المدين والدائن في العلاقات الأميركية الإسرائيلية

المدين والدائن في العلاقات الأميركية الإسرائيلية

"إسرائيل شريكة للولايات المتحدة، وليست دولة عادية فهي تشكّل 50 بالمئة من الشرق الأوسط"، هذه كلمات ليست لبنيامين نتنياهو، وإنما لإسحق شامير رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق (في مطلع التسعينيات)، حين دخلت إسرائيل في حالة توتر مع إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش (الأب) لمعارضتها الانخراط في مؤتمر مدريد للسلام (وقتها).

ثمة شبه كبير في ما قاله شامير، قبل أزيد من ثلاثة عقود (في "دافار"، 29/9/1991)، وقول نتنياهو بأن "إسرائيل دولة ذات سيادة تتخذ قراراتها بإرادة شعبها، وليس على أساس ضغوط من الخارج بما في ذلك من أفضل الأصدقاء" (28/3/2023)، وذلك ردا على دعوة الرئيس الأميركي جو بايدن له إلى وقف التعديلات الدستورية في إسرائيل.

يُستنتج من ذلك، أولا، أن ما قاله نتنياهو ليس جديدا، فهو في صلب التفكير السياسي لقطاع واسع من الإسرائيليين من اليمين القومي والديني المتطرف، وهذا بن غفير (وزير الأمن القومي ورئيس حزب "القوة اليهودية")، وله ستة مقاعد في الكنيست، كرّر ذلك في خضم هذا "الاشتباك"، بقوله: "على بايدن وإدارته أن يفهموا أن إسرائيل ليست نجمة أخرى في علم أميركا" (28/3/2023). ثانيا، إن التوتر الحاصل لا علاقة له بالخلفية الحزبية للرئيس الأميركي، ففي حالة شامير كان الرئيس من الحزب الجمهوري، أما في حالة نتنياهو فالرئيس الأميركي من الحزب الديمقراطي، بمعنى أن المسألة تتعلق بمصالح الولايات المتحدة، وبطريقة رؤيتها لضمان أمن واستقرار إسرائيل في الشرق الأوسط، وفق فكرتها عن "إنقاذ إسرائيل رغم أنفها"، بحسب تعبير لجورج بول مساعد وزير الخارجية الأميركية (عهد الرئيس كارتر).

إلى ذلك، فإن الولايات المتحدة تتعامل مع إسرائيل وفقا لمسؤوليتها عنها، وكعامل داخلي فيها، بقدر دعمها لها سياسيا واقتصاديا وعسكريا، وبقدر ضمانها لأمنها وتفوقها في المنطقة، مع مراعاتها لحساسيتها، في ما يتعلق بسياساتها إزاء الفلسطينيين.

المسألة تتعلق بمصالح الولايات المتحدة، وبطريقة رؤيتها لضمان أمن واستقرار إسرائيل في الشرق الأوسط، وفق فكرتها عن "إنقاذ إسرائيل رغم أنفها"، بحسب تعبير لجورج بول مساعد وزير الخارجية الأميركية (عهد الرئيس كارتر).


إلى ذلك، فإن الولايات المتحدة تتعامل مع إسرائيل وفقا لمسؤوليتها عنها، وكعامل داخلي فيها، بقدر دعمها لها سياسيا واقتصاديا وعسكريا، وبقدر ضمانها لأمنها وتفوقها في المنطقة، مع مراعاتها لحساسيتها، في ما يتعلق بسياساتها إزاء الفلسطينيين. 

في المقابل فإن إسرائيل لا تستطيع التفلّت من ذلك الواقع المريح لها والذي يضفي عليها قوة مضافة، مع ما تتمتع به من عناصر قوة إزاء العالم العربي، لكنها تشتغل ما أمكنها على وضع سياساتها في قلب الإستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط، انطلاقا من رؤيتها لذاتها ولأمنها القومي.

في هذا الإطار، يمكن ملاحظة أن ثمة وجهتي نظر في إسرائيل، في التعاطي مع الولايات المتحدة، الأولى، تعتبر أن إسرائيل في علاقة إستراتيجية معها وكامتداد للغرب في المنطقة. لذا فهي حريصة على تقديم نفسها كواحة للديمقراطية والحداثة فيها، لضمان استمرار دعمها وأمنها وتفوقها، من مختلف النواحي. وتبعا لذلك فوجهة النظر هذه ترى أن إسرائيل مدينة للولايات المتحدة، بالتسهيل لسياساتها في الشرق الأوسط، بما لا يخلّ برؤيتها لذاتها كدولة قومية لليهود، ولا بالاجماعات الداخلية فيها. 

أما الثانية، فتعتبر أن الولايات المتحدة هي المدينة لإسرائيل التي تقدم لها الخدمات في الشرق الأوسط، في الحفاظ على أمن مصالحها، بوصفها بمثابة حاملة طائرات برية، وأن دعم الولايات المتحدة لها أقل من كلفة انفاقها على حاملات طائراتها المنتشرة في البحار والمحيطات. لذا فإن إسرائيل ليست معنية بمراعاة السياسات الأميركية التي لا تتوفق مع رؤيتها، بخصوص أرض إسرائيل الكاملة، وفرض رؤيتها للتسوية مع الفلسطينيين. وعن ذلك كان المحلل الإسرائيلي حانوخ داووس كتب قائلا: "لا يمكن شراء روح الإنسان بأي مبلغ مالي. وبالتأكيد ليس روح دولة. إسرائيل تحتاج إلى أميركا...لكنها تحتاج بقدر أكبر إلى الاستقلالية...يوجد جانب آخر في هذه المعادلة...الولايات المتحدة هي أيضا تحتاج إلى إسرائيل". ("يديعوت أحرونوت"، 16/3/2010)

وللتذكير فقد شهدت العلاقات الأميركية-الإسرائيلية توترات كبيرة بسبب السياسات التي انتهجها نتنياهو، الذي بات الشخص الذي مكث أكثر من غيره كرئيس لحكومة إسرائيل في ثلاث حقب (الأولى من 1996 ـ 1999، الثانية من 2009 ـ 2021، الثالثة، وبدأت أواخر 2022). ففي الحقبة الأولى، التي أتت بعد اغتيال رابين، عمل نتنياهو على تقويض اتفاق أوسلو، وتقويض مشروع "الشرق الأوسط الجديد"، الذي كانت الولايات المتحدة (في عهد الرئيس كلينتون) تراهن عليه، لترسيخ هيمنتها على النظام الدولي، وتعزيز مكانة إسرائيل في المنطقة. وفي الحقبة الثانية اشتغلت الخلافات بينه وبين الرئيس باراك أوباما بسبب رفضه وقف الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتجميده عملية التسوية مع الفلسطينيين. 

الآن، يقف نتنياهو في مواجهة إدارة بايدن، مع تشكيله حكومة متطرفة تجمع حزبه، الليكود، مع الأحزاب الدينية، لإحداث انقلاب سياسي لا يتعلق فقط بالفلسطينيين، وإنما أيضا بتغيير طبيعة إسرائيل ونظامها السياسي. 

وقد روّج في تلك الفترة المحللون الإسرائيليون المؤيدون لنتنياهو فكرة الخروج على السياسة الأميركية، بدعوى مصلحة إسرائيل وفقا لفهمهم لها. مثلا، هذا نداف هعتسني يقول: "التنازل عن الاستيطان، إرضاء للولايات المتحدة، سيؤدي إلى تشجيع الفلسطينيين على المطالبة لاحقا بقرار التقسيم (1947)، وبالتالي بحظر "بناء شقق في يافا أيضا". ("معاريف"، 18/3/2010) وحذّر يعقوب عميدرور(عميد احتياط) قائلا: "ربما نكون أمام أزمة صعبة ومؤلمة، لكن..الخضوع الآن لمطالب واشنطن أخطر."("إسرائيل اليوم"، 16/3/2010) 

الآن، في حقبته الثالثة، يقف نتنياهو في مواجهة إدارة بايدن، مع تشكيله حكومة متطرفة، تجمع حزبه، الليكود، مع الأحزاب الدينية، لإحداث انقلاب سياسي لا يتعلق فقط بالفلسطينيين، وإنما أيضا بتغيير طبيعة إسرائيل، ونظامها السياسي. 

فهذه المرة لا تتوقف المسألة عند محو بلدة حوارة، ونفي وجود شعب فلسطين، والتراجع عن فك الارتباط، والإصرار على الاستيطان في كل شبر من النهر إلى البحر، إذ باتت تتوخّى أيضا، تغليب طابع إسرائيل كدولة يهودية على طابعها كدولة ديمقراطية، وتغليب طابعها كدولة دينية على طابعها كدولة علمانية، وتغليب طابعها كدولة عنصرية دكتاتورية، على طابعها كدولة ديمقراطية ليبرالية، باختصار ديمقراطيتها بالانتخابات، وبإنشاء ميليشيا خارج الجيش تتبع لوزير متطرف، وفرض إرادة نصف الإسرائيليين على نصفهم الأخر، ومصادرة السلطة القضائية لصالح التنفيذية، وكل ذلك بدعوى أغلبية ضئيلة (64 من 120، عدد أعضاء الكنيست)!
 

لا تتوقف المسألة هذه المرة عند محو بلدة حوارة ونفي وجود شعب فلسطين والإصرار على الاستيطان في كل شبر من النهر إلى البحر، إذ باتت تتوخّى أيضا تغليب طابع إسرائيل كدولة يهودية على طابعها كدولة ديمقراطية، وتغليب طابعها كدولة دينية على طابعها كدولة علمانية، وتغليب طابعها كدولة عنصرية دكتاتورية، على طابعها كدولة ديمقراطية ليبرالية.

ويلخص تسفي بارئيل ما يجري بالآتي: "في الأسابيع الأخيرة، تطور عصيان مدني بادر إليه وخططه ووجهه وغذاه رئيس حكومة متهم بمخالفات جنائية، ووزير عدل مصاب بجنون العظمة، ووزير أمن داخلي أدين بمخالفات جنائية، ووزير مالية عنصري...بدأوا في تغيير طريقة الحكم واستبدال الديمقراطية النسبية بديكتاتورية مطلقة...وتصفية سياسية لمن اعتبر معارضا للنظام، وتصنيف نصف الشعب خائناً." ("هآرتس"، 29/3/2022)

إذاً، إسرائيل اليوم في مواجهة عاصفة خارجية شديدة تهب من الغرب، بخاصة من الولايات المتحدة، وفي مواجهة عاصفة داخلية، وعلى كيفية التعاطي مع هاتين العاصفتين، سيتحدد شكل إسرائيل في المدى المنظور، على الأقل، وشكل علاقاتها مع محيطها ومع العالم. 

font change