"الثقافة البديلة" واستشراف مستقبل مجتمعات ما بعد الحرب

حي "كرويتسبرغ" البرليني نموذجا

(Photo  by David GANNON / AFP
(Photo by David GANNON / AFP
جدارية "رائد الفضاء" للفنان الفرنسي فيكتور آش تنعكس على نافذة في حي كرويتسبرغ ببرلين، 11 تموز 2024

"الثقافة البديلة" واستشراف مستقبل مجتمعات ما بعد الحرب

برلين - وضع الدارسون والمهتمون تعريفات كثيرة لمفهوم الثقافة، ومن بينها منظمة "يونسكو" التي تقدم التعريف التالي: "بمعناها الأوسع، يمكن اعتبار الثقافة اليوم مجموعة السمات المميزة، الروحية والمادية، الفكرية والعاطفية، التي تميز مجتمعا أو مجموعة اجتماعية. إنها تشمل، بالإضافة إلى الفنون والآداب، أنماط الحياة، وحقوق الإنسان الأساسية، وأنظمة القيم، والتقاليد والمعتقدات".

لكن إحدى السمات المميزة للثقافة أنها غير ثابتة، أو غير جامدة، بل تتغير باستمرار، وليس دائما نحو الأفضل، متأثرة بالتفاعلات الاجتماعية وتبدل أوضاع الطبقات في المجتمع الواحد، وانعكاس ذلك على علاقة بعضها ببعض، وهذا ما نشهده في مراحل تاريخية تلي التغيرات السياسية والاقتصادية، والاضطرابات والصراعات والحروب، ولقد شهد التاريخ تحولات ثقافية كبرى. وغالبا ما تكون الأجيال الشابة، بشكل خاص، حاملة عملية التغيير الثقافي، وغالبا ما تبتكر ثقافة بديلة عن تلك السائدة، تحمل روح التمرد.

ثقافات بديلة

منذ ستينيات القرن الماضي، استخدم مفهوما الثقافات البديلة والثقافات الفرعية على نطاق واسع للإشارة إلى بعض مجموعات الشباب، وأنماط معيشتهم الاجتماعية، ولكن أيضا لمقاومتهم، من خلال طقوس تخصهم، للثقافة "الأم"، أو الرائجة، إذ أنها تطورت وازدهرت استجابة للمعايير الاجتماعية التقليدية في ذلك الوقت. لعبت الحركات الاجتماعية، مثل الهيبيين، ولاحقا حركة البانك، دورا حاسما في هذه الثقافة الناشئة. فشككت هذه المجموعات في القيم الراسخة، ودعمت حرية التعبير والمساواة في الحقوق، فتميزت حركة الهيبيين، على سبيل المثال، برفضها حرب فيتنام وترويجها للسلام والحب العالميين، كما ظهرت حركة البانك في الستينات والسبعينات، محتجة على التماثل والسياسات الاقتصادية التي تعد غير عادلة، وتميزت بالعدوانية والشباب الغاضب الذي يعبر في غضبه عن موقفه الرافض للممارسات السياسية والاقتصادية، خاصة في فترة السبعينات. وكان لهذه الحركات تأثير عميق على تطور الثقافة البديلة، خاصة في مجالي الموسيقي والأزياء.

كما لا يمكن إغفال دور كثير من الأحداث التاريخية في تحفيز ظهور الثقافة البديلة وتطورها، كالاحتجاجات ضد الحرب، والنضالات من أجل الحقوق المدنية، وتأثير الأزمات الاقتصادية، التي دفعت أجيالا مختلفة للبحث عن أشكال جديدة من التعبير مما وفر سياقا للثقافة البديلة كي تزدهر وتكون فاعلة ومؤثرة في المجتمعات

حي "كرويتسبرغ" نموذجا

لا يمكن لزائر، أو حتى لمقيم، أن يكون حياديا في تفاعله تجاه هذا الحي في العاصمة الألمانية برلين، الذي تعود بداياته إلى القرن التاسع عشر، عندما ظهر كمنطقة سكنية للطبقة العاملة. بسبب الطفرة في التصنيع، نما عدد السكان بسرعة، فشكلت المساكن الكثيفة مشهد المدينة وشكلت الهيكل الاجتماعي للمنطقة. هو حي نابض ومتعدد الثقافات، وكحي متكامل للمهاجرين، يعكس "كرويتسبرغ" العديد من الجنسيات التي تعيش فيه بسلام وتؤثر على الحي. الشوارع محاطة بفنون الشارع المثيرة واللافتة التي تحكي قصص الهجرة والتغيير الاجتماعي. الأطباق الشهية والمتنوعة معروضة صورها على الواجهات من جميع أنحاء العالم، من محلات الدونر التركية، إلى الفلافل والشاورما الشامية، إلى المطاعم الآسيوية.

لا يمكن إغفال دور الأحداث التاريخية في تحفيز ظهور الثقافة البديلة وتطورها

ارتبط تطور "كرويتسبرغ" ارتباطا وثيقا بتاريخ احتلال المنازل وحركة الثقافات البديلة التي بلغت ذروتها في ثمانينات القرن الماضي، فمن خلال احتلال المباني الشاغرة، نظم النشطاء حملة ضد ارتفاع الإيجارات وفقدان السكن الاجتماعي. وفي أثناء تجديد المدينة ومعرض البناء الدولي عام 1984، شهدت المنطقة تحولا جذريا كان له تأثيرات إيجابية وسلبية على السواء. وتطور الحي منذ ذلك الحين كحي مهم للهجرة والمهاجرين، كما أصبح مركزا للاحتجاجات الاجتماعية والسياسية، التي كانت غالبا موجهة ضد التغييرات العمرانية.

Annette Riedl/picture alliance via Getty Images
أشخاص من ثقافات مختلفة يشاركون في عرض شارع كرنفال الثقافات الـ27 في برلين، 8 حزيران 2025

يمكن القول إن حي "كرويتسبرغ" من الأحياء القليلة التي ما زالت تقاوم ظاهرة "الاستطباق" التي راجت في عديد من المدن الأوروبية، وما زال يتمسك بهويته التي تنتج ثقافة بديلة متطورة باستمرار، ويجذب الفنانين والأدباء والموسيقيين، حتى أصبح "كرويتسبرغ" الموطن شبه الأسطوري للفن والثقافة، فهو يتمتع بتاريخ طويل كمركز حيوي للحياة الثقافية والسياسية والفنية، من الناشطين وصولا إلى مهاجرين بارزين، فمنذ السبعينات، بدأ عدد متزايد من المهاجرين، وخاصة من تركيا، بالانتقال إلى "كرويتسبرغ" حتى أصبحوا جزءا لا يتجزأ من المجتمع وأثروا في التنوع الثقافي في المنطقة. وأصبحوا أصواتا مهمة في المشهد الأدبي والثقافي مثل الكاتبة ذات الأصول التركية أراس أورين التي تسلط أعمالها، مثل روايتها "رجاء لا شرطة" التي صدرت عام 1981، الضوء على الحياة في هذا الحي المتعدد، إنما الزاخر أحيانا بالصراعات. كما أن النحات التركي محمد أكصوي، الذي عرض أعماله في "كرويتسبرغ" في السبعينات، تعد تجربته مثالا على كيفية إثراء المهاجرين للحياة الاجتماعية والفنية في المنطقة.

عوائق عربية

الحي هو أكثر من مجرد المكان الذي نعيش فيه، إنه قلب الحياة الحضرية. لقد نما وتطور مع تطور الحياة والتطور التكنولوجي والحداثة، هذا ما شهدته مدن عربية أيضا، ما ساهم في تعزيز ثقافة خاصة بكل مجتمع، أو لدى كل شعب، ساهمت عوامل كثيرة في تشكلها، إنما يمكن القول، وعلى الرغم من معاناة الشعوب العربية في كثير من دول المنطقة، من أنظمة شمولية قمعية، إن كانت سياسية أو اجتماعية، أو دينية، وانفجار الوضع على شكل انتفاضات شعبية انزلقت إلى حروب، فإن نمو ثقافة بديلة وازدهاره كان محدودا جدا في تلك البلدان، بسبب القمع، ورفض أي تعبير جديد بواسطة الفن أو الثقافة أو الموسيقى أو غيرها من أدوات التعبير، فضلا عن محاصرة الحرية الفردية، والسعي باستمرار إلى صهر الجميع في بوتقة واحدة من الثقافة والعادات والتقاليد والقيم والأفكار والسلوكيات.

JOHN MACDOUGALL / AFP
جدارية "فايس تايم" لثنائي فن الشارع Various & Gould في حي كرويتسبرغ ببرلين، 22 أيلول 2023

مع هذا، لو اتخذنا من سوريا نموذجا انطلاقا من المرحلة التي مرت بها، نظاما ومجتمعا، كان لافتا بعض المظاهر في الشارع السوري، في بعض المناطق التي لا تشتعل فيها الحرب بشكل مباشر، إنما تقع تحت تأثير الهزات الارتدادية، وهي محاولة بعض الشبان والصبايا إشهار أجسادهم وقد تدخلوا فيها، إن كان لناحية الوشم، أو إطالة الشعر لدى الشبان، وهو أمر كان نادرا قبل هذه السنوات، وتلوين الصبايا شعورهن بألوان غير مألوفة، كالأخضر والأزرق والبنفسجي، وغيرها من المظاهر التي تدل على أن بعض الشباب يبحث عن طرائق غير مألوفة للتعبير عن ذاته، وهذا يدل على تأثير الثقافة "المعولمة"، من دون أن ننسى البنية التحتية الاجتماعية، التي تهتكت خلال الحرب، كذلك البنى التحتية للأحياء والمدن، وهذا أمر مهم جدا ومؤثر في الثقافة وتطورها. فهل ظهرت خلال سنوات الحرب ملامح ثقافة بديلة؟

ارتبط تطور "كرويتسبرغ" ارتباطا وثيقا بتاريخ احتلال المنازل وحركة الثقافات البديلة التي بلغت ذروتها في ثمانينات القرن الماضي

يمكن القول إن بعض الملامح ظهرت خلال السنوات الأخيرة، بالتوازي مع تجذر الثقافة السائدة، بل ترسيخ الثقافة المحافظة، خاصة بعد سقوط النظام وبداية مرحلة جديدة، وهذا أمر متوقع، فالحرب والصراعات التي وقعت في سوريا على مدى عقد ونصف العقد تقريبا، وتدخل قوى أجنبية، مع انهيار الاقتصاد مترافقا مع العقوبات، وما ترك من أثر على الشعب السوري بأكمله، كل هذا زاد في التقسيم المجتمعي والتباين الكبير بين الفئات الشعبية والاجتماعية، بل ظهرت فئات جديدة على خلفية توزع الشعب بين داخل وخارج، وبين لاجئين ونازحين، وفي دول الجوار والمخيمات أو في الدول الأوروبية، كل هذا أثر في الثقافة ونجمت عنه تمثلات مختلفة كثقافة بديلة، يمكن أن نلاحظها في المنجز الإبداعي، الأدبي والفني والموسيقي وغيره.

أثر العولمة

لمجتمعات اليوم سماتها المميزة، والمتغيرة بسرعة لمواكبة التطور السريع بالتكنولوجيا الرقمية، وتأثير الذكاء الاصطناعي في الحياة البشرية بمختلف مجالاتها، ما يجعل المجتمعات الحديثة ذات طبيعة "معولمة"، من دون إغفال دور الإعلام المتعدد والهجرة في تعزيز هذه العولمة وقولبة المجتمعات وجعلها أكثر تنوعا وتعددا، ما يسهل تحدي النماذج التقليدية للبنى الاجتماعية، هذا في حال خرج المجتمع من هذه الأزمة متحررا من القيد وأسر الأنظمة الشمولية التي تسعى إلى فرض اللون الواحد على جميع مكونات الشعب، وأثرها المستمر لفترة طويلة في بناء شخصية الفرد والمجتمع.

Julius-Christian Schreiner/picture alliance  via Getty Images
مشاركون من ثقافات مختلفة يرقصون على وقع الموسيقى خلال كرنفال الثقافات في برلين، 8 حزيران 2025

في بلاد خارجة من حرب طويلة وعنيفة، كما سوريا وغيرها من البلدان العربية التي تستعر فيها الحروب وما تخلف من دمار على مستوى الدول والمجتمعات، فإن إعادة الإعمار ستكون لها بصمة خاصة في الثقافة الجديدة، فالاتجاهات العقارية بالغة الأهمية، خاصة أن هوية المدن التي دمرتها الحرب، إن كان يشكل مباشر أو غير مباشر بسبب الوضع الاقتصادي المنهار، وعدم قدرة الدولة على الصيانة والتجديد، سوف تتغير بشكل كبير، انطلاقا من التغير الديموغرافي وزيادة عدد السكان وتلبية حاجات مجتمعية جديدة فرضتها التكنولوجيا الحالية، بالإضافة إلى مزاج وتوجهات الشركات التي ستقوم بهذه العملية، هذا سيؤدي إلى ظهور أجيال جديدة لديها تصورها عن المستقبل وطرائق صياغة حياتها، خاصة إذا ما كان نظام التعليم الجديد متناغما مع توجه الشركات والخطط الاقتصادية الجديدة، وتوجه الحكومات قبل كل شيء. هذا سيترك بصماته على المنجز الثقافي الجديد، مثلما تركت المدن الحديثة، القاهرة ودمشق وبيروت وغيرها من العواصم العربية، في بدايات القرن الماضي، بصماتها على المجال الثقافي، كالصحف والرواية والمسرح والموسيقى والفنون.

يمكن القول إن الثقافة البديلة يصنعها الجيل الشاب في سوريا وغيرها من البلدان العربية المدمرة بسبب الحروب، سوف يمر بفترات طويلة من التقلب والتغيير، سلبا أم إيجابا، وذلك بسبب مخلفات هذه الحروب التي ازدهرت واستعرت على أرضية الشروخ التي أحدثتها السياسة والصراعات في المجتمعات المحلية، وبالتالي فإن قفز هذه الأجيال من الشباب فوق هذه الصدوع الزلزالية من أجل الالتقاء على هدف واحد، هو بناء أوطانهم بطريقة مستدامة، يحتاج إلى مدة زمنية ملائمة تسمح للتغيير الإيجابي بالحدوث.

font change

مقالات ذات صلة