عندما يؤكد جاك دريدا أن الإثنولوجيا "لم تتمكن من أن تولد كعلم إلا لحظة خلخلة المركزية وإزاحتها، أي لحظة اهتزت أسس الثقافة الأوروبية، وبالتالي اهتز تاريخ الميتافيزيقا ومفهوماتها، حيث كفت تلك الثقافة عن اعتبار ذاتها الثقافة المرجعية"، فهو لم يكن لينظر إلى ذلك المولد باعتباره نتيجة تمخضت عن تلك الهزة الفكرية، وإنما على أنه وجه من وجوهها، ومكون من مكوناتها. ذلك أن هذه الهزة لم تكن لتخص الخطاب الفلسفي أولا، ثم العلمي في ما بعد، وإنما كانت هزة فكرية سياسية واقتصادية وتكنولوجية. "فليس من قبيل المصادفة إذن أن يكون نقد نزعة التمركز العرقي حول الذات، وهو الشرط الأساس لقيام علم الإناسة، معاصرا، فكريا وتاريخيا، لتقويض تاريخ الميتافيزيقا، فهما معا ينتميان إلى العصر نفسه".
على هذا النحو فإن اسم ليفي-ستروس ينبغي أن يوضع، في نظر صاحب التفكيك، جنبا إلى جنب مع أقطاب هذه الهزة، شأن نيتشه وفرويد وهايدغر.
تراث ميتافيزيقي
لا مفر لمعرفة مدى أهمية الخطاب الإثنولوجي وخطورته، من إدراك الدقة النقدية التي تم من طريقها التفكير في هذه العلاقة بتاريخ الميتافيزيقا والمفهومات الموروثة عنها. يتعلق الأمر إذن بوضع خطاب سيستمد من تراث ميتافيزيقي المنابع الضرورية لتفكيك هذا التراث ذاته. غني عن التأكيد أن هذا التراث قد لا يسعفنا في ذلك في بعض الأحيان، وقد يسجننا في أزواجه وداخل مفهوماته، إلا أن ليفي –ستروس سيستشعر ضرورة الاحتفاظ بتلك المفهومات، وإبقاء تلك الأزواج شأن الثنائيات: محسوس/ معقول، طبيعة/ثقافة، حتى إن ثبتت حدودها وتأكد عجزها، إلا أنه يرى أن باستطاعتنا استخدامها على نحو ما يستخدم به "البريكولور" ما يقع تحت يديه من أدوات.
البريكولاج، عند عالم الإناسة الفرنسي، آلية إبداعية تعتمد استخدام مواد أو أفكار جاهزة متاحة في المحيط (قد تكون غير مكتملة أو غير متجانسة)، لإعادة تركيبها بطريقة مبتكرة لحل مشكلة أو خلق معنى جديد. وهو يقرن بـ"الفكر المتوحش" (غير العلمي) الذي يعتمد على التكيف مع الموارد المحدودة بدلا من التخطيط المسبق كما في "الفكر المهندس" (العلمي). فبينما يبدأ فكر المهندس بخطة مسبقة، ويبحث عن أدوات/مواد تتناسب معها (مثل عالم الفيزياء الذي يصمم تجربة)، فإن فكر البريكولور يبدأ، على العكس من ذلك، بالمواد المتاحة (مادية أو رمزية) فيعيد تركيبها لخلق حلول أو معان جديدة. البريكولور مثل الحرفي الذي يصنع أداة من خردة معدنية، أو مثل ساحر قبيلة يستخدم نباتات متاحة لخلق دواء دون معرفة كيميائية مسبقة. إنه ينتج عبر إعادة تدوير ما هو متاح.