عن "المقاربة الواقعية" للحرب الاوكرانية

عن "المقاربة الواقعية" للحرب الاوكرانية

منذ مستهل الصراع الروسي الأوكراني، ظهرت أصوات في الغرب كما في الشرق تدعو الى مقاربة واقعية لما يجري بين "البلدين الشقيقين" تقوم على الاعتراف بخصوصية العلاقات بينهما وحق روسيا في الحفاظ على أمنها في وجه تمدد حلف شمال الأطلسي الذي لا يعرف حدودا.

تدرّج الخلاف الروسي – الأوكراني ومرّ بمراحل عدة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وتبدل نظامي الحكم في موسكو وكييف. في التسعينات كان مصير أسطول البحر الأسود هو نقطة الخلاف الكبرى. ثم برزت قضية الأقلية الناطقة بالروسية في شرق اوكرانيا. ولزيادة الأمور تعقيدا بدأت المطالبة الروسية باستعادة شبه جزيرة القرم ذات التاريخ المعقد والمتشابك منذ أيام تتار القرم مرورا بالحرب العالمية المصغرة التي شهدتها شبه الجزيرة في القرن التاسع عشر وصولا الى فصلها عن روسيا وضمها الى اوكرانيا اثناء الحكم السوفياتي.

التاريخ والثقافة والمعطى الجيوسياسي، أمثلة على ما لا يمكن تجاوزه من عقبات في صراع من صنف الحرب الروسية – الاوكرانية. بيد أن رسم خط فاصل بين "الواقع" وبين الاساطير القومية والمواقف الايديولوجية، ليس بالسهولة التي يتخيلها انصار إنهاء الحرب فورا حرصا منهم – على ما يعتقدون- على الحياة البشرية والعمران.

كيف يمكن استخلاص الواقع بين روايتين متناقضتين للتاريخ بشقيه البعيد والقريب؟ تصر الرواية الرسمية الروسية على أن أوكرانيا جزء مكوّن من "أرض الاباء الروس" وأن الاستقلال الاوكراني ما كان ليحصل لولا تدخلات الغرب المتمثل بالامراء البولنديين والليتوانيين (ومحاولة ثني المواطنين عن ايمانهم الارثوذكسي والترويج للكنيسة الكاثوليكية) أولا. ألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة تولت المهمة هذه اثناء الحرب العالمية الاولى والثورة البلشفية والحرب الاهلية التي تبعتهما. عليه، لا شيء يتعلق بأوكرانيا يتسم بالاصالة بل ان الشاعر تاراس شيفتشينكو مؤسس الرومانسية القومية الاوكرانية، ليس في الدوائر الثقافية الروسية سوى مزارع جلف لا يرقى الى مستوى اترابه الروس.

غني عن البيان ان الرواية الاوكرانية المقابلة لا تقل حدة. المجاعة التي افتعلها البلاشفة ووصلت الى ذروتها في اوائل ثلاثينات القرن الماضي، "الهولودومور"، كانت ترمي الى ابادة الشعب الاوكراني عن بكرة أبيه. روسيا، حتى بعد سقوط النظام السوفياتي، لم تعترف بالمسؤولية عن المجاعة بل أصرت على انكارها على الرغم من توثيق مصرع اكثر من ثلاثة ملايين اوكراني فيها. أما القوى الأوكرانية التي تعاملت مع الاحتلال النازي فكانت- في الخطاب الاوكراني القومي- تعبر عن تطلعات الاوكرانيين في الاستقلال والتحرر من النير الشيوعي.

يستمر التفارق بين الروايتين الروسية والاكرانية ليشمل الحدود وحقوق الناطقين بالروسية ورسوم مرور الغاز الروسي في الاراضي الاوكرانية. لكن، من منظور واسع، القضايا هذه كلها ضئيلة الاهمية إذا قورنت بما أثار الحفيظة الروسية الى حدود الانفجار: ميل اوكرانيا نحو الغرب ونزوعها للانضمام الى الاتحاد الاوربي والحلف الاطلسي. التفسير الروسي للميل والنزوع هذين هو الدعاية التي يمارسها الغرب من اجل تطويق روسيا وتفجيرها من الخارج بعدما اخفق في اسقاطها من الداخل من خلال التمرد الشيشاني في تسعينات القرن الماضي وأوائل القرن الحالي.

تفهّم المخاوف الامنية الروسية، من جهة، والقبول بحق اوكرانيا في تقرير المصير والاعتراف النهائي والناجز باستقلالها وبالتالي بسيادتها على كامل اراضيها بما فيها القرم والدونباس والانضمام الى المنظمة الدولية التي تريد، موقفان تفصل بينها أنهار من الدماء والضغائن والعداوات الشخصية بين النخبتين الاوكرانية والروسية والصور النمطية العميقة والتي تكرسها الدعاية السياسية الممنهجة في البلدين. إذا اضيفت على ذلك كله المصالح الخارجية المتعارضة بين الغرب وبين روسيا والصين، سنكون امام خريطة لعالم ينهار وتتصاعد فيه لغة الحرب الباردة وسباقات التسلح متعددة الانواع والاطراف.

الاعتقاد ان القفز فوق ذلك كله وابداء بعض التنازلات من هنا وبعض المرونة من هناك، يتجاوز السذاجة الى تبييت النية في مساندة طرف ضد آخر.

الحل التفاوضي هو الافضل بطبيعة الحال. لكن من يحدد المدى الذي ستصله المفاوضات وما هي حدود الاتفاق الكبير (او الصفقة بلغة اكثر سوقية) التي يمكن ان تطفئ نار الصراع الرهيب هذا وتوقف سفك الدماء. بكلمات أخرى، يقف الحجم الضخم من التوقعات والطلبات المتناقضة لكل فرقاء الصراع – المباشرين وغير المباشرين- عائقا امام التوصل الى اتفاق كبير يعيد ليس فقط تنظيم العلاقة الروسية – الاوكرانية بل ايضا وضع اسس جديدة للأمن الاوروبي والدولي لتجنب انفجارات اخرى تلوح في الافق في تايوان وغيرها.

من هنا يمكن فهم كلام المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف عن ان "الظروف غير ملائمة حتى الان لبدء مفاوضات سلام". المزيد من الضحايا سيسقطون قبل تحقق الظروف هذه.

font change