"بطولة لبنان" في الطائفية السياسية

مباراة في كرة القدم تتحول إلى ساحة حرب

الشرطة اللبنانية تتصدى لشغب جماهير فريق الأنصار (تصوير: طلال سلمان)

"بطولة لبنان" في الطائفية السياسية

كان ملعب المباراة الأخيرة والفاصلة لبطولة لبنان في كرة القدم أشبه بساحة حرب سياسية - مذهبية بين فريق "العهد"، الابن الكروي لـ"حزب الله"، وفريق "الأنصار" السني الهوية، وتشكل "الحريرية السياسية" الفئة الكبرى من جمهوره، ويرأسه نائب العاصمة بيروت نبيل بدر. جرت المباراة والصدامات الأسبوع الماضي في ملعب فؤاد شهاب البلدي في مدينة جونية الساحلية التي تعدّ "عاصمة المسيحيين الموارنة" في لبنان، على مسافة 20 كلم شمال بيروت.

سبقت المباراة وتخلّلتها أجواء متشنّجة، زادها تشنجا ارتباك حكم المباراة العُماني. وكان اتّحاد اللعبة استقدم طاقم حكّام عمانيّا لإدارة المباراة لحساسيّتها، ولعدم ثقة الجمهور بالحكّام اللبنانيّين وبالاتّحاد نفسه.

أثناء المباراة غضب جمهور فريق "الأنصار" من أداء الحكم العُماني، فشرع في تحطيم مقاعد المتفرجين وقذفها إلى أرض الملعب ثم اقتلع السور الحديد الفاصل بين المدرجات، ما أدّى وقف المباراة قبل دقائق معدودة من نهايتها. في المقابل صدحت هتافات سياسيّة - طائفيّة من جمهور "العهد": "شيعة، شيعة، شيعة"، و"الله، سوريّا، بشّار وبس". وراحت أعلام "حزب الله" ترفرف في الملعب، على الرغم من أنّ أكثر من نصف لاعبي "الأنصار" من الشيعة، بينهم قائد الفريق. ولولا التدخّل السريع للقوى الأمنية لتطوّر الصدام إلى مشهديّة قد تشبه "مقتلة بور سعيد" في مصر (2012) أثناء نزول الجماهير إلى أرض الملعب.

صدحت هتافات سياسيّة - طائفيّة من جمهور "العهد": "شيعة، شيعة، شيعة"، و"الله، سوريّا، بشّار وبس". وراحت أعلام "حزب الله" ترفرف في الملعب

شحن طائفي ومذهبي

ما حصل كان نتيجة شحن حادّ بين جماهير الأندية المتنافسة لأسباب تتداخل فيها العوامل الكروية بالسياسية والطائفية والمذهبية والمناطقية. هناك حصة للفساد الذي ينهش إدارة اللعبة بتعليب نتائجها وبالمراهنات التي يشترك فيها لاعبون وأندية وإداريّون. سبق أن حصلت فضائح في هذا المجال. وهناك أيضا إقامة المباراة على ملعب صغير بالكاد يتسع إلى نحو 4 آلاف متفرّج، وفيه مدرج واحد وتفصل أمتار قليلة بين جمهوريْ الفريقَين. وذلك عائد الى إصرار قناة تلفزيونية نقلت المباراة على إقامتها على هذا الملعب، بهدف جعل المسيحيّين شركاء في صناعة القرار الكروي.

سبق أن أبدى عدد كبير من سكّان جونية ومنطقتها تبرّمهم من إقامة المباريات على أرض مدينتهم، وانزعاجهم من سلوكيّات شغب جمهور فرق كرة القدم الذي يأتي إلى مدينتهم من بيروت وضاحيتها الجنوبية، علما أن فرق كرة القدم المسيحية لم تعد فرقا منافسة على بطولة اللعبة، وهي تراجعت ولم يعد لها جمهور من المشجعين منذ بدايات الحرب الأهلية سنة 1975.    

كان التوتر حاضرا في مباراتَين سابقتين (بين "السلام" من زغرتا، بلدة سليمان فرنجية الشمالية، و"الصفاء" ذي الهوية الجنبلاطية. وبين "الحكمة" ممثّل منطقة الأشرفيّة ومسيحيّيها و"الإخاء" من عاليه والجنبلاطي أيضا). حدثت إشكالات، وبرز ظهور مسلح على سطوح مبان تطل على ملعب المباراة، وجرى إطلاق نار لترهيب اللاعبين. هذا كله من أجل لعبة لا تدر أموالا ولا أرباحا وتفتقر الى المقومات الأساسية لكرة القدم الحديثة، لكنها تشكل انعاكسا للحال السياسية المزرية في البلاد، بتوازناتها المعقدة وفسادها الإداري والمالي العميم.  

تحطيم البوابات التي تفصل المدرجات عن أرض الملعب من قبل جماهير فريق الأنصار (تصوير: طلال سلمان)

ماضي الأيام الآتية

للإحاطة بمدى تطابق الكرة اللبنانية مع الحال السياسية، لابدّ من العودة الى الوراء. فالاتّحاد اللبناني لكرة القدم تأسّس في مارس/آذار 1933، وانضمّ الى الاتّحاد الدولي في أغسطس/آب 1936. في ذلك العام ذهب أوّل رئيس للاتّحاد حسين سجعان برفقة نائبه بيار الجميل، لحضور الألعاب الأولمبية في برلين 1936. فأعجب الأخير بالانضباط النازي، وعاد الى بيروت ليؤسّس حزب الكتائب اللبنانية، الذي لا يزال فاعلا حتّى يومنا هذا، وخرج من رحمه رئيسان للجمهورية هما نجلا المؤسّس: بشير الجميل (اغتيل قبل تسلّمه المنصب) فخلفه شقيقه أمين الجميل (1982 - 1988).

من أصل 13 جمعيّة مؤسسّة لاتحاد اللعبة، كان 11 منها مسيحية في انعكاس لهيمنة المسيحيّين على مقاليد السلطة والحكم منذ تأسيس دولة "لبنان الكبير" عام 1920، مرورا بمرحلة استقلال البلاد عن فرنسا عام 1943، وحتّى اندلاع الحرب الأهلية عام 1975. في تلك الحقبة التي تعرف بـ"الجمهورية الأولى"، دانت السيطرة على كرة القدم للأندية المسيحية التي حصدت 28 لقبا لبطولة الدوري العام، مقابل 2 فقط لنادي "النجمة" السنّي الهويّة.

أثناء سنوات الحرب الأهلية (1975 - 1990) انقسمت العاصمة بيروت وانقسم اتحاد كرة القدم اثنيْن، مسيحيا وآخر مسلما. عقب اتّفاق الطائف أصبح الثاني هو المعترف به رسميا في ترجمة لانتقال لبنان نحو "الجمهورية الثانية".

في عقد التسعينات، شهدت كرة القدم صراعا صامتا بين الشيعيّة السياسية ممثّلة بركنها الأقوى رئيس البرلمان نبيه بري، والسنيّة السياسية التي اختصرها رفيق الحريري بزعامته وحضوره الوهّاج، من أجل السيطرة على القرار الكروي، في انعكاس للتوازنات السياسية الجديدة ومراكز القوى في الجمهورية الثانية.

كرة القدم في لبنان لا تدر أموالا فهي تفتقر الى المقومات الأساسية، لكنها تشكل انعاكسا للحال السياسية المزرية في البلاد، بتوازناتها المعقدة وفسادها الإداري والمالي العميم

نتيجة لهذه التبدّلات خبا وهج الأندية المسيحية وتراجعت، حتّى إنّ بعضها طواه النسيان. في حين تسيّدت الأندية المسلمة الساحة الكروية، حدثت طفرة في الأندية الشيعية. وكانت الدرزية السياسية تلعب دور رمّانة الميزان في ذاك الصراع الصامت عبر اتّحاد اللعبة الذي اختصره أمينه العام رهيف علامة، والذي كان يعدّ أقرب الى الحريرية.  

فرفيق الحريري أولى الرياضة وكرة القدم أهميّة كبرى، انطلاقا من كونها إحدى أدوات السياسة الناعمة ذات التأثير الهائل. وعمِل من موقعه كرئيس حكومة على استضافة لبنان بعض المناسبات الرياضية والكروية الكبرى. منها دورة الألعاب العربية عام 1997، وكأس آسيا في كرة القدم عام 2000. وقاد ما يمكن وصفه بـ"الثورة الكروية" مع بناء وإعادة تجديد عدد من الملاعب والمرافق المرتبطة بها وفق أحدث المواصفات في ذلك الحين.

الانقلاب على الحريري

عام 1998 اندلع صراع عنيف بين نادي "النجمة" واتّحاد اللعبة على خلفية قرار غير مهم، لكنه لم يكن بلا دلالة بتزامنه مع وصول إميل لحّود الى رئاسة الجمهورية، وسعيه الحثيث مع فريق بشار الأسد الذي بدأ يتسلّم مقاليد الحكم والقرار في سوريا من والده، لتقليم أظفار الحريري سياسيا.

بدأ العمل على تكوين تحالف عريض يجمع الأندية الشيعيّة والمسيحيّة لتقويض نفوذ الحريريّة الكروي. وتزامن ذلك مع الحملة السياسية المستعرة على رفيق الحريري، التي استمرّت حتّى اغتياله. ونجح ذاك الحلف في قلب موازين القرار الكروي بإسقاط الاتحاد، والإتيان بآخر خاضع تماما لسيطرة الثنائي الشيعي، برئاسة هاشم حيدر، أحد رجال برّي المقرّبين والموثوق بهم.

وفي كرة القدم اللبنانية، ثمّة ناديان فقط لديهما قاعدة جماهيرية ضخمة تمتد على مساحة لبنان بأسره، وكلاهما سنيّ بيروتي، هما "الأنصار" الموالي للحريري و"النجمة" الذي صار يغلب على جمهوره الطابع الشيعي.

 

فساد وفضائح مالية

الطريف أن حيدر نقل عن لسانه عند اختياره للمنصب، أنّ كل معلوماته عن كرة القدم لا تتجاوز معرفته بأنّ الكرة مستديرة. ولا يزال الاتّحاد مستمرّا في ولايات انتخابية متعاقبة تشبه تلك التي يفوز بها رئيس البرلمان نبيه بري. ويستمدّ حيدر قوّته من سطوة "حزب الله"، ونفوذ حركة "أمل". ويتحكّم بقرارات العدد الأكبر من الأندية الناخبة التي تعتاش على مساعدات تقدمها وزارة الشباب والرياضة.

وحاول النظام الأمني السوري - اللبناني تحطيم زعامة رفيق الحريري من بوابّة كرة القدم. فدفع شخصية هامشية الى صدارة المشهد الكروي، هو طه قليلات شقيق رنا التي كانت زوجة أحد ملّاك "بنك المدينة" والمتحكمّة بقراراته. والمصرف هذا كان مركزا لعمليات مشبوهة، ويغرف من خزائنه قادة الأجهزة الأمنية السورية واللبنانية، وعدد من كبار الشخصيّات السياسية اللبنانية المقرّبة من دمشق، ما أدّى في النهاية الى إفلاسه في فضيحة جرى التعتيم عليها.

والى طه قليلات رجال الاستخبارات وأركان الحلف الذي حارب رفيق الحريري، فاشترى رخصة نادٍ كروي من أحد رجال الأعمال المقرّبين من نبيه بري أواخر عام 2000، وأنفق عليه ببذخ واضعا له موازنة بلغت قرابة 7 ملايين دولار، وهي الكبرى في تاريخ كرة القدم اللبنانية حتى يومنا هذا.

واتخذ نادي قليلات وفريقه "أولمبيك بيروت" مقرّا لهما في منطقة الطريق الجديدة، الرافد الانتخابي الأكبر لرفيق الحريري، وفي مبنى مقرّ نادي "الأنصار"، وعمل على اجتذاب قاعدته الجماهيرية بشتّى الإغراءات المالية. لكنّ انكشاف فضائح "بنك المدينة" سرّع انتهاء هذه الظاهرة دون نجاح يذكر.

في المقابل تمكن رفيق الحريري من توجيه ضربة كروية الى خصومه السياسيّين: استحوذ على نادي النجمة عام 2003، بتنازل من رئيسه لأكثر من ثلاثة عقود، الذي كان من معارضي الحريري، وذلك لقاء تخليصه من ديونه المتراكمة. وكان الحريري يروم توسيع دائرة تأثيره السياسي بشكل ناعم من خلال القاعدة الجماهيرية الضخمة لناديي "الأنصار" و"النجمة"، لكنّ القدر لم يسعفه فاغتيل في فبراير/شباط 2005.

  في عقد التسعينات، شهدت كرة القدم صراعا صامتا بين الشيعيّة السياسية ممثّلة بركنها الأقوى رئيس البرلمان نبيه بري، والسنيّة السياسية التي اختصرها رفيق الحريري بزعامته وحضوره الوهّاج


عهد "حزب الله"

ولج "حزب الله" عالم السياسة بشكل رسمي في الانتخابات النيابية الأولى بعد الحرب الأهلية عام 1992. في العام نفسه اشترى رخصة ناد مغمور وأطلق عليه اسم "العهد"، وهو أيضا اسم صحيفة الحزب الرسمية، وكذلك موقعه الإلكتروني. ترافق صعود الفريق الى الدرجة الأولى حيث الشهرة والأضواء عام 1996، مع صعود نجم "حزب الله" السياسي. وكان رئيسه أمين شرّي، الذي استقال من "العهد" ليصبح ممثّل "حزب الله" في المجلس البلدي لبيروت من 1998 حتّى 2010، وكذلك في الندوة البرلمانية عام 2005، ومن ثمّ 2018 و2022.

لم يكن فريق "العهد" بين 1996 - 2005 ذا شأن كبير في عالم الكرة، كحال "حزب الله" الذي كان "زاهدا" بالسلطة ويتركها لنظام الوصاية السوري. وبينما أخذ الأخير بالتراجع تحت وطأة الضغوط المحلية والدولية، تخلى "حزب الله" عن "زهده" السياسي بعد تحرير الجنوب اللبناني، وبدأ يلتفت الى ما اعتبره حقّه في السلطة وثمنا لما قام به. انعكست هذه الحال على فريق "العهد" الذي فاز بكأس لبنان بين 2003 و2004.

صورة متداولة على وسائل التواصل الاجتماعي تظهر لافتة معلقة في أحد شوارع بيروت كتب عليها "العهد سرطان الكرة اللبنانية"

بعد زلزال اغتيال الحريري وانسحاب السوريين من لبنان، تحوّل "حزب الله" الى قطب سياسي أساسي ومحوري. ومعه صار "العهد" قطبا كرويا فحصل على لقب الدوري اللبناني للمرّة الأولى في موسم 2007-2008، أثناء اجتياح "حزب الله" شوارع بيروت في 7 مايو/ أيّار.

ومذ ذاك تصدّر "حزب الله" الواجهة السياسية و"العهد" الواجهة الكروية. لكنّ النقلة النوعية كانت عام 2014 حينما اختار الحزب رجل الأعمال تميم سليمان، المنتمي الى طبقة الأثرياء التي صنعها، لرئاسة "العهد" وتمويله الهادف الى التهام كرة القدم اللبنانية، فيما كان "حزب الله" يبتلع الدولة والنظام ويتحوّل الى لاعب إقليمي.

طبّق تميم سليمان استراتيجيا بعض الفرق الكبرى، مثل "بايرن ميونيخ" الألماني: شراء النجوم وتكديسهم على دكّة الاحتياط لحرمان المنافسين من أيّ قدرة تنافسية. شراء أكبر عدد من اللاعبين، بما يفوق الحدّ القانوني المسموح به، ليقوم بإعارة بعضهم الى الفرق التي تعاني ماديّا وتوالي "حزب الله" سياسيا، بشرط ألّا يلعبوا ضده. ولكم أنْ تتخيّلوا حال المنافسة عندما يواجه فريق ينافس "العهد" على البطولة، فريقا آخر نصف لاعبيه وأحيانا أكثرهم يقبضون رواتبهم من "العهد".  

وتشتكي الفرق المنافسة من محاباة الاتّحاد لـ"العهد" وتحيّز الحكّام له أو خوفهم من احتساب قرارات ضدّه. ويندر أنْ تمرّ مباراة لـ"العهد" دون ارتكاب الحكام أخطاء حاسمة لصالحه. وهذا ما دفع جمهور الكرة الى وصف هذا الفريق بـ"سرطان الكرة اللبنانية".

اتحاد اللعبة ترك الأمر يمرّ مرور الكرام دون إبداء أيّ رد فعل، مع أنّه يسارع في العادة الى إصدار عقوبات بالإيقاف في حق باقي إداريّي الأندية الأخرى في مثل هذه الحالات. فقد سبق أن أوقف النائب وضّاح الصادق في أكتوبر/تشرين الأول 2013، عندما كان أمينا عامّا لنادي "الأنصار"، لمدّة سنة بسبب اعتراضه على الحكم، ما حدا بالأخير الى هجر اللعبة، ليلحق به آخرون.

لائحة ضحايا "عهد" "حزب الله" مرشّحة للارتفاع مع تهديد رئيس "الأنصار" نبيل بدر بالانسحاب من كرة القدم (على غرار انسحاب سعد الحريري من الحياة السياسية) في ظلّ اتّحاد تفوح منه روائح الفساد، وتنخره الزبائنية والتقسيمات الطائفية والمذهبية. تماما مثل حال السلطة في لبنان. وما حدث عام 2001 فرض توزيعا طائفيا في مناصب الاتحاد: رئيسه شيعي. أمينه العام درزي. باقي الأعضاء موزّعون على الطوائف والمذاهب والمناطق، ولا رأي لهم ولا دور.

font change

مقالات ذات صلة