أوروبا تدفع أثمان المواجهة بين واشنطن وبكين

على خلفية الحرب في أوكرانيا

EPA
EPA
الرئيسان الفرنسي والصيني ايمانويل ماكرون وشي جيبينغ اثناء نزهة في "حديقة الصنوبر" في غوانغجو في السابع من ابريل

أوروبا تدفع أثمان المواجهة بين واشنطن وبكين

يدخل عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية مرحلة التغيير الشامل بكلّ مرتكزاته وعناوينه. ويشكّل الميدان الأوكراني مرجل التغيير نحو العالم الجديد، ليس بسبب ضراوة الحرب الدائرة واتساع دائرة المشاركة فيها، بل لتزامن الحرب مع جملة إخفاقات ارتكبتها ليبيرالية متوحشة ومع جنوح متصاعد نحو التغيير بلغ ذروته في أكثر من مكان وحول أكثر من قضية.

تؤكّد الواقعية في متابعة المتغيّرات المتسارعة أنّ سقوط الإتّحاد السوفياتي لم يكن بداية لعالم جديد، بل كان أولى الجولات التي توالت فصولاً ولا تزال، في سياق سقوط العالم القديم. ومع تفجّر العصبيات الجديدة التي تشهدها أوروبا تحت تأثير الحرب في أوكرانيا واتّضاح دور الليبيرالية الغربية في استنفار العصبيات والاستثمار بها في الشرق الأوسط، سقطت المقولات سواء المبشّرة بـ"نهاية التاريخ" مع المفكر الأميركي فرنسيس فوكوياما الذي اعتبر أنّ الديموقراطية الليبيرالية ستشكّل ذروة التطور الأيديولوجي للإنسان، أو تلك التي أعلنت الاختلافات الثقافية محرّكاً رئيساً لنزاعات ما بعد الحرب الباردة مع نظرية صدام الحضارات لـصاموئيل هانتنغتون.

أجل، لقد استفاقت كلّ العصبيات القوميّة واستُنفرت كلّ المصالح السياسية والاقتصادية على خلفية الحرب الدائرة في أوكرانيا، وفيما يتساقط الرهان على حلف "الناتو" والاتّحاد الأوروبي لإنقاذ الموقف، يتأكد بما لا يقبل الشك انتهاء صلاحية العالم القديم.

خلال القمّة التي جمعت الرئيس الصيني شي جيبينغ بنظيره الروسي فلاديمير بوتين في موسكو في 21 مارس/آذار 2023 ، كان شي واضحاً في إعلان التوجّه المشترك نحو عالم جديد: "لقد لخصنا أنا والرئيس بوتين معاً نتائج تطور العلاقات الثنائية على مدى السنوات العشر الماضية واتفقنا أنّ العلاقات الصينية الروسية تجاوزت العلاقات الثنائية، وهي ذات أهمية حيوية للنظام العالمي الحديث ولمصير البشرية". وإذ لخص الرئيس الصيني دور الدولتين في العالم الجديد ورفض سياسة القوة بالقول: "سنساهم في انتعاش الاقتصاد العالمي وتشكيل القوة البنّاءة في سبيل عالم متعدّد القطب وتحسين نظام الحوكمة العالمية، وتقديم مساهمة أكبر في الأمن الغذائي العالمي، وأمن الطاقة، والإستمرارية لسلاسل التوريد"، أكدّ البيان المشترك للقمّة معارضة الدولتين "فرض دولة واحدة قيمها على دول أخرى، مؤكّدتين عدم وجود شيء يسمّى "ديموقراطية أعلى" و"رفض الحرب الباردة والمواجهة بين المعسكرين".

ينتهج قادة البلدان الوازنة في الاتحاد (المستشار الألماني أولاف شولتس والرئيس ايمانويل ماكرون ورئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز)، سياسة براغماتية تجاه الصين التي تشكّل سوقها شرياناً حيوياً للاقتصادات الأوروبية والتي تواجه منذ سنوات صعوبات متزايدة في الحفاظ على معدلات كافية للنمو

لقد بعثت القمّة بجملة من الرسائل سواء على صعيد العلاقات الثنائية أو من خلال التحالفات مع المنظّمات الإقليمية والدولية، لتتضح معها المعالم الرئيسة لـ"شراكة بلا حدود" بين الدولتين:

1-    رفض هيمنة الغرب ومعارضة الدفع نحو حرب باردة جديدة.
2-    العمل على تشكيل عالم متعدّد القطب، وعلاقات دولية أكثر ديموقراطية.
3- البلدان عضوان دائمان في مجلس الأمن الدولي، وطرفان في مجموعة العشرين ودولتان مؤسّستان لـ"منظمة شانغهاي للتعاون"، ومجموعة "بريكس"، مما أدى بهما الى لعب أدوار في  الأمن والسياسة والاقتصاد وفي إصلاحات الحوكمة الاقتصادية العالمية.


الحرب الأوكرانية، مسوّغ أميركي للمواجهة الأوروبية مع الصين


على خلفية توحيد المواقف من الحرب الأوكرانية والدفع بالاتحاد الأوروبي الى معترك المواجهة مع الصين، استقبل الرئيس الاميركي جو بايدن رئيسة المفوضيّة الأوروبية أورسولا فون دير لاين في البيت الأبيض في 10 مارس/آذار 2023. واستبق البيت الأبيض الزيارة بإعلان  أهدافها: "إنّ التحديات التي تمثّلها جمهورية الصين الشعبية ستحتل مكانة بارزة في المحادثات. وفيما تتهم الولايات المتحدة بكين علناً بأنها تعتزم تقديم مساعدة عسكرية لروسيا، ترغب واشنطن بإقناع الاتحاد الأوروبي بتبنّي موقف أكثر صرامة حيال الصين، على الرغم من الروابط التجارية القوية جداً التي يُقيمها العملاق الآسيوي خصوصا مع ألمانيا".

DPA
رئيسة المفوضية الاوروبية أورسولا فون دير لاين والرئيس الصيني شي جينبينغ والرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون قبل اجتماعهم في بكين في السادس من ابريل


تجاوبت رئيسة المفوضية بالتأكيد لواشنطن أنّ الاتحاد الأوروبي لا يغرد خارج السرب الغربي، إذ نشر مكتبها الإعلامي النص الكامل للمحاضرة التي ألقتها في المركز الأوروبي للدراسات الصينية في الأول من إبريل/نيسان، وتضمّنت انتقادات قاسية واتهامات غير مسبوقة للصين، إذ  أكدت فون دير لاين أنّ مستقبل العلاقات الأوروبية - الصينية مرهون بموقف بكين من الحرب الدائرة في أوكرانيا، متهمة بكين بأنها تسعى إلى تغيير النظام العالمي لفرض هيمنتها عليه، وبأنها تلجأ لاستخدام أدوات القمع الاقتصادي والتجاري وسياسات التضليل الإعلامي لتحقيق مآربها. وإذ اعترفت رئيسة المفوضية بأنّ ثمّة "اختلالاً واضحاً في توازن علاقاتنا الثنائية بسبب انحرافات ناجمة عن رأسمالية الدولة في الصين" فإنّ الظرف الراهن ليس مؤاتياً لإعادة فتح المفاوضات حول الاتفاق الصيني - الأوروبي في شأن الاستثمارات، الذي جمّده البرلمان الأوروبي عام 2021. 


وفيما ذهبت فون دير لاين إلى أقصى حدود الممكن، ينتهج قادة البلدان الوازنة في الاتحاد (المستشار الألماني أولاف شولتس والرئيس ايمانويل ماكرون ورئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز)، سياسة أكثر براغماتية تجاه الصين التي تشكّل سوقها شرياناً حيوياً للاقتصادات الأوروبية والتي تواجه منذ سنوات صعوبات متزايدة في الحفاظ على معدلات كافية للنمو. تدرك رئيسة المفوضية أنه لا توجد جبهة أوروبية موحّدة لمواجهة الصين، وأنّ الموضوع معقّد جداً ومثير للخلاف داخل الاتحاد، وأنّ فك الارتباط الاقتصادي والتجاري مع الصين غير وارد، وأنّ الهدف هو احتواء الأخطار في التعامل مع دولة بلغ حجم المبادلات التجارية معها 795 مليار دولار في عام 2021.


الواقع الأوروبي حقائق وأرقام


هدّدت الحرب الأوكرانية عروش الاقتصادات الأوروبية التي وجدت نفسها فجأةً تحت وطأة التضخم وأزمة الطاقة وتباطؤ النمو الاقتصادي. أنفقت أوروبا خلال العام 2022 قرابة الـ 800 مليار يورو (بحسب تحليل أجراه مركز أبحاث بروغيل) بهدف مساعدة شعوبها للتغلب على ارتفاع تكلفة المعيشة ومعدلات التضخم غير المسبوقة. واجهت بريطانيا واحدة من أسوأ أزمات المعيشة حيث بلغ معدل التضخم 10.1 في المئة بعدما سجّل في ديسمبر/كانون الأول 2022 معدل 17.6 في المئة. كما أظهرت بيانات المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية الفرنسي ارتفاع معدل التضخم السنوي في فرنسا لعام 2022 إلى 5.2 في المئة، وارتفاع أسعار الطاقة وحدها بنسبة 23.1 في المئة، علاوة على ارتفاع  6.8في المئة في أسعار الأغذية. 


كذلك كشفت مؤشّرات مكتب الإحصاء الوطني الإسباني عن ارتفاع 52 في المئة  في سعر السكر و28.5 في المئة في أسعار الديزل و 14.9 في المئة في أسعار البترول خلال العام 2022. بدورها ألمانيا كانت بين أوائل الدول الأوروبية التي تأثرت بشدّة بالحرب، خصوصاً أنّ قطاع الصناعة لديها يعتمد بصفة رئيسة على الغاز الروسي، وهو القطاع ذاته الذي يُعدّ المورد الرئيسي للاقتصاد الألماني مقارنةً ببقية الدول الأوروبية. لقد توقّع رئيس اتحاد غرف الصناعة والتجارة الألمانية بيتر أدريان، في تصريحات صحافية في شهر فبراير/شباط المنصرم أن يتكبد الاقتصاد الألماني نحو 160 مليار يورو في نهاية العام 2023، وهو ما يعادل نحو %4 من الناتج المحلي الإجمالي الألماني.

هل تُقدم أوروبا على المواجهة؟ 
شكّلت الحرب الأوكرانية "نقطة تحوّل" في العلاقات الروسية مع أوروبا ودفعت بدولها إلى مراجعة حساباتها، وقد تكون ألمانيا في رأس قائمة الدول المتضررة من هذه الحرب. لقد أكّدت وزارة الاقتصاد الألماني أنّ العدوان الروسي على أوكرانيا هو السبب الرئيسي لتراجع الأداء الاقتصادي في ألمانيا وأوروبا بشكل عام، وأنّ "أسعار الطاقة المرتفعة والعقوبات وتزايد حالة عدم اليقين تخيّم على توقّعات نمو الاقتصاد الأوروبي والألماني بشكل خاص. 
تُظهر الإحصاءات الصادرة عن المؤسسات الرسمية الألمانية أنّ الاقتصاد الألماني يعتمد على الاقتصاد الصيني، فقد بلغت الصادرات الألمانية إلى الصين في العام 2022 بحسب مكتب الإحصاءات الفيديرالي 107 مليارات يورو، في حين بلغت قيمة الواردات 191 مليار يورو، وهذا يعني أنّ العجز التجاري كبير بين الطرفين.
تُلقي الولايات المتحدة بثقلها لدفع ألمانيا إلى قيادة أوروبا في الحرب لمواجهة روسيا وتدفع بها في الوقت عينه إلى تقليص اعتمادها على الاقتصاد الصيني. ما يمكن قراءته من تصريح المستشار شولتز  لوكالة إ.ب.أ في أكتوبر/تشرين الاول الماضي "يجب استمرار التجارة مع الصين، ولكن علينا أيضاً أن نتأكد من أننا نتمتع بعلاقات تجارية مع بقية العالم"، وقال إن "ألمانيا التي اندفعت لمراجعة علاقتها مع روسيا واعتمادها عليها في تأمين حاجتها من الغاز لم تقتنع بعد بتكرار الخطأ نفسه مع الصين".
فهل تنجح الضغوط الأميركية في الدفع بألمانيا ومعها أوروبا لمواجهة الصين، بالإنغماس أكثر في الحرب الأوكرانية؟ وهل تعتقد الولايات المتّحدة أنّ زيادة الأثمان على بكين ستدفع ها إلى تغيير موقفها من الحرب في أوكرانيا؟

font change