نهاية الاحتفال بالذكاء الاصطناعي..وبداية القلق

نهاية الاحتفال بالذكاء الاصطناعي..وبداية القلق

قرار السلطات الايطالية فرض حظر مؤقت على تطبيق الذكاء الاصطناعي "تشات جي بي تي" واتجاه ألمانيا نحو اتخاذ إجراء مشابه، يسلطا الضوء على اهمية رسم الحدود الفاصلة بين ما يمكن أن تتحمله المجتمعات البشرية من الاندفاعة التكنولوجية وبين قدرة التقنية الحديثة على التطور من دون ضوابط.

أرجعت السلطات الايطالية قرارها الى دعوى تقدمت بها شركة خاصة اعترضت على غياب الاساس القانوني الذي يجمع به "تشات جي بي تي" معلوماته التي يقول المشرفون عليه انه في حاجة اليها "ليتعلم". من بين المعلومات التي يسع البرنامج الوصول اليها، ما يتعلق بالبيانات الشخصية للمستخدمين التي ربما لا يودون مشاركتها مع احد. إضافة الى ان "تشات جي بي تي" قدم "إجابات غير مناسبة" من دون تحقق من أعمار المستخدمين. الأسباب ذاتها يطرحها المدافعون الالمان عن الخصوصية في توصيتهم بمنع البرنامج. وهو ما يبدو ان الاتحاد الاوروبي بمجمله، سيأخذه في الاعتبار.

المسائل التي اثارها "تشات جي بي تي" من تسهيل الغش في الجامعات والمدارس وتقديم اجابات خاطئة لمصابين بأمراض مزمنة، نوع من الخشية التي ترافق ظهور اي اختراع جديد على المستوى العالمي. كبار السن بيننا يذكرون ان ظهور مسجل الفيديو في السبعينات اثار هلعا في البيوت (العربية على الاقل) مما يمكن ان يُدخله من افلام لا تخضع لرقابة الاهل وفي غفلة منهم، الى غرف المراهقين والاطفال. تكرر شيء مشابه مع انتشار الانترنت الذي تعددت الدعوات لممارسة الرقابة عليه وهو ما تكفلت به جهات أهلية ورسمية بنجاح محدود.

ولا يغيب عن البال ان عددا من الدول حظَر بقوة القانون في اواخر تسعينات القرن الماضي، اجراء اي عملية استنساخ على البشر أو ادخال تعديلات جينية على الأجنة، بعد المخاوف من وصول الهندسة البيولوجية التي شهدت قفزات كبيرة من خلال تكوين "الجينوم" البشري وتطور العلوم الجينية، وصولها الى ما ينطوي على خطر على استقرار المجتمعات إذا انطلق "بزنس" الاستنساخ على مزاج أهل يوصون على اولادهم طبقا لمواصفات معينة كلون العينين والطول والقوام وحتى المناعة ضد بعض الامراض.

برامج الذكاء الاصطناعي سيكون لها شأن كبير في المستقبل. لا شك ولا جدال في ذلك. والمنافسة بين بعضها للاستحواذ على اهتمام الجمهور العام انطلقت فعلا . لكن... وثمة "لكن" كبيرة هنا، إذ لم تتضح بعد الحدود التي سيصل الذكاء الاصطناعي اليها في مجال التأثير على الحياة اليومية للبشر، بالاتجاهين السلبي والايجابي. 

المسألة الاخلاقية التي تحتم على التكنولوجيا الالتزام بالقيم الاجتماعية السائدة، سواء برفض اختيار الابناء وفق "كتالوغ" مسبق الاعداد او بالحفاظ على خصوصية مستخدمي برامج الذكاء الاصطناعي، ليست تفصيلا عابرا. 
في أحيان كثيرة، لا يلقي مطورو التقنيات الحديثة بالا أو لا يدركون من أصل، معنى الانجازات التي يحققون وآثارها الكامنة. فما يشغل بال المطور التقني هو تجاوز العقبات العلمية التي تحول دون وصوله الى هدفه في المقام الأول ثم يحل التفكير في انعكاسات ذلك على البشر. ثم يأتي دور النقاش المفتوح والنقدي لتحديد "أخلاقية" الاختراع هذا او ذاك وانسجامه مع المصلحة العامة للمجتمع.  


لمُعترض أن يقول ان في التحفظ على التطور العلمي ووضع حدود له، عودة الى سلوك سلطات القرون الوسطى ومحاكمة غاليليو واعاقة نظريات كوبرنيكوس وسوى ذلك. وأن وضع العقبات على طريق التقدم العلمي والتكنولوجي لم تصمد يوما امام تطلع البشرية الى الغد. 


المشكلة في هذا الطرح انه يتجاهل مبدأ النفع العام وعلاقته بالبحث العلمي. غني عن البيان ان التقدم العلمي في حاجة ماسة ودائمة الى قدر  عال من التجريد والى الخروج من اثبات فائدة مباشرة تعود على البشر. فلا معنى، اذا أخذ شرط النفع العام بحرفيته، لكل برامج استكشاف الفضاء وفيزياء الكواكب. لكن البرامج الفضائية اثبتت اهميتها الحاسمة في تكنولوجيا الاقمار الاصطناعية، على الاقل، واضفاء العقلانية على رؤية البشر لموقعهم في الكون وتواضع  الموقع هذا امام عظمة المجرات الهائلة الأبعاد... الخ. كذلك الامر بالنسبة الى منظار غاليليو وغيره. فالانترنت، على سبيل المثال برهن على فوائد هائلة في المجالات العلمية والاقتصادية والثقافية وغيّر وجه العالم الى غير رجعة. ولم يعد ممكنا التخلي عنه.


أما الاستنساخ البشري فلم يفلح في تجاوز هذا الحاجز. فإذا قدّم الاستنساخ امتيازات لعدد قليل من البشر فإنه طرح سؤالا عميقا عن مصدر الحق في تقرير إنسان صفات وقدرات وميزات جسدية ونفسية لإنسان آخر. 


برامج الذكاء الاصطناعي سيكون لها شأن كبير في المستقبل. لا شك ولا جدال في ذلك. والمنافسة بين بعضها للاستحواذ على اهتمام الجمهور العام انطلقت فعلا مع فتح المجال امام المشاركة في استخدام برنامج "بارد" الذي تسوق له شركة "الفابيت" العملاقة مالكة محرك البحث الشهير "غوغل". 


لكن... وثمة "لكن" كبيرة هنا، إذ لم تتضح بعد الحدود التي سيصل الذكاء الاصطناعي اليها في مجال التأثير على الحياة اليومية للبشر، بالاتجاهين السلبي والايجابي. 


انتهت، إذا فرحة فتح الذكاء الاصطناعي للاستخدام العام بعدما كان متاحا للاختصاصيين وحدهم. وبدأت الاسئلة البشرية المشروعة في الحلول مكان ذلك الحبور الغامر حول الفوائد والمخاطر والتعايش مع هذه الاداة الجبارة الجديدة وفي ظل قدراتها اللامحدودة. 


 

font change