هزاَّت الطبيعة الغاضبة... وارتجاجات السياسة العنيفة

هزاَّت الطبيعة الغاضبة... وارتجاجات السياسة العنيفة

لم يكن ينقص بعض من يعانون تداعيات حروب وصراعات حادة إلا ازدياد النشاط الزلزالي. هل سيحدث زلزال جديد فعلاً؟ سؤال متكرر في بلدان عربية عدة، وخاصةً الأردن ولبنان ومصر.

يُطرح السؤال بفعل خوف بشري طبيعي تُغَّذيه تنبوءات من هنا وهناك، ولكنه لا يفتقر إلى أساس علمي وإن كان ضعيفًا. فقد حركت زلازل تركيا وسوريا الصفائح الصخرية في منطقة الأناضول، وأثرت في صدع البحر الميت الذي يمتد من هطاي إلى خليج العقبة برغم أنه لم يشهد زلازل كبيرة منذ مئات السنين. ولم يقتصر هذا الخوف على بعض سكان البلدان القريبة من مركز الزلزال في تركيا، بل امتد إلى أنحاء عدة في العالم.

إذ أرسلت معاهد في بلدان أوروبية وغيرها فرقا بحثية لجمع بيانات تحت عنوان التعلم من الزلازل، فيما انتهج آخرون نهجًا مختلفا فاستخدموا إمكانات الذكاء الاصطناعي سعيًا إلى معرفة أوجه التشابه بين منطقة الزلازل الأخيرة ومناطقهم.

ولا يعلو على صوت السائلين عن احتمال حدوث زلزال شديد جديد إلا وجعُ من يسألون عما إذا كان لمعاناتهم اليومية، الناتجة من صراعات تنهش مجتمعاتهم، من آخر. وبين هؤلاء وأولئك، يُثار سؤال عما إذا كانت الآلام المترتبة على هزات تُحدثها حركة الصفائح الصخرية في القشرة الأرضية أكبر، أم الأوجاع الناتجة من حركة الصراعات والحروب الداخلية، والمرتبطة بتدخلات إقليمية ودولية.

دمار بالجملة .. وتدمير بالمفرق

تحدث الخسائر المترتبة على هزّات الطبيعة الزلزالية بالجملة. ما هي إلا ثوان معدودات حتى تنهار أعداد ضخمة من الأبنية فوق قاطنيها فيُقتل كثير منهم، ولا ينجو إلا القليل. الدمار، هنا، بالجملة. يُحدث آثاره المهولة دفعةً واحدة، وربما تتبعها دفعات ناتجة من هزاَّت فرعية تكون معدلات الضحايا فيها أقل.

ويختلف الأمر في حالة الخسائر الناتجة من الارتجاجات السياسية العنيفة، إذ تحدث بالمفرق على مدى أسابيع أو أشهر، وأحيانا سنوات كما هي حال صراعات وحروب متفاوتة أهوالها في بعض البلدان العربية منذ مطلع العقد الماضي.

ولا يعلو على صوت السائلين عن احتمال حدوث زلزال شديد جديد إلا وجعُ من يسألون عما إذا كان لمعاناتهم اليومية، الناتجة من صراعات تنهش مجتمعاتهم، من آخر

ويرتبط هذا الفرق بين خسائر هزّات الطبيعة حين تقع، وارتجاجات السياسة عندما يشتد العنف في تفاعلاتها، باختلاف في أعداد الضحايا، ومستويات المعاناة. ضحايا هزات الطبيعة الزلزالية أقل في الأغلب الأعم، وليس على سبيل الحصر. كما أن معاناة المصابين والناجين في حالة هزّات الطبيعة تكون أخف نسبيًا، وأقصر في الأغلب أيضًا. 


فالمجتمع الدولي يتعامل مع هزّات الطبيعة بمقدارِ أوفر من الإنسانية مقارنةً بمقاربته تداعيات ارتجاجات العنف السياسي. فما أن يقع زلزال حتى يُنادىَ إلى التعجيل بأعمال الإنقاذ، وزيادة عمليات الإغاثة. ويجد المنكوبون بهزّات الطبيعة الزلزالية حُنُوا لا يُعهد مثله في حالة ضحايا الحروب والصراعات الداخلية. حُنُو يبدو كما لو أنه خارج سياق السلوك الدولي السائد في عصر الرأسمالية المالية الكبرى. يتفاوت هذا الحُنُو من حالةٍ إلى أخرى، وقد يُسيَّس في بعض الحالات. ولكنه يبقى، في الحد الأدنى، مساعدا في تقليل أوجاع المنكوبين بهزّات الطبيعة، على نحو لا يجد المسحوقون بفعل ارتجاجات السياسة شيئًا منه.


نجد مصداقًا لذلك في حالة سوريا، التي صار شعبها الأكثر معاناة في العالم منذ مطلع القرن الماضي، وحتى نشوب حرب أوكرانيا. وقد تضاعفت المعاناة في بعض المناطق السورية التي زلزلت الأرض بها، بعد أن فعلت تداعيات الارتجاجات السياسية فعلها التدميري فيها لسنوات. فصارت المعاناة، التي كانت فادحة، أشد فداحة وخاصة في ظل تسييس بعض المساعدات الدولية، سواء من جانب مانحيها، أو من قبل بعض أطراف الصراعات التي رجَّت الأرض تحت أقدام السوريين قبل أن تهزها الزلازل.

 

يتعامل المجتمع الدولي مع هزّات الطبيعة بمقدارِ أوفر من الإنسانية مقارنةً بمقاربته تداعيات ارتجاجات العنف السياسي. فما أن يقع زلزال حتى يُنادىَ إلى التعجيل بأعمال الإنقاذ، وزيادة عمليات الإغاثة. ويجد المنكوبون بهزّات الطبيعة الزلزالية حُنُوا لا يُعهد مثله في حالة ضحايا الحروب والصراعات الداخلية

وبعد أن كان تسييس المساعدات في تركيا أقل بوضوحٍ منه في سوريا لأسابيع، بدأت في مطلع الشهر الجاري شكاوى من تراجع الاهتمام بضحايا هزات الطبيعة بمقدار تصاعد التوترات المرتبطة بقرب موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في 4 مايو /آيار المقبل. فقد حوَّلت هذه التوترات الأنظار، بدرجة أو درجات، من المناطق المنكوبة إلى المدن الكبرى مثل أنقرة واسطنبول، حيث توجد تجليات الصراع السياسي-الانتخابي.
حين تفوق قسوة البشر غضب الطبيعة!


تجاوز عدد الضحايا الذين لقوا حتفهم في زلازل تركيا وسوريا خمسين ألفا. أعداد المصابين أكبر. وأكثر من هؤلاء وأولئك من فقدوا منازلهم، ونزح بعضهم إلى مناطق أخرى، ولم يجد بعضهم مأوى إلا في خيم وحافلات.
مأساة هؤلاء أكبر في سوريا، إذ جاءتهم الضربة هذه المرة من أسفل وهم الذين تعودوا أن تأتيهم من أعلى حين تنهال عليهم القذائف والصواريخ والبراميل المتفجرة. ونزح بفعل غضب الطبيعة بعض من كانوا قد نزحوا قبلاً بسبب قسوة بشر، أو هكذا يعتبرون، سواء كانوا من أبناء بلدهم، أو آخرين يحتلون أو يسيطرون على بعض مناطقه.


في كل من هزّات الطبيعة الغاضبة وارتجاجات السياسة العنيفة يصبح السكان مجرد أرقام تُعد. إذ تنشط عدَّادات إعلامية ورسمية لإحصاء أعداد الضحايا. ويحمل من لا تُعرف هوياتهم أرقاما توضع على شواهد مقابر جماعية يُدفنون بها، فيفقدون أسماءهم، بعد أن فقدوا حيواتهم. غير أن هذا لا يعني تساوي مصائب الطبيعة والسياسة، سواء من حيث أعداد الضحايا، أو معدلات الدمار والتدمير.


ضحايا الصراعات السياسية، التي أنتجت حروبًا داخلية وإقليمية ودولية لم يُسدل عليها الستار بعد، أكبر مقارنة بالزلازل الأخيرة. والأيدي، التي امتدت لإغاثة منكوبي هذه الزلازل، حتى وإن كانت قصيرة، لم يمتد مثلها لإنقاذ ضحايا الحروب والصراعات السياسية، برغم أن المتوسط العام لعدد من لقوا حتفهم في الحرب السورية قد تجاوز النصف مليون قبل أربع سنوات على الأقل. أما المُهجرَّون والنازحون فحدَّث ولا حرج.


وليست هذه قاعدة عامة في العلاقة بين هزّات الطبيعة وارتجاجات السياسة، أو قل إن الاستثناءات منها لا يُستهان بها. ولكن المهم، في كل هذا، أن قسوة البشر أشد وأفظع من غضب الطبيعة في البلدان التي لا سقف فيها للصراعات حين تنشب، ولا حدود للجرائم التى تُرتكب في الحروب حين تندلع، وهو ما يحدث عادةً في بلدان يتسلط فيها من لا يرون للإنسان قيمة. 
 

font change