خلفيات الوساطة الصينية في الشرق الاوسط

وقع اختيار الصين على العلاقة بين السعودية وإيران، لأنها العلاقة الوحيدة التي يمكن أن تقلب المشهد السياسي في المنطقة رأسا على عقب

Saudi Press Agency/DPA
Saudi Press Agency/DPA
وزير الدولة، مستشار الأمن الوطني السعودي مساعد بن محمد العيبان ومستشار الأمن القومي الإيراني علي شمخاني ووزير الخارجية الصيني وانغ يي في صورة تذكارية عقب الإعلان عن استئناف العلاقات بين السعودية وإيران في بكين

خلفيات الوساطة الصينية في الشرق الاوسط

على مدار العام الماضي، بدأت الصين تدريجيا تنفيذ مرحلة جديدة من سياستها الخارجية انتقلت بموجبها من دور المراقب إلى لاعب مؤثر.

في البداية، أعلن الرئيس شي جينبينغ العام الماضي في منتدى بواو الآسيوي المبادرة الاستراتيجية العالمية، ووصفها بأنها "رؤية صينية للأمن المشترك والشامل والتعاوني والمستدام". ومن ثم اغتنم بينغ مؤتمر الحزب الشيوعي في أكتوبر/تشرين الأول الماضي لإعلان سياسة خارجية أكثر حزما.

جاء مؤتمر ميونيخ للأمن بعدئذ في فبراير/شباط الماضي ليكون أصدق تعبير عن هذه السياسة الجديدة عندما اتخذ عضو مجلس الدولة وانغ يي موقفا فيه تحدٍّ واضح للغرب عموما، والولايات المتحدة بشكل خاص.

أشار إلى أن صبر الصين بدأ ينفد من أزمة أوكرانيا، وأنها تمثل أكثر المشاكل تأثيرا على علاقة الغرب ببقية دول العالم. وأعلن عزم بكين على طرح أفكار حول التسوية، وفي الوقت نفسه لم يدحض ادعاءات الولايات المتحدة بأن بلاده ستوفر "أسلحة فتاكة" لروسيا. باختصار، أظهرت بكين أمام الغرب بما لا يدع مجالا للشك، أنها لن تقبل هزيمة روسيا، وفي الوقت نفسه أبلغت موسكو بأنها لن تقبل صراعا مفتوحا في أوكرانيا.

NOEL CELIS / AFP

بعد أيام قليلة أصدرت الصين ورقة مفاهيمية حول "مبادرة الأمن العالمي" وأخرى تتحدث عن موقفها "حول الأزمة الأوكرانية". وفي حين لم تأت الأخيرة بجديد، وكانت غالبا أشبه بتكرار لمواقف بكين منذ بداية الأزمة، وربما – كما قال البعض – لا يعدو الأمر كونه مرتبطا بتايوان وليس أوكرانيا، إلا أنها أشارت للعالم إلى جاهزية الصين للتوسط في الأزمة. يكمن بيت القصيد في موعد اتخاذ الصين لهذا القرار. جل ما في الأمر هو أن كيفية الإعلان وتوقيته مرتبطان بالموعد الذي ترى فيه بكين أن التدخل لحلّ الأزمة سيصبّ في مصلحتها.

في حال قررت الصين استغلال أزمة أوكرانيا للإيذان بمرحلة جديدة أكثر حزما في سياستها الخارجية، فإنها في الوقت نفسه قد اختارت الشرق الأوسط لإضفاء مضمون على سياستها الجديدة.

قبل الخوض في التغير الذي طرأ على السياسة الصينية في الشرق الأوسط، يجدر بنا أن نعرج برهة على الأزمة الأوكرانية. نظرا إلى التأثيرات الكبيرة للأزمة على البلدان النامية، ربما تفضل الصين قيادة مجموعة من البلدان النامية يتقدمها أعضاء مجموعة دول مجموعة "البريكس" لطرح مبادرة للتسوية. لكن هذا الأمر سيتطلب تحضيرات هائلة، ووقتا طويلا قد تبرز الحاجة إليه في ظل الترجيحات بعدم استجابة أوكرانيا (بدعم من الولايات المتحدة) أو روسيا للتسوية في هذه المرحلة من الصراع. وربما يتعين أن تدور رحى جولة أخرى من الأعمال العدائية الكبرى قبل اقتناع الطرفين بأن استمرار الحرب لن يعود على مصالحهما بأي نفع.

عندما أشير هنا إلى التسوية، فأنا لا أقصد بالضرورة التسوية السياسية التي تُفضي إلى إنهاء الحرب رسميا. وقد تعكس النتيجة الأكثر احتمالًا الوضع الكوريّ: إنهاء الأعمال العدائية وإبقاء الوضع الميداني على حاله دون اتفاق سلام رسمي، وتأجيل قضية الأرض إلى المستقبل.

بالنسبة إلى الوضع في الشرق الأوسط، نأت بكين في الغالب بنفسها عن معترك سياسات المنطقة لينصب اهتمامها على بناء علاقات اقتصادية مع جميع اللاعبين بمن فيهم الدول العربية وتركيا وإيران وإسرائيل. بدا كأن بكين تنظر بعين الرضا تجاه ترك إدارة أمن المنطقة إلى كل من الولايات المتحدة وروسيا. لكن استمرار الوضع الراهن من عدم الاستقرار في المنطقة سيعود بأثر سلبي على مشروعها الاستراتيجي المتمثل في "مبادرة الحزام والطريق".

Sputnik/Sergey Bobylev/Pool via REUTERS

كان الباب مفتوحا على مصراعيه لتنتقي الصين وتختار ما شاءت من نزاعات المنطقة للتوسط فيها، فما كان منها إلا أن اختارت بعناية ووفق نظرة إستراتيجية ثاقبة. وقع اختيار الصين على العلاقة بين المملكة العربية السعودية وإيران، ذلك أنها العلاقة الوحيدة التي يمكن أن تقلب المشهد السياسي في المنطقة رأسا على عقب. وعلى الرغم من أن الأمر محفوف بالأخطار، إلا أن الصين ستلتزم كعادتها جانب الحذر، فليس لديها الكثير لتخسره، بينما قد يعود عليها الأمر بمكاسب كبيرة.

في حين تواصلت المحادثات السعودية الإيرانية منذ فترة، إلا أنها لم تُظهر أي بارقة أمل في شأن إحراز تقدم ملحوظ. وخلافا لذلك، ظلت الرياض وطهران على طرفي نقيض حول لبنان وسوريا، والأهم من ذلك: اليمن.

اختيار الصين للصراع التي تتوسط فيه بالشرق الأوسط كان حذرا وله غرض استراتيجي. لقد اختارت التوسط في العلاقة التي قد تغير شكل المشهد السياسي للمنطقة: وهي العلاقات ما بين السعودية وإيران

جاءت الصين لتثبت قدرتها على دفع الطرفين إلى تخطي ما تبقى من عقبات، وإعلان استئناف العلاقات في بكين في العاشر من مارس/آذار الماضي بعد قرابة سبع سنوات من القطيعة.

من السابق لأوانه تقييم أثر هذا التطور المهم بالكامل، إلا أنه لن يكون من قبيل المبالغة أن نقول بأنه سيترك أثرا هائلا على عملية إعادة تنظيم العلاقات التي يشهدها الشرق الأوسط. ليس ذلك فحسب، بل سيتخطاها إلى العلاقات بين المنطقة والعالم الخارجي وربما الغرب بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص.

على صعيد إعادة رسم معالم المشهد الإقليمي، يرجّح أن تتسارع خطى العمليات الحالية. في المقابل، من شبه المؤكد أن تتباطأ وتيرة "الاتفاقات الإبراهيمية" وملحقاتها المتمثلة في "منتدى النقب"، بعدما كانت آخذة في التوسّع والتجذر. يرجع ذلك إلى أن الهدف الأسمى لكل من إسرائيل والولايات المتحدة المتمثل في وضع ترتيب أمني إقليمي موجه ضد إيران ما عاد قابلا للتحقيق.

Getty Images

أما الآن، ومع جنوح الرياض لاستئناف العلاقات مع طهران بدلا من مواجهتها، فقد أصبح هذا الاحتمال بعيد المنال. بالإضافة إلى ذلك، فإن سعي الولايات المتحدة إلى تحقيق التطبيع بين تل أبيب والرياض صار محطا للشكوك.

باختيارها الوساطة بين الرياض وطهران، أكدت بكين عدم رضاها عن الوضع الراهن السائد، الذي يحوز، بحسب ما يبدو، رضا الولايات المتحدة وروسيا إلى حد ما. أما الاتحاد الأوروبي، فقد استكان واكتفى بلعب دور هامشي في وضع حد للصراعات العديدة في المنطقة.

السؤال الآن: هل ستُتبع بكين وساطتها بين الرياض وطهران بمبادرات أخرى حول اليمن وسوريا ولبنان؟ تلك هي الجوانب الثلاثة التي تتعارض فيها مصالح السعودية مع إيران.

لطالما أشارت الرياض إلى أن التدخل الإيراني في اليمن وسوريا ولبنان يمثل مصدر قلق كبير لها، لا سيما اليمن. لذلك ليس من المرجح أن تقبل الرياض استئناف العلاقات مع طهران دون تفاهم على الأقل على خريطة طريق لمعالجة مخاوفها الأمنية وبالتحديد في اليمن وسوريا. وفي حال انتخاب رئيس في لبنان، فسيمثل ذلك مؤشرا مبكرا إلى التفاهم بين الرياض وطهران.

أما بالنسبة إلى اليمن، فبينما أعلنت الولايات المتحدة صراحة عدم ارتياحها، إلا أنها قدمت المساعدة للرياض في الدفاع عن نفسها ضد الحوثيين. كما دعمت الولايات المتحدة جهود الأمم المتحدة للوساطة، لكن هذه السياسة لم تكن مرضية للرياض. لطالما تمثلت مشكلة الرياض في التدخل الإيراني، وبدا أن الولايات المتحدة غير قادرة على المساعدة. وعلى ما يبدو، تحركت الصين لملء الفراغ، وستثبت الأسابيع المقبلة ما إذا كانت بكين قد تمكنت من انتزاع التنازلات التي كانت الرياض تسعى منذ سنوات للحصول عليها من إيران والحوثيين.

EPA/XINHUA

الوضع أكثر تعقيدا على الساحة السورية، فالولايات المتحدة لا تكترث بالتوصل إلى تسوية في هذا الشأن. في الوقت نفسه، توقفت جهود الأمم المتحدة للوساطة نتيجة لتوقف عمل اللجنة الدستورية زهاء عام تقريبا، ولا تلوح في الأفق احتمالات لعقدها من جديد. كما لن يحوز اقتراح النهج التدريجي الذي دعا إليه المبعوث الخاص بيدرسن الزخم بدون مشاركة عربية، وفي الأخص من الرياض.

في غضون ذلك، فإن أهم التطورات التي قد تؤثر على فرص التسوية في سوريا هي التقارب بين دمشق وأنقرة والتطبيع بين الدول العربية وسوريا.

المشكلة دائما بالنسبة للرياض كانت التدخل الإيراني في شؤون الدول المجاورة، وبدا أن الولايات المتحدة غير قادرة على المساعدة، أما الصين فقد تحركت لملء ذلك الفراغ. الأسابيع المقبلة ستبثت ما إذا نجحت الصين في انتزاع تنازلات من إيران والحوثيين سعت إليها السعودية عبر سنين.

النفوذ الإيراني 

تنشط موسكو على محور أنقرة - دمشق، فليس على بكين إذا سوى لعب دور داعم في هذه العملية. في الوقت الحالي انضمت طهران إلى الدول النشطة في المشهد السوري بعدما أقنعت روسيا بإدراجها في الاجتماع المقبل في موسكو الذي سيعقد على مستوى نواب الوزراء. ولكن من السابق لأوانه معرفة ما إذا كانت ستتمخض عن الاجتماع أي نتائج بالنظر إلى تردد دمشق في منح الرئيس أردوغان فوزا معنويا قبل الانتخابات في مايو/أيار دون انتزاع مكاسب ملموسة كبيرة على الأرض في المناطق التي تمارس فيها تركيا سيطرة فعلية في شمال سوريا.

تتوقف احتمالات تطبيع السعودية مع سوريا إلى حد كبير على علاقات الأخيرة مع إيران، حيث كان تقليص النفوذ الإيراني في سوريا مطلبا قديما على المستوى العربي عامة والسعودي خاصة. فهل ستتمكن بكين من النجاح فيما جَانَبَ العرب فيه التوفيق، وهل ستقدر على المساعدة في التفاوض على خريطة طريق بين دمشق والرياض يتقلص بموجبها النفوذ الإيراني مع مرور الوقت؟ هل ستكون بكين في وضع يتيح لها طمأنة إيران إلى قدرتها على الاحتفاظ بمصالح اقتصادية مهمة دون نفوذ سياسي متكافئ، وتقليل مخاوفها من فقدان نفوذها بالكامل في سوريا؟

تُعرف عن طهران براعتها في التكتيكات، فهل لا تعدو التنازلات التي قدمتها إلى الرياض كونها خطوة تكتيكية لكسب الوقت والتمكّن من إعادة تجميع صفوفها من الاضطرابات الداخلية والشكوك المحيطة بمصير خطة العمل المشتركة الشاملة؟

من غير المحتمل أن تكون الصين قد انضمت إلى غمار المعركة السياسية الشديدة التعقيد في الشرق الأوسط إذا لم يكن هناك قدر معقول من أسس النجاح في التأثير على عملية إعادة رسم ملامح المنطقة. وإلا ثبُت الانطباع القائل بأن سياسة الصين مجرد شعارات لا ترقى إلى المستوى العملي.

جاء إعلان التطبيع بين الرياض وطهران بعد أيام معدودة من تسريب أنباء حول ما وصف بأنه شروط سعودية للتطبيع مع إسرائيل، وهو أمر مثير للاهتمام، على أقل تقدير.

في الوقت ذاته، تُشير الظروف المحيطة بالتسريب وتوقيته إلى احتمال أن يكون خدعة من السعوديين لصرف انتباه الولايات المتحدة وإسرائيل عن أولوية أكثر أهمية يعارضها الطرفان، ألا وهي التطبيع مع طهران.

في مقدور واشنطن التعايش مع الوضع السائد في سوريا. أما موسكو، وعلى الرغم من تحول انتباهها تجاه أوكرانيا، فإنها سعت بدأب إلى ترجمة مكاسبها العسكرية في سوريا إلى تسوية سياسية. فتلك هي الطريقة الوحيدة لإعلان نجاح تدخلها العسكري.

EPA

بالنسبة إلى اليمن، وفي حين لا تنظر واشنطن وموسكو بعين الارتياح تجاه الوضع، إلا أنهما مستعدتان على ما يبدو للتعايش معه طالما لا يشكل ذلك مصدر تهديد جدّي لأمن السعودية واستقرارها.

من ناحية أخرى، تملك الصين مصلحة مباشرة في استقرار الشرق الأوسط، نظرا إلى مشروعها الاستراتيجي/ "الحزام والطريق". وتُمثل المنطقة عقدة وصل حيوية لما تتمتع به من ممرات برية وبحرية تربط آسيا بكل من أفريقيا وأوروبا.

من المحتمل جدا أن تشير الصين بوساطتها بين المملكة العربية السعودية وإيران إلى استعدادها لدعم مشروعها بدور سياسي نشط في تسوية النزاعات في المنطقة.

وإذا ما كتب لبكين مواصلة هذا المسار والنجاح في المساعدة على تسوية بعض النزاعات في المنطقة، ولا سيما اليمن وسوريا، فقد يتغير المشهد السياسي في المنطقة برمته. وفي خضم هذه العملية، ستعزز الصين مكانتها ونفوذها، ليس فقط في المنطقة ولكن في العالم بأسره.

font change