء شمالا وتصطدم بتركيا التي تندفع غربا". وهذه الحركة مسؤولة عن زلازل كثيرة ضربت صدع الأناضول الشرقي الفاصل بين الصفيحتين لآلاف السنوات، ومنها زلزال دمّر مدينة حلب السورية عام 1138. خلافا لنظيره الشمالي، لم يحرك الصدع الشرقي ساكنا منذ قرن إلى أن أطلق زلزال السادس من فبراير/شباط.

مقياس ريختر مقياس لوغاريثمي وضعه تشارلز فرنسيس ريختر (1900-1985) وهو عالم زلازل أميركي

مقياس ريختر هو مقياس لوغاريثمي وضعه عالم الزلازل الأميركي تشارلز فرنسيس ريختر (1900-1985). والمقصود باللوغاريثمي أن كل رقم كامل يساوي 10 أضعاف سابقه، أي أن زلزالا بقوة اثنين يعادل 10 أضعاف زلزال بقوة واحد. يشار إلى أن أقوى زلزال معروف إلى الآن ذلك الذي ضرب تشيلي عام 1960 وبلغت قوته 9.5 درجات. هكذا يُعَدّ زلزال جنوب تركيا-شمال سوريا الأخير من الزلازل الشديدة القوة ويفسر كيف أن الناس في أماكن بعيدة، مثل سائر سوريا ولبنان والعراق وقبرص ومصر، شعروا به. أما الزلازل الارتدادية فنتيجة حتمية للزلزال الرئيس، إذ ان الضغط الذي يطلقه الأخير يحرك صدوعا أصغر حجما من ذلك حيث حصل الزلزال الأصلي. وبما أن قوة الزلزال مرتبطة بطول الصدع الذي يحدث فيه، من المستبعد جدا حصول زلزال أقوى من ذلك الذي ضرب تشيلي عام 1960 لعدم وجود صدع يمكن أن يطلق زلزالا بقوة تفوق 9.5 درجات. ويقدر المركز الوطني الأميركي للمعلومات الزلزالية أن نحو 55 زلزالا تضرب أماكن مختلفة من العالم كل يوم ويكون معظمها أخف من أن يشعر به الناس.

 

تاريخ علم الزلازل
اتفقت الحضارات القديمة على تفسير الزلازل كأي كوارث طبيعية أخرى بالغضب الإلهي من خطايا الإنسان، وظلت الفكرة راهنة في العلوم الأوروبية حتى منتصف القرن الثامن عشر تقريبا. لكن الحضارتين الإغريقية والصينية قدمتا تفسيرات طبيعية للزلازل، فقد عزا الإغريق، ولا سيما أرسطو، الزلازل إلى رياح تهب تحت سطح الأرض، في حين رأى الصينيون أنها ناجمة عن انسدادات تصيب المادة الأساسية المكونة للأرض. في بداية مرحلة الحداثة الأوروبية، عزا المفكرون الزلازل إلى انفجارات تحصل في باطن الأرض أو في السماء، ومع اكتشاف العلماء الأوروبيين الشحنات الكهربائية في القرن الثامن عشر، فسروا الزلازل بأنها نتيجة لانطلاق شحنات كهربائية ضخمة.

حين ضرب لشبونة الزلزال المدمر عام 1755، مطلقا أمواجا عاتية وصلت إلى معظم السواحل الأوروبية، رأى مفكرون أن سببه كان الأمواج. لكن تبلور العلوم في القرن التاسع عشر جعل علم الزلازل علما مستقلا، واتكل المتخصصون في العلم الجديد على جمع البيانات الزلزالية بغية العثور على أنماط معينة يمكن أن تفسر ما يجري. وتركزت البحوث على محاولة العثور على رابط بين الزلازل والظواهر الفلكية والمناخية. ولم تتردد السلطات في تشكيل لجان تدرس أسباب الزلازل بعد وقوعها. وما لبث الانتباه أن استهدف الظواهر الجيولوجية بحثا عن أسباب الزلازل. وفي سبعينات القرن الثامن عشر، كلفت الحكومة الأمبراطورية في اليابان، البلد المعرض إلى زلازل متكررة، علماء محليين وأجانب الإجابة عن السؤال: كيف تنشأ الزلازل وهل يمكن تلافيها؟

الياباني سايكي سيكيا أول أستاذ لعلم الزلازل في العالم وذلك عام 1886

يعود علم الزلازل الحديث إلى عام 1880 عندما أسس العالم البريطاني جون ميلن، الأستاذ في كلية الهندسة الإمبراطورية اليابانية، جمعية العلوم الزلزالية اليابانية إثر زلزال ضرب البلاد في 22 فبراير/ شباط من ذلك العام. وهو أسس نهج البيانات الحسابية للرصد الزلزالي. وأصبح الياباني سايكي سيكيا أول أستاذ لعلم الزلازل في العالم وذلك عام 1886، واعتمد في بحوثه على بيانات حسابية تصدرها وكالة الأرصاد الجوية المؤسسة حديثاً في بلاده والتي رصدت الاضطرابات الزلزالية إلى جانب أحوال الطقس. وسرعان ما انتشر نهج القياس الحسابي للزلازل في مختلف أنحاء العالم، وتغلب على النهج الوصفي السابق في هذا الصدد، على رغم أن أجهزة القياس كانت بدائية مقارنة بما لدينا اليوم ولم تستطع أن ترصد سوى الزلازل القوية. وعلى رغم انتكاسة العلوم عموماً وعلم الزلازل خصوصاً بسبب الحربين العالميتين، تمكنت الرابطة الدولية لعلم الزلازل (International Seismological Association) التي تأسست عام 1904 من وضع سجلات زلزالية علمية أتاحتها لأي باحث حول العالم. والرابطة اليوم جزء من الاتحاد الدولي للطبيعة الأرضية ومقاييس الأرض (International Union of Geodesy and Geophysics).

عام 1967، اكتشف الأميركي جيسون مورغان نظرية الصفائح التكتونية – فكرة أن صفائح صلبة تشكل سطح الأرض، ويتحرك بعضها إزاء بعض، وتسحب معها القارات والمحيطات. في يناير/كانون الثاني من ذلك العام، أثناء جلوسه في مكتبه في جامعة برينستون، قرأ مورغان مقالا جديدا في مجلة "ساينس" كتبه الجيولوجي الأميركي إتش ويليام مينارد، الذي رسم خرائط للشقوق الطويلة التي تسمى "مناطق الكسور" (الصدوع) في قاع المحيط الهادئ. وتمكن مورغان (يبلغ 87 سنة اليوم) من احتساب أن كسور قاع المحيط الهادئ كلها تنحني حول نقطة في شمال سيبيريا مباشرة.

هكذا وُلِدت نظرية الصفائح التكتونية التي لم تفسر السبب الرئيسي وراء الزلازل فحسب، بل كذلك لماذا تبدو سواحل القارات كأنها قطع في أحجية للصور المقطوعة (jigsaw puzzle) يمكن ضمها معا لتشكل كتلة واحدة من اليابسة.

أبعد من الزلازل
تعود فكرة أن القارات تحركت بمرور الوقت، إلى ما قبل القرن العشرين. وغيّر الألماني ألفريد فيغنر النقاش العلمي فهو نشر مقالتين حول مفهوم يسمى الانجراف القاري (continental drift) عام 1912. واقترح أن قارة عظمى أطلق عليها اسم بانجيا بدأت في التفكك قبل 200 مليون سنة، وأن أجزاءها تحركت بعيدا بعضها عن بعض، وأن القارات التي نراها اليوم هي أجزاء من تلك القارة العظمى. لدعم نظريته، أشار فيغنر إلى مطابقة التكوينات الصخرية والحفريات المماثلة في البرازيل وغرب أفريقيا. بالإضافة إلى ذلك، بدت أميركا الجنوبية وأفريقيا كأنهما قابلتان للتطابق.

اكتسبت هذه النظرية زخما في الخمسينات والستينات من القرن العشرين، على الرغم من رفضها في البداية، حين بدأت بيانات جديدة تدعم فكرة الانجراف القاري. فقد أظهرت خرائط لقيعان المحيطات سلسلة جبال ضخمة تحت سطح المحيطات تلف الأرض بأكملها تقريبا. واقترح الأميركي هاري هيس أن هذه الجبال كانت نتيجة صخور منصهرة انبثقت من الغلاف الموري (asthenosphere، منطقة من الأرض تقع على عمق ما بين 100 إلى 200 كيلومتر تحت سطح الأرض، وهي الطبقة الأضعف في غطاء الأرض). وعندما وصلت الصخور إلى السطح، بردت، ما أدى إلى تكوين قشرة جديدة دفعت قيعان المحيطات بعيدا عن الجبال الواقعة تحت الماء. ويحرك تمدد قيعان المحيطات هذا الانجراف القاري.

هذا قد يدعم ما قاله أخيراً عالم الزلازل الإيطالي كارلو دوغليوني لموقع "إيطاليا 24" الإخباري الإلكتروني بعد زلزالي تركيا الرئيسيين، اللذين تسببا بانهيار 225 كيلومتراً من الصدع الفاصل بين صفيحة الأناضول الشرقية والصفيحة العربية، عن أن تركيا انزلقت بما يصل إلى ثلاثة أمتار مقارنة بسوريا وكان يمكن أن تنزلق بواقع خمسة إلى ستة أمتار. وأضاف أن رأيه هذا يعتمد على البيانات الأولية المتاحة الآن، متوقعاً أن تتوفر معلومات أكثر دقة من الأقمار الصناعية في الأيام المقبلة. هذا وتجزم المراجع المعتد بها، ولاسيما وكالة المسوح الجيولوجية الأميركية، بأن أحداً لا يستطيع توقع حصول زلزال وأن أقصى ما يستطيع الخبراء فعله هو وضع ترجيحات بحصول زلازل في صدوع تشهد نشاطاً زلزالياً لافتاً، لكن الترجيحات تمتد عادة على سنوات عديدة.

font change