وقود العزلة والمجتمع اللبنانيّ المأهول بالفراغ

Getty Images
Getty Images
محطة محروقات مقفلة بعدما أفرغت من الوقود، خلال أزمة محروقات خانقة شهدها لبنان صيف 2021.

وقود العزلة والمجتمع اللبنانيّ المأهول بالفراغ

مع بلوغ سعر الوقود في لبنان أسعارا فلكية، صار المكان ممتنعا على القسم الأكبر من اللبنانيّين، واكتست هذه المادة ملامح مناقضة لوظيفتها. إذ تحولت من عنوان التواصل واللقاء إلى مرآة تعكس العزلة والوحدة والكفّ عن الفاعليّة وانعدام الحيويّة.

راكمت هذا الواقع سلاسل الانهيار الاجتماعيّ اللبنانيّ الذي بلغ في السنوات الأخيرة درجة غير مسبوقة من الحدّة المتنامية، حيث تضيف كل لحظة تمر إلى مساره الانحداري أبعادا درامية جديدة.

لا آليات حماية اجتماعيّة ترمّم جراح المكان وناسه. بدأ الناس يراكمون مشاعر الشعور بالعراء، ويحرصون على الهرب منها والدفاع عن أنفسهم بعزلة ليست في نهاية المطاف سوى نتيجة للأزمة وليست نظام وقاية منها.

في الوقت نفسه، فإن إغلاق الكثير من الأماكن الشهيرة أبوابها، فجّر علاقات متأزمة مع الشوارع التي باتت ساحات فراغ معادية. سعر الوقود المرتفع تسبّب بانكماش الحياة اليوميّة وانغلاقها واقتصارها على الضروريّات، ليخلق تاليا سيرورة معان جديدة تكتسب فيها الأمور سياقات مناقضة لما كانت تدلّ عليه في السابق. كلّ حدث صار موصولا بتأويل سلبيّ يربطه بأزمة أو مشكلة.

وجد اللبنانيون أنفسهم معتقلين في زمن الجوائح ومجبرين على الإقامة فيها، ما خلق شعورا عميقا بالبرد والجوع.

وكانت الباحثة والمحلّلة النفسية الألمانية فريدا فروم رايتشمان، وهي من أوائل من حلّل الآثار الاجتماعية والنفسية للوحدة، في مقالها الشهير "الوحدة" (1959)، قد رصدت العلاقة بين الشعور بالوحدة والبرد من خلال دراستها لحديث مريضة تروي معاناتها مع الوحدة قائلة: "لا أعلم لماذا يعتقد الناس أنّ الجحيم مكان يحترق فيه كلّ شيء، هذا ليس جحيما، الجحيم هو أن تكون محاصرا في عزلتك في كتلة من الثلج. هذا ما مررت به".

وتظهر دراسات حديثة قامت بها "الجمعية الأميركية للمتقاعدين" أن التأثير الجسدي البيولوجي للوحدة يعادل تدخين 15 سيجارة يوميّا وأنها تؤثر على الجهاز المناعي بشكل عام وتقلل مقاومته للأمراض. كذلك تؤكد دراسة لجامعة "كارنيغي ميلون" أن الوحدة تقلل قدرة الجسم على مقاومة البرد والأمراض وتعزز سلوكات إدمان الطعام وغيره، وتتسبب بتراجع الصحة العقليّة والإصابة بالخرف وصولا إلى الموت المفاجئ.

وتشير إحصاءات معهد القياسات الصحية العالمي(IHME) لعام 2016 إلى أنّ البدانة في وسط اللبنانيّين بلغت حدا خطيرا للغاية، فنسبتها وصلت إلى حدود 31%، كما أن نسبة الزيادة في الوزن بلغت 67،9%. هذه النسبة التي سُجّلت منذ سبع سنوات مرشحة للزيادة قياسا إلى تردي الأحوال وما يكرسه من سلوكات إدمانيّة.

يقول هذا الواقع إنّ الناس يجعلون أجسادهم مستودعات لتخزين الطعام خوفا من شعور خفي بالمجاعة، كما أن الكروش المتدلية تلعب دور الحاجز أو المتراس الذي يقيهم أعباء تواصل تتعقّد شروطه على الدوام.

لا آليات حماية اجتماعيّة ترمّم جراح المكان وناسه. بدأ الناس يراكمون مشاعر الشعور بالعراء، ويحرصون على الهرب منها والدفاع عن أنفسهم بعزلة ليست في نهاية المطاف سوى نتيجة للأزمة وليست نظام وقاية منها


أدراج مهجورة

أقفل عدد كبير من المحال والمكتبات والمقاهي ودور السينما والمسارح التي كانت تصنع ذاكرة الناس، أبوابه خلال السنوات القليلة الماضية، من قبيل "مسرح بيروت" الذي أقفل عام 2011 في إنذار مبكر إلى أزمات مقبلة، كما أقفلت سينما "أمبير متروبوليس صوفيل" عام 2020  و"كافيه حمرا"، و"مكتبة أنطوان" في أسواق بيروت، ومكتبة "واي إن" في الحمراء.

لكن الأثر الدرامي يكمن في أنّ الإقفال لم يكن طبيعيا وعاديا بحيث يسمح بترك مجال للحزن والحنين والحداد، بل كان أشبه بعمليّة اغتيال مقصودة تطمح إلى أن تترك ندوبا لا تزول. لذا بقيت جثث الأماكن معلقة في الفضاء العام، تشهر فراغها العاجز عن صناعة الرثاء مع توالي الأزمات واستفحالها.

أقفل محل "دومتكس" لبيع البياضات، الذي يعود تاريخ افتتاحه إلى منتصف خمسينات القرن الماضي، في شارع "الحمراء" البيروتي المعروف، مع نهاية عام 2022، وكان عنوانا عاما لمن لا يعرف المنطقة. درجه الشهير كان ساحة لقاء العشاق والراغبين في معانقة روح المكان مجانا. ترك فراغا معلقا في فضاء الشارع، ولم يُستبدل بجديد. الناظر إليه يرى عمقا موحشا وخاليا يقدم نفسه في هيئة مصير نهائيّ لهذا المكان وأقرانه الكثر.

Getty Images
أشخاص يمرون من أمام مكتب للصرافة في بيروت، 20 يناير 2023

بدا أن المكان لم يكن مأهولا يوما، وأنّه ولد على هيئته المستجدة، وصار يمثّل الطبيعيّ والمألوف ويطلق مسار محو يخنق العلاقة بالأمكنة وينفيها.

وكان لافتا بعد إقفال المكان، أن ارتدى درجه الذي كان بمثابة ميدان مصغر، وجها طاردا للناس. لم يعد أحد يجلس عليه، على الرغم من أنه بات متاحا بشكل أكبر مع إغلاق المتجر وغياب الانزعاج الذي كان يمكن أن يبديه أصحابه من تجمع الناس أمامه. موته أمات الدرج ومعناه، وحوّله من مسرح إلى شاهدة صامتة لا تستحضر سوى الذهول.

لم يعد الوقود في لبنان موصولا بمفاهيم الانتقال والتواصل، بل صار منتجا لقطيعة مع الطريق ومع الآخر. تفكّك المعنى الذي يرتبط به وتشظى لصالح شبكة إحالات تجعله ناطقا باسم عزلة إلزاميّة، ينشدّ إليها اللبنانيّون مكرهين

وقود العزلة

لم يعد الوقود في لبنان موصولا بمفاهيم الانتقال والتواصل، بل صار منتجا لقطيعة مع الطريق ومع الآخر. تفكّك المعنى الذي يرتبط به وتشظى لصالح شبكة إحالات تجعله ناطقا باسم عزلة إلزاميّة، ينشدّ إليها اللبنانيّون مكرهين، وتجعل الخارج، فكرة ومكانا، معاديا وممتنعا.

العزلة التي تتحرك في الميدان اللبنانيّ هي بمثابة عقوبة مفروضة بقوّة الأزمات، يتحول فيها العجز عن شراء الوقود إلى مشكلة تجبر الناس على إعادة تنظيم شؤون حياتهم وعلاقاتهم بالكامل بشكل إجباريّ وإكراهيّ، فيجدون أنفسهم مضطرين إلى القيام بعمليات حذف للعلاقات والتواصل.

تحول التنقل بسيارة الأجرة أو "السرفيس" إلى عملية منازعة شرسة ودائمة بين راكبٍ مفلس وسائق يعتبر أن من حقّه فرض تسعيرة موازية لسعر دولار السوق السوداء الذي تجاوز كل الحدود المتوقعة.

استعمال السيارات الخاصة بات وظيفيّا بامتياز وصار مقتصرا على الانتقال إلى مراكز العمل أو شراء الحاجيات الضروريّة. مسمى "المركبة السياحيّة" الذي يطلق على السيّارات الخاصّة، صار تعبيرا ساخرا، إذ بدا أن المكان اختفى بالكامل ولم يعد صالحا لمقاربته من وجهة نظر عين متنزّهة. صار معاديا ومسكونا بالفزع والاستعداء، وصار عبوره محنة.

في موازاة ذلك، نشطت تجارة السيّارات الصغيرة التي لا تستهلك الكثير من الوقود وارتفعت أسعارها قياسا على انخفاض أسعار السيّارات الكبيرة والعائليّة والرباعيّة الدفع ذات الاستهلاك العالي للوقود.

مع غياب الرقابة على الجودة وارتفاع التسعيرة الجمركيّة، بات التداول يتم بالسيّارات المستهلكة الموجودة في البلد أصلا، أو تلك التي استوردت وخُزّنت قبل صدور قرار رفع التعرفة الجمركيّة.

 AFP
امرأة تسير أمام كتابات تدين الحكومة وأصحاب البنوك خارج البنك اللبناني الفرنسي بعد احتجاجات في بيروت في 16 فبراير 2023.

تفتقر معظم تلك السيّارات إلى المتانة وعناصر الأمان، كما أن أسعار الأنواع الجيّدة منها ليست متيسرة لغالبية اللبنانيّين، وعليه فإن شراء سيارة معقولة السعر بات من الأحلام. من ناحية أخرى يأتي ارتفاع تكلفة الصيانة ليراكم العزلات ويحوّل الشوارع إلى ساحة قتال تتعارك فيها سيّارات تصنّف في عداد الخردة، ما تسبب بارتفاع حاد وملحوظ في نسبة حوادث السير المميتة.

يضاف إلى ذلك التفشّي المرضي للدراجات الناريّة التي لا تستخدم في أغراض التنقل بقدر ما تستخدم من أجل التشبيح والسرقة، ما حوّلها إلى ظاهرة كابوسيّة، خصوصا أن القسم الأكبر منها بات متحفيا وغير صالح للاستعمال.

 

انقلاب المعاني

منذ فترة ليست قصيرة تحولت البلاد إلى ميدان للخراب.العيش النهاريّ فيها تراكم مكابداتٍ شاقة في سبيل تأمين الحد الأدنى من متطلبات الحياة.

لا شيء فيها بات موصولا بمعناه المألوف والعادي بل صار يعبر عن نقيضه.

من يمشي في شوارع المدينة قد يصادف "زحمة سير" في لحظة ما، لكنّه سيلاحظ أنّها تحتوي على بعد مريب. إذا انتبه إلى عناصرها، ومكوناتها، وأسبابها، سيعرف أنّها تراكم لحشد من الدراجات الناريّة التي يستعملها الصرافون لتأمين خدمات "سريعة" للراغبين في تصريف الدولارات وشرائها.

تحتلّ هذه الدراجات جوانب الطريق ومعها بعض السيارات التي تعود لزبائن خاصين أو للحراس المتخفين المسلحين. هكذا فإنّها تضيّق الطريق على العابرين وعلى قاصدي المحال التي تقلص عددها بشكل ملحوظ، وتفرز مشهد ازدحام مصطنع لا يعكس النشاط والحيوية بقدر ما يعبر عن الاختناق والضيق. لا يلتقي المرء فيه بصخب المدينة وضجيجها الناطق باسم انفتاحها وتعدديتها، بل يبدو الصوت الذي يصدر عنها أقرب إلى الصراخ.

AP
امرأة تسير أمام كتابات تدين الحكومة وأصحاب البنوك خارج البنك اللبناني الفرنسي بعد احتجاجات في بيروت في 16 فبراير 2023.

ليل البلاد بات انعكاسا لفكرة الغابة ووحشتها وقوانينها. لا أضواء تنير الشوارع، وإشارات السير مطفأة في العموم. العابر قبل أن يقطع أي طريق يجد نفسه أمام سؤال وجودي حول الحياة والموت. الظلام الذي تغرق فيه يخرجها من التداول فتصبح كأنّها غير موجودة.

المغالبة تطبع العلاقات الاجتماعيّة وتفرض إيقاعا موتورا لحركة الناس، يتّسم بسرعة تحيل على رغبة عارمة بالصراع أو الفرار.

تُرجم ذلك في صورة شارع  فارغ يحبل أحيانا بأنماط متتالية من التوهجات العابرة التي لا تستطيع تكوين معنى ثابت وواضح.

تجمّع أشخاص في الشارع للاحتجاج الذي يتبلور في قطع طريق ما وإشعال عجلات السيارات، لم يعد يستجلب الترحيب والتوصيف الثوري، بل صار يستدعي الاستنكار والشتائم وحسب، لأنه بات موصولا باللاجدوى، ويتخذ صيغة الاعتداء وليس الاحتجاج.

البيت كوحدة اجتماعيّة مصغّرة ومرآوية، تحوّل في هذا المقام إلى كهف يحضن المخاوف. سكانه يحتمون فيه ولا يسكنون فيه. الفرق بين المفهومين هو الفرق بين الملجأ الذي يحيل على الحرب والكوارث وبين الاستقرار والأمان والرفاهية المرتبطة بمفهوم سكن  يحيل على السكينة والاطمئنان.

الناس في بيوتهم صاروا حراسا تقوم مهمتهم على نفي العالم الخارجيّ الذي لا يولِّد سوى أشباح لا يمكن أن تتجلّى إلا في هيئة لصوص، أو مغتصبين، أو قتلة.

ليل البلاد بات انعكاسا لفكرة الغابة ووحشتها وقوانينها. لا أضواء تنير الشوارع، وإشارات السير مطفأة في العموم. العابر قبل أن يقطع أي طريق يجد نفسه أمام سؤال وجودي حول الحياة والموت

الجوائح الدائمة

تحيا المنطقة تحت تأثير موجة زلزاليّة ضربت البلاد المجاورة للبنان وتسببت بسقوط عشرات الآلاف من القتلى، وكانت حصة لبنان منها موجات ارتداديّة وزلازل ضعيفة لم ينتج منها دمار أو ضحايا.

رد الفعل العام كان أكبر بكثير من الواقع الزلزليّ وتمثل في موجات هلع عارمة دفعت الناس إلى ترك بيوتهم والنزول الى الشوارع بشكل هستيريّ مع كل هزة، كما انتشر الشعور بالاهتزاز بشكل دائم والعجز عن النوم.

Getty Images
صورة نادرة لشارع الحمرا المزدحم دائماً برواده أثناء الإغلاق التام الذي دخله لبنان بسبب فيروس كورونا، 2021.

لم يغادر اللبنانيون بعد زمن جائحة كورونا. ما كان يفرضه من إجراءات استثنائيّة وعزل صحي ومنع للتجول، خرج من الطارئ والموقت ليصبح زمنا ممتدا ودائما يحلّ في يوميّات العيش ويصادرها ويولّد شعورا بأبديتها.

كذلك كان لتفجير المرفأ في عام 2020 الأثر الحاسم في مراكمة هذا النوع من المشاعر، فإضافة إلى كونه غير مسبوق في نوعه وطبيعته وحدّته كان سوء التعامل الرسميّ والقضائيّ معه مدخلا لتعميم حالة الإحساس بالعراء وديمومة الكوارث.

الجوائح ثبتت واستقرت وسيطرت على المكان وأوصافه وعلى معنى زمانه، ولم تعد آيلة للعبور إلى الماضي، بل نراها تمسك بالحاضر، وتهدّد المستقبل، وتقيم فصلا حادا بين زمن عيش اللبنانيّين وزمن العالم، وتخلق بنية شبحيّة للناس والأمكنة والأفكار، حيث لا شيء ينمو ويزدهر سوى الهذيانات، والأوهام، والمخاوف.

font change

مقالات ذات صلة