في التسامح

في التسامح

يحسم المنشغلون بالسياسة الجدال حول مسألة التسامح فيختزلونها في عبارة "القبول بالاختلاف"، شعورا منهم أن مفهوم الاختلاف ليس في حاجة إلى إعمال فكر من شدة ما يروج ويتداول. والحال أن مفهوم الاختلاف هذا ربما ليس أكثر وضوحا من مفهوم التسامح ذاته. ليس موضوعنا تحديد مفهوم الاختلاف، ولنكتف بالقول إنه ليس مجرد تمييز يفصل بين عناصر يضعها في سلم عمودي، وإنما هو اختلاف بين أطراف تنجر إلى بعضها وفق خط أفقي. التمييز يتم بين هويات متباعدة وكيانات منفصلة منغلقة على ذاتها، أما الاختلاف فينخر الكائن ذاته ليضع الآخر في صميمه، إنه الاختلاف الذي يصبح بمقتضاه "الأنا آخر" على حدّ قول الشاعر رامبو.

إذا أخذنا بعين الاعتبار هذا التمييز، فإن عبارة "القبول بالاختلاف" تتخذ معنيين: فإما أن نسلّم بدءا بتميّز عنصر عن باقي العناصر وانفصاله عنها، وحينئذ يغدو "القبول بالاختلاف" اعترافا بذلك التميّز، وتنازلا من طرف الذات وتساهلا من جانبها، أو نقبل بانجذاب الأطراف المتباينة فيما بينها، وحينئذ يغدو قبول الاختلاف انفتاحا على الآخر، وأخذه بعين الاعتبار، ليس في تحديد الذات وحده، وإنما أيضا في تكوّنها وكيانها.

على هذا النحو، نستطيع أن نميّز بين مفهومين عن التسامح يقابلان هذين المفهومين عن الاختلاف:

- هناك التسامح الذي "يتقبّل" الآخر لأنه لا يبالي به.

- وهناك التسامح كانفتاح على الآخر في اختلافه، واقتراب منه في ابتعاده.

يكرّس المفهوم الأوّل مفهوما عن الاختلاف كمجرد تميّز، ومفهوما عن التسامح أقرب إلى اللامبالاة In-différence وإغفال الفوارق، بينما يسعى الثاني إلى أن يجعل من الاختلاف اقترابا من الآخر وانفتاحا عليه، ومن التسامح انشغالا به. ذلك أن التميّز، كما قلنا، يعرض أمامنا متغايرين في تباعد وانفصال وتدرّج، أما الاختلاف فيضعنا أمام متخالفين مبعدا أحدهما عن الآخر، مقربا بينهما في الوقت ذاته. في الاختلاف "يتحدّد" الكائن كزمان وحركة، ويصبح بفضله التعدد خاصية الهوية، والانتقال والتّرحال سمة الكائن، والانفتاح صفة الوجود. فهو إذ يبعد الأطراف فيما بينها، يصدع كيان كل منها، ويبعده عن ذاته.

في الاختلاف "يتحدّد" الكائن كزمان وحركة، ويصبح بفضله التعدد خاصية الهوية، والانتقال والتّرحال سمة الكائن، والانفتاح صفة الوجود. فهو إذ يبعد الأطراف فيما بينها، يصدع كيان كل منها، ويبعده عن ذاته

إذا حددنا التسامح إذن آخذين بالاعتبار هذا المعنى للاختلاف، وقلنا إنه "قبول الاختلاف"، فلن يؤول إلى مجرد عدم اكتراث بالآخر و"لامبالاة" به، لكنه لن يكون كذلك، وكما يقال، تقبلا لكيفيات مغايرة في التفكير والسلوك دون ضرورة المصادقة عليها، أو "بغض الطرف" عما يجعلها تخالفنا. إذ إن من شأن ذلك أن يوقعنا في نسبية ثقافية تصدر أساسا، لا عن عدم إقرار برأي الآخر، و إنّما عن الانطلاق من أن الأنا تضع نفسها جهة الحقيقة والخير، مبدية نوعا من التساهل و"التسامح"، كي لا نقول "التغاضي"، إزاء الآخر، متحمّلة (كما يشير الاشتقاق اللاتيني للكلمة tolérer :supporter ) فروقه وما قد يتوّلد عنها. ولن نتخلّص من هذه "النّسبية" الثقافية إلا إن نحن سلّمنا بأن الاختلاف، قبل أن يتوجه نحو الآخر، فهو يتجه صوب الذات. على هذا النحو لن يعود التسامح إقرارا بالاختلاف كابتعاد عن الآخر، وإنما أساسا كابتعاد عن الذات. إنه إقحام للآخر في الذات. ومن ثمة سيتنافى التسامح مع كل وثوقية وتعصب و "انهمام" بالذات. ولن تتمكن الذات أن تضع نفسها في موضع "تميّز" عن الآخر.

ذلك أن الذات القادرة على الابتعاد عن نفسها وخلق مسافة بينها وبين ذاتها، هي الذات المتشككة المبتعدة عن كل تخشب، والمنفتحة على السؤال. إنها تلك التي لا تنفك تعيد النظر في ما تعتقده سواء إزاء نفسها أو نحو الآخر، تلك التي لا تركن إلى ثوابت تخصها، ولا "تطمئن" إلى ما هي عليه.

·على هذا النحو لن يعود التسامح إقرارا بالاختلاف كابتعاد عن الآخر، وإنما أساسا كابتعاد عن الذات. إنه إقحام للآخر في الذات. ومن ثمة سيتنافى التسامح مع كل وثوقية وتعصب و "انهمام" بالذات. ولن تتمكن الذات أن تضع نفسها في موضع "تميّز" عن الآخر.

·     


لا يتعلق الأمر بطبيعة الحال بنوع من الدعوة الأخلاقية إلى نكران الذات وإلغائها، كما لا يتعلق بموقف أنثلوجي ينفي الهوية. فليس الهدف الوصول إلى حدّ لا نقول عنده "أنا" أو "نحن"، ليست الغاية أن يدفعنا قبول الاختلاف إلى محو الهوية، ليس الهدف نفي الوعي بالذات والشعور بالتمايز، وإنما الوصول إلى حيث لا تبقى قيمة كبرى للجهر بالأنا وإشهار الهوية في وجه الآخر، وإبرازها في مقابل التنوع الذي نكون عليه. ذلك أن التسامح يجعل التفرّد ضعيفا أمام قوة التعدد، والتوحّد ضيقا أمام شساعة التنوّع، والاقتصار على الأنا فقرا أمام غنى الآخر، والانطواء على الذات سدّا أمام لانهائية الأبعاد الممكنة، والاستقرار عند مقام بعينه ضياعا أمام رحابة التنقل، والاقتصار على الحاضر المتحرك هزالا أمام كثافة الزمن.

ليس التسامح إذا نسبية ثقافية، ولا هو مجرد "تحمّل" للآخر. إنه ما عن طريقه نبتعد،أنا والآخر، عن أنفسنا بهدف التقائنا معا وتقبّل كل منا لاختلافه وليس لتميّزه.                   

font change
مقالات ذات صلة