"عالم يموت، وعالم جديد تأخر في الظهور، وفي خضم هذا النور الغامض ينبعث ما يرعب" - أنطونيو غرامشي
كتب الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز: "إذا كنا نشعر أن وضع الفكر اليوم ليس على ما يرام، فذلك عائد إلى أننا، وتحت مسمى الحداثة، ارتددنا إلى التجريدات، وعدنا من جديد، إلى طرح سؤال الأصول وما شابه، وبالتالي انسد، بفعل ذلك، أفق التحليلات التي كانت تعتمد مفهومات الحركة والاندفاع. إننا نحيا فترة شديدة الضحالة، نحيا مرحلة رجعية، هذا على الرغم من أننا كنا اعتقدنا لفترة أن الفلسفة قطعت مع نقاش الأصول. في فترة القطع هذه توارت أسئلة الأصول والوصول، وبدا أن ما يهم هو بالأولى سؤال: ما الذي يحصل "بين بين؟".
البين بين
قبل أن نبين أهمية هذا "البين-بين" بالنسبة إلينا نحن كذلك، لا بد أن نقر بأننا لا نستطيع أن نتبنى محتوى ما يقوله الفيلسوف الفرنسي بكامله، لأننا لم نقطع يوما ما مع الأصول، وحتى إن كنا لا ننفك ننفتح على "الآخر" بمختلف التسميات التي أطلقناها عليه، فإننا سرعان ما كنا نعود إلى ذواتنا، ونحتمي بـ"أصولنا" ونركن إلى "خصوصيتنا". فلم نكن نرى عيبا ولا صعوبة في التساؤل عما يميزنا ويحددنا، عما ومن يطابقنا، ما ومن يخالفنا. كنا نحدد ذواتنا، فرديا وقوميا، داخل عالم محدد المعالم، وجغرافيا واضحة، فنبحث عن مكان في رقعة مرسومة مبوبة، رقعة "معقولة"، لم يكن من المتعذر علينا أن نتخذ مكاننا فيها، فكنا شرق غرب، أو جنوب شمال أو ثالث اثنين.
إلا أن هذه الأشكال من التمييز السياسي والحضاري والثقافي غدت اليوم من قبيل المتعذرات، أو، على الأقل، أصبحت من الصعوبة بمكان، حيث صرنا نشعر أننا نتساءل عن الحدود في عالم بلا حدود، ونبحث عن مرجعية في فضاء بلا مرجعيات، وعن لون خاص في عالم بلا ألوان. ولست أعني هنا فحسب الألوان الجغرافية والتجارية والسياسية، وإنما أساسا الألوان الثقافية والفكرية.