رسائل المنتحرين في لبنان... آخر الصرخات في مواجهة سلطة "حزب الله"

أحدهم اعتبر نفسه "شهيدا"

 AFP
AFP
بلغ معدل الانتحار الشهري في لبنان وفق إحصاءات دولية 11 انتحارا

رسائل المنتحرين في لبنان... آخر الصرخات في مواجهة سلطة "حزب الله"

بيروت: في دقيقتين وسبع عشرة ثانية قال موسى الشامي ابن بلدة جرجوع الجنوبية كلّ شيء عن البلاد ومضى، وذلك في رسالة صوتية مسجلة أرسلها إلى صديقه علي قبيل انتحاره.

لم يتركنا نسمع صوت الرصاصة التي أطلقها على نفسه، وكأنه كان يستعجل الركون إلى السكينة والصمت هربا من صخب الموت وسلب الكرامة الذي يمزق كيانه وكيان كلّ اللبنانيين.

قال موسى في رسالته مخاطبا صديقه: "قل لدعاء (زوجته) موسى يحبها كثيرا، ولكنني لم أعد قادرا. لقد تعبت وقرفت من هذه الحياة... يا علي، سامحني ودع الجميع يسامحونني، ولا تسمح لأحد بالتحدث عني بالسوء، وأنا وأولادي جميعا أمانة في رقبتك".

محمد الشامي، قريب موسى، كتب مقالا في موقع "أساس ميديا" بعنوان "لماذا انتحر ابن عمتي موسى الشامي؟" جاء فيه: "لم ندرك، نحن المحيطين بموسى، ما كان يوجع قلبه، ولم يحسب أخوة موسى أو أهله أو أصدقاؤه المقرّبون أنّ أزمته كانت تخنقه فيما هو لا يبوح باختناقه لأحد".

أضاف: "في بلاد الله الواسعة، في زمن الأزمات، يتظاهر أمثال موسى، يعترضون، ينظّمون تجمّعات ويهتفون ضدّ السلطة، كما كانوا يفعلون خلال ثورة 17 تشرين. لكن في جنوب لبنان الضيّق، فإنّ الاعتراض جريمة، والمعترضين "عملاء" يحاصرهم المحازبون، ويهدّدهم الحاكمون، ويلاحقهم عسس الأحزاب. وجد موسى نفسه بين سلّة الانتحار وذلّة الحياة، فأطلق النار على نفسه حاسما النقاش، ومهوّنا على المحازبين العناء".

نستنتج مما ورد في رسالة موسى وفي مقال محمد أن الانتحار في جنوب لبنان هو رد فعل على جريمة موصوفة وشاملة، تغلق كل أبواب الاحتجاج والعيش، وتسحب من الناس كراماتهم وحرياتهم وعزة نفسهم.

ليس من قبيل المصادفة تواتر أخبار الانتحار في بيئة واحدة وفي فترة زمنية متقاربة، فإضافة الى موسى الشامي ابن بلدة جرجوع الجنوبية شهد الجنوب انتحار حسين مروة من بلدة الزرارية، ومحمد ابراهيم من بلدة الوردانية، كما انتحر علي مشهور أبو حمدان في البقاع.

في كل قصص الانتحار هذه تتكرّر العناوين نفسها التي تحيل على أزمة اقتصادية حادّة مقرونة بقمع عنيف لكل أشكال التعبير وسحق للحريات وسلب للكرامات.

المعايير نفسها تنطبق على انتحار بيار صقر ابن زحلة الذي يقطن في منطقة المتن. بيار كان قد أعلن عزمه على الانتحار في نص مطول نشره على صفحته على موقع "فيسبوك". لم ينجح أحد في ثنيه عن قراره، وقد نفذ انتحاره في منطقة صنين بالقرب من كنيسة.

بيار شخصية معروفة اشتهر بجولاته في شتى المناطق اللبنانية ونشره صوراً تظهر جمال الطبيعة، كما كان يملك معملا لصنع اللوحات الإعلانية، وقد اضطر إلى إقفاله بعدما عجز عن دفع إيجاره.

اللافت في خطاب انتحاره كان الإشارة الواضحة إلى الفاعلين خلافا لخطابات الانتحار التي خرجت من البيئة الجنوبية.

يعلن صقر بوضوح: "اعتبروني شهيدا، أو بالضبط ضحية الانهيار الذي تقف خلفه كتلة الشر المعممة بالأسود، والتي تختبئ تحت الأرض في الضاحية. أنا ضحيته وضحية توابعه الفاسدين اللصوص الذين تواطأوا معه مقابل المال والسلطة".

ذلك الانهيار الذي يشكل القاسم المشترك في كلمات المنتحرين الأخيرة ليس سوى أحد تجليات حضور القوة القاهرة التي تسمي نفسها "حزب الله" في الحياة العامة في لبنان، وقد بلغ ذروته في الآونة الأخيرة في مشهدية دمار شامل طاول كل بنى الأمان في الميادين كافة فوجد الناس أنفسهم عراة.

الانتحار في هذا المقام يبدو محاولة لترميم العالم بالغياب عنه.

"اعتبروني شهيدا، أو بالضبط ضحية الانهيار الذي تقف خلفه كتلة الشر المعممة بالأسود، والتي تختبئ  تحت الأرض في الضاحية. أنا ضحيته وضحية توابعه الفاسدين اللصوص الذين تواطأوا معه مقابل المال والسلطة" – بيار صقر قبل انتحاره


انهيار وقمع

يحتل الانهيار الاقتصادي موقع الصدارة في أسباب الانتحار، لأنه العنوان القابل للتحديد والقياس والمعاينة، لكنه يخفي وراءه جملة من العناوين الخطيرة وغير القابلة للقياس المباشر.

يعلم الجميع أنّ أي بادرة احتجاج في الجنوب خصوصا وفي كل المناطق عموما تقمع بعنف شديد لا يراعي الخصوصيات ولا الحرمات. توصيف تغيير الرأي والعودة الإكراهية إلى ما تسميه تلك القوة المسيطرة بالرشد يتجلى في ظاهرة "قبل السحسوح وبعد السحسوح" (أي قبل القمع وبعده).

المحتجون يُجبَرون على إدانة أنفسهم وتسفيه عناوين رفضهم تحت ضغط ترهيب شديد وإذلال يجبرهم على حمل صور الزعماء والاعتذار من كعوب أحذيتهم.

في مثل هذه البيئة يرتبط الاستمرار في العيش والحصول على وظيفة وتأمين الحد الأدنى من الموارد بالانتظام العقائدي والولائي في صفوف جماعة تحولت إلى رب عمل أساسي.

EPA
عنصر متقاعد من قوى الأمن يحمل العلم الوطني أثناء احتجاج للمتقاعدين العسكريين أمام المصرف المركزي اللبناني في بيروت بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية، لبنان، 30 مارس/آذار 2023.

لا نجاة من أسر الشروط التي تفرضها إلا بفرار تام من البلد تتعقد شروطه بعدما بات اللبناني عموما في نظر العالم أقرب إلى الوباء الذي يجب تجنبه والابتعاد عنه. محاولات الفرار تتخذ صيغا انتحارية يائسة قد يكون تجليها الأوضح في قوارب الموت التي تغادر الشواطئ اللبنانية بوتيرة متزايدة، وفي أعداد الذين فروا من البلد بشكل نهائي ووصلوا في السنتين الأخيرتين إلى حدود 300 ألف شخص. هؤلاء لا يغادرون  لبناء مستقبل أو إثر حصولهم على عقود عمل مجزية،  بل يغادرون طمعا في البقاء على قيد الحياة وحسب، أو للحصول على لجوء بشروط مهينة في أي بلد يحظى بالحد الأدنى من الاستقرار.

القوة الصانعة لكل أزمات البلد اسمها "حزب الله". منذ ثمانينات القرن الماضي بدأت هذه القوة تنمو وتنتشر حتى استطاعت بسط سيطرتها على كل مفاصل البلاد، وكان أبرز تأثيراتها تفكيك بنى المجتمع اللبناني بشكل عام وإشاعة الفظاظة والعنف في كل شيء، خطابا ومنطقا وسلوكا وثقافة.

شدة السطوة في هذا المشروع كانت تتفاوت، وقدرته على فرض إيقاعه التام على البلاد كانت تُخترق بعناية عربية ودولية تسعى إلى ترميم ما يمكن ترميمه.

الانسداد التام الذي وصل إليه لبنان، وجاء نتيجة لاجتماع الانهيار الاجتماعي والاقتصادي، والفساد، والانفلات الأمني، وخروج البلد من دائرة الاهتمام، أنتج انتحارات يحاول أصحابها تحميل إنهائهم حيواتهم معنى الاحتجاج الذي لم يعد ممكنا في سياق اجتماعي وعمومي، بعدما تواطأت كل مكونات السلطة مع "حزب الله" على قمع "ثورة تشرين" 2019 التي كانت آخر تعبير عام في البلاد.

بعدها باتت السلطات التي يديرها ويوجهها "حزب الله" مطمئنة إلى أن أي تعبير يخرج لن يكون عاما، أو أنه لن يستطيع خلق شروط احتجاج شعبي، لأن الذروة التي بلغتها الأزمة أجبرت الناس على الارتداد إلى الداخل وحولتهم أفرادا مذعورين يرجو كل واحد منهم خلاصه الفردي.

من هنا نفهم أن ما جاء في خطابات الانتحار في بيئتين مختلفتين لناحية رد السبب إلى الفاعل الواحد، إنما يحمل نزعة العودة إلى العام وإلى الجماعي، لأن خلاصته تمثل الشعور الكامن في نفوس الجميع سواء عبّروا عنه أو أنكروه.

 من هنا قد يكون الانتحارفي لبنان نوعا من التحرير الدرامي الأقصى لكتلة المشاعر المخزونة عند الجميع، وكأن المنتحرين قرروا أن يموتوا عن المجتمع، ومنح انتحارهم سمات التحريض من ناحية والتوثيق من ناحية أخرى لجريمة واضحة المعالم كانوا ضحاياها، لكنهم انتزعوا بموتهم الإرادي الحق في إدانة الجلاد الواحد والوحيد.

 قد يكون الانتحار في لبنان  نوعا من التحرير الدرامي الأقصى لكتلة المشاعر المخزونة عند الجميع، وكأن المنتحرين قرروا أن يموتوا عن المجتمع، ومنح انتحارهم سمات التحريض من ناحية والتوثيق من ناحية أخرى لجريمة واضحة المعالم كانوا ضحاياها


هرمونات

أوردت منظمة الصحة العالمية في تقريرها الصادر عام 2017 أن نحو 800 ألف شخص ينتحرون في كل عام. يعني ذلك أن الانتحار ظاهرة  اجتماعية، ولا يمكن تفسيرها بردّها إلى المرض النفسي والعقلي ونقص الهرمونات، كما هي الحال في القراءات التي واكبت ظواهر الانتحار المتمادية في لبنان.

حتى اللحظة بلغ معدل الانتحار الشهري في لبنان وفق إحصاءات دولية، 11 انتحارا، لكن الترجيحات تقول إن العدد الفعلي أكبر بكثير، لأن العائلات تخفي أخبار الانتحار ولا تعلنها خوفا من التعرض للوصم الاجتماعي.

وكان عالم الاجتماع الأشهر أميل دوركهايم قد أصر في دراسته حول الانتحار على تأكيد أن الانتحار فعل ينتمي بالكامل إلى سياق اجتماعي، ولا يمكن ربطه بأي شكل من الأشكال بعناوين المرض النفسي والعقلي، لأن ذلك ينفي شروط تحققه الأساسية المرتبطة بالقصدية والتعمد.

AP
التصنيفات العالمية للسعادة تدرج لبنان في صدارة الدول الأكثر تعاسة

لا تزال حجج دوركهايم متينة على الرغم من مرور أكثر من قرن على نشرها، وكان من اللافت المسارعة إلى إطلاق تفسيرات نفسية وعقلية وهرمونية مباشرة كتعقيب وتفسير للانتحارات التي غزت المجتمع اللبناني بكل أطيافه وفئاته ومستوياته، مع أن المنتحرين على اختلاف مشاربهم أطلقوا جميعا رسائل اجتماعية واضحة سواء في ما تركوه خلفهم من رسائل أخيرة، أو عبر ما تم رصده من عوامل سحب الإنسانية التي فرضت عليهم.

تجاهل السياق الاجتماعي المؤسّس للانتحار ليس سوى جزء من عمليات التغطية على الجرائم الكبرى التي تمارَس ضد الناس، وتجعلهم عاجزين عن الدفاع عن إنسانيتهم ومعنى وجودهم، فيختار بعضهم اللجوء إلى موت إرادي يحفظ لهم الحد الأدنى من كراماتهم السليبة. 

راجت مع موجة الانتحار التي ضربت لبنان تفسيرات تجعل الانتحار مسألة نقص في هرمون السيروتينين الذي يتسبب بنشوء اكتئاب يدفع إلى الانتحار.

بدت هذه التفسيرات كأنها جزء مما تصدّره الأزمة، ومحاولة تنسجم مع عناصر الانهيار العام الذي أقر المنتحرون بوضوح أنه العنوان العريض الذي دفعهم إلى مغادرة الحياة طوعا.

الهرمونات تُفرز انطلاقا من العلاقات الاجتماعية وترتبط بالوضع الاقتصادي وحسن التغذية. نقص هرمون السيروتينين ليس في حقيقة الأمر سوى نتيجة نقص التواصل الاجتماعي الذي ينتج من ذلك التفكك القاسي الذي ضرب المجتمع اللبناني، وتاليا لا يمكن اعتباره أصلا في حين أنه ليس سوى نتيجة للكارثة الاجتماعية والاقتصادية وبعض إفرازاتها.

إنتاج السيروتينين الذي يسمّى هرمون السعادة في الجسم يشترط توفر حمض التريبتوفان الأميني الذي يتطلب اعتماد نظام غذائي قائم على الجبن والمكسرات واللحوم الحمراء. تناول هذه المنتجات بانتظام بات خارج قدرة القسم الأكبر من اللبنانيين، وتحولت من منتجات غذائية معدّة للاستهلاك اليومي إلى سلع فاخرة وباهظة الثمن.

التصنيفات العالمية للسعادة تدرج لبنان في صدارة الدول الأكثر تعاسة. يعني ذلك أن التعاسة هي روح البلاد.

هرمون السعادة الذي ليس في نهاية المطاف سوى نتيجة تفاعل مع المشاعر الذي ينتجها المجتمع والأحوال التي تصفه، كيف يمكن أن ينجح في أن يخرج إلى النور في بلد يحيا صراعا حادا بين توقيت شتوي أقرّته الحكومة واعتبر توقيتا إسلاميا، وتوقيت صيفي دافعت عنه المرجعيات الدينية المسيحية واعتبر توقيتا مسيحيا، قبل أن يتخذ مجلس الوزراء قرارا باعتماد التوقيت الصيفي في جلسة طارئة اقتصر جدول أعمالها على البحث عن حلول لهذه المعضلة التي كادت أن تشعل حربا أهلية.

تجاهل السياق الاجتماعي المؤسّس للانتحار ليس سوى جزء من عمليات التغطية على الجرائم الكبرى التي تمارس ضد الناس، وتجعلهم عاجزين عن الدفاع عن إنسانيتهم ومعنى وجودهم، فيختار بعضهم اللجوء إلى موت إرادي يحفظ لهم الحد الأدنى من كراماتهم السليبة

قوة العادي

في خطابه الاعتراضي يبرز المنتحر، وخصوصا إذا كان على غرار المنتحرين من شباب الجنوب اللبناني فتيّا وممتلئا بالحياة، ما كان يمكن أن يكون عليه لو بقي على قيد الحياة ولو أتيحت له الفرصة لعيش حياة طبيعية وعادية.

يتحول بذلك إلى خطر لا بد من مواجهته وتسفيهه كما فعلت الخطابات التي رافقت الحدث، لأنه يتحول إلى آلة إغواء خطيرة تلعب في الميدان نفسه الذي يلعب فيه "حزب الله" وهو الموت، ولكن في الاتجاه المعاكس.

المنتحر إذ يموت احتجاجا على التمويت، يخلق قوة دافعة تضخ ممكنات الحياة في الواجهة مدعومةً بزخم يذهب إلى الحدود القصوى الممكنة للإثبات والبرهنة، وتاليا فإن تلك الرغبة في العيش الطبيعي والعادي لدى الشخص الذي قتل نفسه احتجاجا على استحالتها تتجلى كشغف مواز لفكرة الموت من أجل الموت، وتفككها وتسفّه خطابها.

dpa
احتجاجات أمام المصرف المركزي في بيروت على القيود غير الرسمية على السحب النقدي والظروف الاقتصادية المتدهورة.

قوة العادي التي يدفع المنتحر بها إلى الواجهة، تظهر المشترك الممنوع بينه وبين عناصر بيئته، فهو الشبيه والقرين والمماثل الذي يراد له أن يكون الغريب والعدو، لكنه يستطيع أن يدافع عن نفسه وعن صورته بما يبرزه من قرابة لا يمكن إنكارها مع أبناء مجتمعه الذين يخزّنون  في أعماقهم رغباته العادية نفسها.

الإجبار على العيش في الخوارق وفي تشنج القوة وفوائضها التي تغرق الحياة وإمكاناتها، ينسج حول الناس طبيعة مصطنعة ومختلقة، يأتي الانتحار ليقشرها ويضعهم أمام حقيقة رغباتهم المصادرة.

في مقابل اللامبالاة بالعالم التي يعكسها مجتمع التمويت، فإن المنتحر منهمك في العالم بشكل فعال، فالانتحار يعكس وفق سيوران التفاؤل، إذ "لا ينتحر إلا المتفائلون، المتفائلون الذين لم يعودوا قادرين على الاستمرار في التفاؤل، أما الآخرون فلماذا يكون لهم مبرر الموت وهم لا يملكون مبررا للحياة؟".

ربما يمكننا تخيل كافكا ينظر إلى أحوال الانتحار في البلد الغارق تحت سطوة أعتى قوى ظلامية مرت عليه في تاريخه قائلا: "إنّ المُقْدم على الانتحار هو ذلك السجين الذي يراهم يعدّون له منصة الإعدام في الساحة، ويعتقد أن هذا قدر يقرره بنفسه، يهرب في الليل من زنزانته، ينزل في الساحة ويشنق نفسه".

المنتحر في لبنان يصر على النجاة من القتل الإكراهي بالتبدد الإرادي والسقوط خارج زمن القتلة، كي  يمتلك ذاته كاملة وإلى الأبد.

font change

مقالات ذات صلة