برلين - وضع الدارسون والمهتمون تعريفات كثيرة لمفهوم الثقافة، ومن بينها منظمة "يونسكو" التي تقدم التعريف التالي: "بمعناها الأوسع، يمكن اعتبار الثقافة اليوم مجموعة السمات المميزة، الروحية والمادية، الفكرية والعاطفية، التي تميز مجتمعا أو مجموعة اجتماعية. إنها تشمل، بالإضافة إلى الفنون والآداب، أنماط الحياة، وحقوق الإنسان الأساسية، وأنظمة القيم، والتقاليد والمعتقدات".
لكن إحدى السمات المميزة للثقافة أنها غير ثابتة، أو غير جامدة، بل تتغير باستمرار، وليس دائما نحو الأفضل، متأثرة بالتفاعلات الاجتماعية وتبدل أوضاع الطبقات في المجتمع الواحد، وانعكاس ذلك على علاقة بعضها ببعض، وهذا ما نشهده في مراحل تاريخية تلي التغيرات السياسية والاقتصادية، والاضطرابات والصراعات والحروب، ولقد شهد التاريخ تحولات ثقافية كبرى. وغالبا ما تكون الأجيال الشابة، بشكل خاص، حاملة عملية التغيير الثقافي، وغالبا ما تبتكر ثقافة بديلة عن تلك السائدة، تحمل روح التمرد.
ثقافات بديلة
منذ ستينيات القرن الماضي، استخدم مفهوما الثقافات البديلة والثقافات الفرعية على نطاق واسع للإشارة إلى بعض مجموعات الشباب، وأنماط معيشتهم الاجتماعية، ولكن أيضا لمقاومتهم، من خلال طقوس تخصهم، للثقافة "الأم"، أو الرائجة، إذ أنها تطورت وازدهرت استجابة للمعايير الاجتماعية التقليدية في ذلك الوقت. لعبت الحركات الاجتماعية، مثل الهيبيين، ولاحقا حركة البانك، دورا حاسما في هذه الثقافة الناشئة. فشككت هذه المجموعات في القيم الراسخة، ودعمت حرية التعبير والمساواة في الحقوق، فتميزت حركة الهيبيين، على سبيل المثال، برفضها حرب فيتنام وترويجها للسلام والحب العالميين، كما ظهرت حركة البانك في الستينات والسبعينات، محتجة على التماثل والسياسات الاقتصادية التي تعد غير عادلة، وتميزت بالعدوانية والشباب الغاضب الذي يعبر في غضبه عن موقفه الرافض للممارسات السياسية والاقتصادية، خاصة في فترة السبعينات. وكان لهذه الحركات تأثير عميق على تطور الثقافة البديلة، خاصة في مجالي الموسيقي والأزياء.
كما لا يمكن إغفال دور كثير من الأحداث التاريخية في تحفيز ظهور الثقافة البديلة وتطورها، كالاحتجاجات ضد الحرب، والنضالات من أجل الحقوق المدنية، وتأثير الأزمات الاقتصادية، التي دفعت أجيالا مختلفة للبحث عن أشكال جديدة من التعبير مما وفر سياقا للثقافة البديلة كي تزدهر وتكون فاعلة ومؤثرة في المجتمعات
حي "كرويتسبرغ" نموذجا
لا يمكن لزائر، أو حتى لمقيم، أن يكون حياديا في تفاعله تجاه هذا الحي في العاصمة الألمانية برلين، الذي تعود بداياته إلى القرن التاسع عشر، عندما ظهر كمنطقة سكنية للطبقة العاملة. بسبب الطفرة في التصنيع، نما عدد السكان بسرعة، فشكلت المساكن الكثيفة مشهد المدينة وشكلت الهيكل الاجتماعي للمنطقة. هو حي نابض ومتعدد الثقافات، وكحي متكامل للمهاجرين، يعكس "كرويتسبرغ" العديد من الجنسيات التي تعيش فيه بسلام وتؤثر على الحي. الشوارع محاطة بفنون الشارع المثيرة واللافتة التي تحكي قصص الهجرة والتغيير الاجتماعي. الأطباق الشهية والمتنوعة معروضة صورها على الواجهات من جميع أنحاء العالم، من محلات الدونر التركية، إلى الفلافل والشاورما الشامية، إلى المطاعم الآسيوية.