الماغوط وتصفية الحساب مع الذاكرة

الماغوط وتصفية الحساب مع الذاكرة

"ما من جريمة كاملة في هذا العصر سوى أن يولد الإنسان عربيا" (محمد الماغوط)

بين يديَّ الآن ثلاثة كتب للشاعر السوري الراحل محمد الماغوط أو عنه، هي حصيلة ليلة أخرى من معركة ترتيب مكتبتي، التي يبدو - والله أعلم - أنها لن تنتهي أبداً، لكن تحريضها لي على الكتابة عن الكتب وعوالمها يشفع لها أحيانا.

الكتب الثلاثة هي: "محمد الماغوط و"صوبيا" الحزب القومي"، للباحث جان داية، "محمد الماغوط.. رسائل الجوع والخوف"، لشقيقه عيسى الماغوط، ورواية "الأرجوحة" لمحمد الماغوط نفسه.

تتقاطع هذه الكتب بشكل أو بآخر في موضوع واحد هو سيرة الماغوط، التي لم يكتبها الشاعر، وإن حاول توظيفها في روايته الوحيدة "الأرجوحة" التي قال عنها ناشرها عام 1991: "في روايته الوحيدة التي كتبها منذ ما يزيد على عقدين من الزمان، ولم تكتمل فصولا بعد، يطل محمد الماغوط على واقع عربي يعرفه ويخشاه الجميع ولا يتكلمون عنه إلا همسا أو إيماء".

كان ذلك قبل أن يكشف لنا جان داية عن رواية أخرى للماغوط نشرت مسلسلة في صحيفة "البناء" التابعة للحزب القومي السوري، بتوقيع "سومر"، لكنه تجاهلها بعد ذلك تماما.

في روايته الوحيدة التي لم تكتمل فصولا، يطل محمد الماغوط على واقع عربي يعرفه ويخشاه الجميع ولا يتكلمون عنه إلا همسا أو إيماء

ولكن، ماذا تبقى من الماغوط كي يرويه عن حياته بعدما أوجع القلب واللغة والمزاج العام، وكتب بأسى بليغ:

"أناشك الله يا أبي:

دع جمع الحطب والمعلومات عني

وتعال لملم حطامي من الشوارع

قبل أن تطمرني الريح

أو يبعثرني الكنّاسون

هذا القلم سيقودني إلى حتفي

لم يترك سجناً إلا وقادني إليه

ولا رصيفاً إلا ومرغني عليه".

هذه رؤية الماغوط السوداوية للحياة والوطن والعرب والعالم والوجود، التي ازدادت بؤسا ومرارة بعد رحيل زوجته الشاعرة سنية صالح التي ودعها صارخا:

"لولاها…

لولا تلك الابتسامة التي تشبه جرحاً فوق جرح، لَما كنت أجد أيّ مبرّر حتى لتحريك الأصابع والأجفان. لقد تسلّخَتْ يداي من الكتابة، واغرورقت كلّ طاولات دمشق وبيروت بدموعي، وأنا وحيدٌ كالمسمار".

لذلك عندما يجيء جان داية ويعلن الحرب السلمية على ابن "السلمية" وعلى إرث الماغوط من خلال توظيف ذاكرة الماغوط نفسه، ليكشف تناقضه في قضايا تجاوزها الشاعر مبكرا، وتحديدا علاقته بالحزب السوري القومي الاجتماعي الذي كان بكل المقاييس حاضنا له في فترة التشرد والبحث عن ملاذ ورفاق وحياة محتملة.

ولكن يبقى لداية فضل جمع مقالاته وقصائده المفقودة في مرحلة البدايات، إذ استطاع أن يجمع 34 مقالا و16 قصيدة، إضافة إلى رواية مجهولة نشرها باسم مستعار هي رواية "غرام سن الفيل".

لا يتوقف البحث في ذاكرة الماغوط عند هذا الحد فكتاب "محمد الماغوط.. رسائل الجوع والخوف" لشقيقه عيسى لم يكن رحيما تماما، بل كتب بلغة تكاد تفضح بل فضحت المستور في مواقع كثيرة،فهي فضحت ضعف لغته في البدايات، وفضحت علاقته بالعائلة والمال والحزب والمسؤولية.

وهي فضحت أخيرا ما قد يرقى إلى سوء معاملته لزوجته سنية إلى حد التسبب في اجهاضها، ولهذا الموضوع تفاصيل أوسع ذكرها الشاعر شوقي بزيع في كتابه "زواج المبدعين" الصادر أخيرا.

لعل مهمة البحث والتوثيق تسمح لأي كان بالكتابة في أي موضوع بنزاهة وتجرد ومنهجية عندما يتناول مصائر الشخصيات العامة، لكن كتاب عيسى لم يكن بحثا بل استعادة لحياة كان شقيقه الأشهر هو نجمها ولم يجد ما تلتقطه ذاكرته سوى المرير منها.

هذان الكتابان ورواية الماغوط "الأرجوحة"، تفتح الأفق واسعا لإعادة اكتشاف الماغوط الذي لم يكن عابرا في مسيرة الابداع العربي في الجزء الأخير من القرن العشرين، بل هو وبكل ثقة أقول من كرس قصيدة النثر في الفضاء العربي. فمهما كانت مبادرات توفيق صائغ وجهود مجلة "شعر" وتنظير أدونيس ومغامرة أنسي الحاج ومقدمته العميقة في "لن" وإبداعات شعراء "شعر" المخلصين، إلا أن الماغوط بدواوينه الثلاثة استطاع أن يحفر مجرى للنهر لم يستطع أن ينجزه فريق كامل من المبدعين.

وإذا كان حواره الطويل مع الروائي والصحافي خليل صويلح الذي نشر في كتاب "اغتصاب كان واخواتها" سلط بعض الضوء على جزء من ملامح شخصيته، فإن شخصية الشاعر والمسرحي والساخر تستحق اهتماما أكبر من تصفية الحسابات عبر الذاكرة.

وكأن مقولته "إن الموت ليس هو الخسارة الكبرى.. الخسارة الأكبر هو ما يموت فينا ونحن أحياء".

ولكن بعد هذا كله، لا يمكن أن ننهي هذه التلويحة الطويلة دون أن نردد مع الماغوط صرخته التي اختصر بها عقودا من التراجع العربي في مختلف المجالات:

"يد واحدة لا تصفق.

إلى الجحيم،

ألم تشبعوا تصفيقاً بعد؟".

font change