لِمَ نتجادل حول معاوية أصلا؟

لِمَ نتجادل حول معاوية أصلا؟

هل حُمّل مسلسل "مُعاوية" الذي لم يشاهده اي منا بعد، أكثر مما يحتمل من نقاش وتوتر وتحذيرات؟ وهل مجتمعاتنا وشعوبنا هشة الى الدرجة التي يوقظ الفتنة بين مكوناتها برنامج تلفزيوني تعود احداثه الى اكثر من 1400 سنة؟

وإذا صح أن مسلسلا تلفزيونيا مهما كان محتواه، قد يتسبب بحروب أهلية ومجازر طائفية، فذلك يُخبر عن المجتمعات والطوائف و"الأهل" أكثر كثيرا مما يقول عن المسلسل. ذاك أن السنّة والشيعة الأحياء اليوم هم من سيقتتل بفعل مؤثرات حاضرة في واقعهم المنقسم والمتوتر والمأزوم. في حين أن معاوية وأنصاره وخصومه قد باتوا امام بارئهم.

المشكلة الأكبر في مقاربة شخصية مثل معاوية بن أبي سفيان هي حضوره في "وعي" الجماعات الحالية وصمود الاحداث التي شارك معاوية فيها وصنع بعضها، في صميم الانقسام الطائفي والمذهبي لعدد ليس بالقليل من الدول العربية ناهيك عن تلك الاسلامية.

بكلمات ثانية، إن السرديتين المتقابلتين، السّنية والشيعية اللتين تدخل اليهما في كل حقبة عناصر جديدة لمدهما بالمزيد من الحجج والذرائع، لا تتعاملان مع معاوية او غيره من شخصيات الحقبة التي يسميها المؤرخون "الإسلام المبكر" كشخصيات سياسة تصرفت وفق معايير وأعراف وقيم تلك الايام، بل أنها ترافقنا اليوم في كل مناسبة بل ومن دون مناسبة في حياتنا وتفاصيلها وظروفها.

وعندما نسمع اللعنات على بني أمية في شوارع بيروت مثلا، لا يكون المقصود "نقد" الممارسة السياسية الاموية التي نقلت السلطة من الخلافة الراُشدة الى "المُلك العضوض"، ولا وضع علامات الاستفهام التي يحبها المؤرخون حول طبيعة الحكم الذي كان الحسين بن علي سيقيمه لو قُيض له تولي السلطة، بمعنى هل سيكون حكما وراثيا في ذريته ام سيعود الى الصيغة التي اعتمدها الخلافاء الراشدون في اختيار الاصلح للحكم؟ بل ان اللعنات تلك والردود عليها تدخل في إعلان التغلب والهيمنة على فضاءات وجماعات معاصرة وفي سياق تصعيد الهوية والتمايز المذهبي مقابل تأكيد شرعية "الجماعة" وسيادتها.

عندما نسمع اللعنات على بني أمية في شوارع بيروت مثلا، لا يكون المقصود "نقد" الممارسة السياسية الاموية التي نقلت السلطة من الخلافة الراُشدة الى "المُلك العضوض"، بل ان اللعنات تلك والردود عليها تدخل في إعلان التغلب والهيمنة على فضاءات وجماعات معاصرة وفي سياق تصعيد الهوية والتمايز المذهبي مقابل تأكيد شرعية "الجماعة" وسيادتها

التداخل بين المعطيين الديني والتاريخي أعاق ويعيق التفكير النقدي في التراث العربي – الإسلامي على نحو ما زالت اثاره بادية على مجتمعاتنا اليوم. والمسلسلات التلفزيونية التي تتناول تلك الحقبة لا تقول في حقيقة الامر شيئا جديدا عن أولئك الرجال والنساء ولا تقدم أي منظور مميز لأحداث التاريخ، بل انها في واقع الامر تكرار للسرديات المستنبطة من كتب التراث من دون الانخراط في حل التناقضات الجلية فيها أو تقديم تفسيرات تتجاوز الرواية المعتمدة للوصول الى رسم لوحة أدق لأحداث شكّلت تأسيسا لمجتمعاتنا بانقساماتها وصراعاتها التي تتغير مضامينها لكنها تحافظ على "خطوط تماس" قابلة للالتهاب في كل لحظة. الطبري الذي يعتبر أهم مُدوِّن للتاريخ العربي- الاسلامي، يشير، على سبيل المثال، ومن دون مداراة او مورابة في كتابه "تاريخ الرسل والملوك" الى انه جمع كل ما سمعه من روايات ومسؤولية صحتها او عدمها يتحملها من نقلها اليه. من هنا اهمية "سلاسل الإسناد" التي يضيق بها المستشرقون عادة. 


بالعودة الى الحاضر او الماضي القريب، يقول ما شهده العراق ووصل ذروته في عامي 2006 و2007 من مذابح طائفية وانقلاب الثورة السورية منذ 2013 الى حرب اهلية بعد اخفاق القوى المختلفة في صوغ برنامج سياسي عابر للطوائف، وجمر الصراع السنّي – الشيعي الراقد تحت رماد الازمة الاقتصادية في لبنان، أن مسلسلا إضافيا لن يكون بدعة في بابه أو سببا مضافا للفتنة لا يعرف النوم طريقا اليها. 


عليه، يعود الرفض المؤسساتي (من قبل طوائف المسلمين المختلفة) للفصل بين الدراسة التاريخية المحايدة والموضوعية وبين المعطى الديني ليقف في طريق بناء رواية متجانسة لتاريخ هذه المنطقة والاجابة على اسئلة يطرحها التاريخ وليس الدين: مثلا، هل فتح معاوية باب الحكم الوراثي ام انه هذه هي الصيغة المضمرة لدى كل القوى السياسية التي كانت فاعلة في البيئة العربية – الاسلامية في ذلك الحين والتي لم تستطع تحمّل صيغة اختيار الخليفة كقائد سياسي وعسكري وإمام وفقيه، في وقت واحد. وهل يشكل معاوية استثناء عن مجموعة ضخمة من الشخصيات الاشكالية في التاريخ العربي – الاسلامي أم أنه رجل دولة حاول التواءم مع طبيعة السلطة في زمنه؟ 


بهذا المعنى يصبح النظر الى اغتيال الخليفة عثمان بن عفان من قبل "أهل الامصار" ثم مقتل الامام علي بن ابي طالب على يد ابن ملجم الخارجي، في ضوء المعطى التاريخي الذي يأخذ في الاعتبار تغير اهتمامات وهواجس الفئات التي هاجرت الى الامصار وتلك التي ساوت بين معاوية والامام علي باعتبارهما من "أئمة الضلالة"، دليل على الاثر العميق الذي تركته دينامية الفتوحات والتغير الجذري الذي فرضته على اقتصاد واجتماع المسلمين واقامتهم في النواحي البعيدة والتعرف على ثقافات وقيم جديدة، من جهة،  وانتزاع الحق في الممارسة السياسية في معزل عن ارادة الخليفة على ما فعل الخوارج، من جهة ثانية، من المعطيات التي تتعين دراستها كأحداث تاريخية. تماما كالقول "انما انتم خزنة لنا" الذي ينسبه المقريزي في كتابه "فتوح مصر" الى عمرو بن العاص عندما ابلغ رجل دين قبطي مصري جاء يحتج على الضرائب الباهظة التي يفرضها ابن العاص على الاقباط. فهذا موقف سياسي محض – لا علاقة له بالدين- صادر عن وال يسعى الى تدبر الاموال من رعيته على نحو ما فعل الولاة منذ فجر التاريخ. وهذا دأب الولاة والحكام منذ ظهور التشكيل السياسي المسمى "الدولة". 


السمة البشرية للتاريخ العربي – الاسلامي والتعاطي العلمي والنقدي مع الماضي في ضوء الادلة الاركيولوجية والأدبية المتوفرة من آثار ونصوص ومصادر، هو المقدمة للخروج من متاهة الثنائية القاتلة بين التبخيس والتقديس وهي ما تخرج معاوية وغيره من حيز السجال الطائفي والمذهبي وتجعل من اي مسلسل عملا فنيا لا يثير فِتنا ولا يرفع اصوات دعاة الحروب الاهلية. 

font change