اللعب بالكلمات

اللعب بالكلمات

كتب جيل دولوز معلقا على ردود الفعل التي أعقبت نشر كتاب "ضد أوديب" الذي ألّفه بمعية صديقه فيليكس غواتاري: "هناك أمر أثار انتباهي، فأولئك الذين لاقوا صعوبة في هذا الكتاب هم الذين يحظون بقدر كبير من المعرفة، والمعرفة التحليلية على الخصوص. فقد تساءلوا: ما المقصود بـ"الجسم من غير أعضاء"؟ وماذا تعني "الآلات الراغبة"؟ وعلى عكس هؤلاء، فإن من لا يتوفّرون إلا على نزر يسير من المعرفة، أي أولئك الذين لم يُتخموا بمعارف التحليل النفسي، يواجهون صعوبات أقل من هاته، فيدَعُون جانبا ما لم يستوعبوه. لهذا السبب قلنا إن هذا الكتاب يتوجه مبدئيا إلى من تتراوح أعمارهم بين 15 و20 سنة".

كأن صاحب "منطق المعنى" يشترط في قارئه أن يكون فارغ الذاكرة، أو، على الأقل، ألا يكون متخما بالمعارف، وأن يتحرر ما أمكن، مما ترسب حول النص المقروء. إذ من شأن هذه الرواسب وتلك التخمة أن تعمل حاجزا دون ربط العلاقة مع المقروء. لذا هو يرى أن "هناك طريقتين لقراءة كتاب: فإما أن ننظر إليه على أنه صندوق يحيل إلى داخل، وحينئذ سنعمل على البحث عن المدلولات، ثم إذا كنا أكثر سوءا أو غشا نخوض في البحث عن الدوال. ونعامل الكتاب اللاحق مثل صندوق يتضمنه الصندوق السابق أو هو متضمِّن له بدوره. فنسهب في التعليقات والتأويلات، ونطالب بالتفسيرات والتعليلات، فنكتب كتابا حول الكتاب إلى ما لا نهاية له". أما الكيفية الأخرى للقراءة: فهي "تعتبر الكتاب آلة صغرى لا-دالة، المشكل الوحيد الذي يطرح هو: هل تعمل؟ وكيف تعمل؟ كيف تعمل بالنسبة إليك؟ إذا لم تعمل، إذا لم يمرّ شيء، فلْتتناول كتابا آخر. هذه القراءة المغايرة هي قراءة تركز على الشدّة، فإمّا أن يمرّ التيّار أو لا يمرّ، وليس هناك ما ينبغي تفسيره أو فهمه أو تأويله. فالأمر مثل الوصْل الكهربائي... هذه الطريقة المغايرة في القراءة تنقل الكتاب خارجا. كل كتاب عبارة عن دولاب داخل آلة ضخمة. الكتاب دفق بين تدفقات أخرى. وهو لا يفضلها في شيء. إنه يتشابك في علائق، تيارات سارية وتيارات معاكسة".

"لولا وجه اللعب الذي تتخذه الكتابة، لما كتبت. ما جدوى الكتابة إذا لم نلعب في الوقت ذاته بالكلمات والصور والذاكرة؟"

 

عبد الفتاح كيليطو

تُركّز هذه الطريقة في القراءة على الشدّة. فما يهمّ ليس الموضوع الذي ينصبّ عليه التفكير، وإنما شدّة الفكر، تلك الشدّة التي لا تتحدّد بما يخزّنه الكتاب من معارف، لا تتحدّد بـ"داخل الصندوق"، وإنما بالخارج الذي "يُوصل به"، وبقوة التيّار "الكهربائي" الذي يمرّ، وبما يتولد عن هذا التيار من مفعولات مغناطيسية وحرارية قد تحوّل الفكر عندما يعمل، أو قد تحدث فيه رجة على الأقل فتهز ثوابته، وتقيم "تيارا ضد تيار، وآلة ضدّ أخرى، وتجريبا ضد آخر".

لا تنظر هذه القراءة إلى الكتاب على أنه خزّان للمعاني، وهي تسعى لإنقاذ المقروء من الغرق في بحر المعارف التي تغدو عائقا دون إعمال الفكر، وحمايته ضدّ مرض التأويلات والشروح والتعليقات، لجرّه بعيدا عن القراءة المستبطنة بما تعطيه من قدسية للنصوص، وتأليه للمعاني، مع ما يستدعيه كل ذلك من مرور عبر "الدواخل": دواخل الوعي و"دواخل" المفهوم، ودواخل النصوص.

كثيرا ما يخطر في بالي هذا المقطع من هذه الرسالة التي كان دولوز قد وجهها إلى كاتب ناشئ ألّف عنه كتابا، كلما أثيرت مسألة قراءة التراث العربي بصفة عامة، وقراءات عبد الفتاح كيليطو على وجه الخصوص. فأنا، على سبيل المثل، يتعذر عليّ، أن أفهم رأي الذين يقولون إن كيليطو قد تسلح بالمناهج الغربية، فمكّنه ذلك من أن يعيد قراءة التراث على ضوء تلك المناهج التي أثبتت نجاعتها في قراءة تراثها. ناهيك بمن يقولون إنه "استوعب" مختلف المناهج التي وظّفها العرب الأقدمون والمحدثون، فاستطاع أن يستخلص منها رؤية مكّنته من أن يعيد إلينا التراث في "حقيقته".

الرأي الأول يفترض أن المنهج قابل لأن ينفصل عن موضوعه لكي يُطبَّق على موضوع آخر. ولا داعي أن نذكر هنا أن المناهج مرتبطة بموضوعها ارتباط الشكل بالمحتوى، والمبنى بالمعنى، إلى حدّ أن بعض أصحاب إبيستمولوجيا الرياضيات يذهبون إلى القول إن المنهج هو الذي يخلق الموضوع.

"الكتاب الكبار أصحاب ذاكرة ضعيفة" 

عبد الفتاح كيليطو

أما في ما يخصّ الرأي الذي يدّعي أن صاحب "الكتابة والتناسخ" قد "حصّل" ما قيل عن التراث الأدبي وما كتب عنه لكي يستخلص المنهج الخاص به، فربما لن نحتاج إلى كبير دليل لتفنيده. إذ من النادر جدا أن يحيل كيليطو على من تقدموه في دراسة من الدراسات. فإذا تصفحنا، على سبيل المثل، كتابه عن المعرّي، فإننا لا نكاد نعثر لمن سبق أن درس المعري على أثر. لا يعني ذلك تنكرا لهؤلاء، أو نوعا من عدم الاكتراث، وإنما فقط أن صاحب "من نبحث عنه بعيدا يقطن قربنا" يأتي إلى موضوعه وقد نسي كل قراءاته.  

لنعد من جديد إلى رسالة دولوز، وإلى إلحاحه على أن كتابه موجّه إلى شباب لم يتخموا معرفة، شباب لم يتبحروا في المعارف، شباب لا يزال في إمكانهم ألا يلتصقوا بالنص، وأن "يدَعُوا جانبا ما لم يستوعبوه" ليتوجهوا إلى نص آخر. فكأنهم يحاولون قراءة النص بعيدا عما حمّله إياه المعلقون، وما صبغه به تاريخ الأدب مع مرور أحقابه، وتغيّر أحواله، وتبدّل تأويلاته. فما يشدهم إلى موضوعهم هو نوع من القراءة "البريئة" لكي لا نقول "الساذجة"، إنها القراءة "الصغيرة السن" التي لم يثقل كاهلها الزمن، ولم تدفنها الشروح والتفسيرات تحت أنقاضها، ولم تغلفها "طبقات" النقاد والمعلقين بغلافها، القراءة التي تلعب بـ"الصور والكلمات والذاكرة"، ذلك اللعب الذي لا يقوى عليه إلا أصحاب الذاكرات الضعيفة.

font change
مقالات ذات صلة