استعصاء الحرب... يُنتج خراباً أكثر من الحرب نفسها

استعصاء الحرب... يُنتج خراباً أكثر من الحرب نفسها

تتصرف أنظمة إقليمية وعالمية براحة فائضة، موقنةً تماماً أن "ليس من حروب ضدها، راهناً وفي المستقبل المنظور". فمجموعة القوى والدول النظيرة، بما فيها أكثر دول العالم قوة وقدرة، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، لا تبدي أية رغبة في الحرب، أو زخم، أو حتى قدرة عليها، بعدما صارت تعاين مصائر الجهات التي انخرطت في حروب العقدين المنصرمين.

بناء على تلك "الطمأنينة"، صارت هذه الأنظمة وامتداداتها تبني سلوكها العام واستراتيجيتها المستقبلية بناء على ترسانة من الحسابات الخالية من المسؤولية أو الحسابات الدقيقة في ذلك الإطار، متيقنة من أن ليس من حروب رادعة ضدها. لأجل ذلك، تجدها تشيد بنية تحتية عسكرية بعيدة المدى وترعى ميليشيات وفصائل مسلحة، وتوزعها خارج حدودها الوطنية، وتخترق مواثيق المؤسسات الدولية ومعاييرها كافة، وتتجاوز على الحقوق السيادية والبيئية لجيرانها الأصغر حجماً، وتنخرط في إنتاج المواد الممنوعة دولياً وفي توزيعها، ولا تعتدّ بأي قيم عالمية متعلقة بحقوق الإنسان.

ترى هذه الجهات أن أي حرب عقابية ضدها قد صار أمراً مستحيلاً وأن اشكالاً من العقوبات الاقتصادية والديبلوماسية التي قد تطالها، يُمكن تجاوزها مستقبلاً، وفي أقصى الحالات لن تدفع أثمانها إلا الشعوب والمجتمعات المحلية، لا الهيكل الرئيسي في سلطات الأنظمة هذه.

تتذكر الدول هذه الاعتبارات وهي تراقب ما جرى خلال عقدين كاملين من "الحروب الفاشلة" التي خاضتها قوى المجتمع الدولي في أفغانستان والعراق وليبيا ومالي وأفريقيا الوسطى وفي أوكرانيا حاليا.

مختلف الدراسات، التي تناولت الاف الوثائق والمداولات الديبلوماسية القوى الدولية قبل الحرب العالمية الاولى، أجمعت على أن مختلف القادة السياسيين والعسكريين والديبلوماسيين، لم يكونوا على أي وعي تاريخي بما يمكن أن ينجم عن استخدام الأسلحة الحديثة في الحرب من خراب ودمار، لذلك استسهلوا الدخول السريع فيها

فكل هذه الحروب، وإلى جانب تكلفتها البالغة على المنخرطين فيها، ومهما كان ميزان القوة مختلاً بين المتصارعين، كانت حروبا لم تنتهِ قط، كما كانت عليه الحال في الحروب التقليدية. كذلك لم تؤدِّ إلى نتائج واضحة ومؤثرة، قياساً ايضا على الحروب القديمة. ولم تتمكن الجهات التي بدأتها من تحديد أهدافها وإطارها الزماني والمكاني، فيما كان الضحايا من البشر والبيئة وكل أوجه الحياة أضعاف ما تخيله المنخرطون لحظة بدء الحرب. 


على خلفية تلك اللوحة، صارت مختلف الدول لا تجرؤ على الانخراط في حروب تتحول عادة إلى مصيدة لها، فتنال الدول الأخرى منها عبر دعم الجماعات والدول المواجهة لها في تلك الحروب.


أمور كثيرة ساعدت على تشكل هذا المشهد، في مقدمها التبدل النوعي لطبيعة الأسلحة المستخدمة في هذه الحروب، التي غدت فتاكة للغاية، تُستخدم عن بعد وتهدد حياة الملايين من البشر. فالقليل من تلك الأسلحة، صار قادراً على شل الحياة في بقعة جغرافية شاسعة، لا تبقي خلفها أية بنية تحتية تساعد على العيش. 


لكن أهم خصائص هذه الأسلحة الحديثة كامن في كونها صارت في متناول الكل تقريباً، الجيوش والفصائل والعصابات وحتى الأفراد. الكل صار قادراً على امتلاك بعض أنواع الطائرات الحربية وقيادتها من شرفة منزله، ويستحوذ على أجهزة قنص وتفخيخ ورصد للمحادثات على بعد كيلومترات. إلى جانب ذلك، غدت هذه الأسلحة مستحيلة التجميع والضبط والتقييد، فهي من المشاع بحيث لن يتمكن أي جيش لو احتل بلداً ما من ضبطها وجمعها من يد المناهضين له. 


يتملّك مختلف الجيوش والأنظمة العالمية رعبٌ من إمكان الانخراط في حروب مبنية على هذه الخصائص التي تفرزها نوعية الأسلحة الجديدة. حروب لا يمكن تحديد أي إطار زمني أو جغرافي لها، تكون أعداد ضحاياها أضعاف ما هو متخيل، وتترك آثاراً بيئية وحياتية وسكانية تتجاوز الخيال. 


يُمكن إيراد مثل عالمي مغاير تماماً لفهم هذه الحالة: ثمة دراسات عالمية مكثفة جرت لما سُمي في ما بعد بـ"مهلة الأيام الـ38"، التي فصلت بين اغتيال ولي عهد النمسا في شهر يونيو/حزيران من العام 1914، وإعلان مختلف الدول الانخراط في الحرب العالمية الأولى بعد تلك المهلة (38 يوماً). 


فمختلف تلك الدراسات، التي تناولت الاف الوثائق والمداولات الديبلوماسية التي تبادلتها القوى العالمية الثماني على مستوى العالم وقتئذ، ألمانيا والنمسا-المجر والدولة العثمانية وروسيا وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، أجمعت على أن مختلف القادة السياسيين والعسكريين والديبلوماسيين في هذه الدول، لم يكونوا على أي وعي تاريخي بما يمكن أن ينجم عن استخدام الأسلحة الحديثة في الحرب من خراب ودمار، لذلك استسهلوا الدخول السريع فيها، متوهمين أنها قد تكون كالحروب التقليدية، التي كانت موضعية وسريعة وذات نتائج واضحة. 
استمر الأمر في الحرب العالمية اللاحقة، التي خاضتها تقريبا الدول ذاتها.

لكن منذ أن أظهرت الحربان العالميتان التحول النوعي في بنية الأسلحة، صارت أعداد الحروب أقل مما كانت عليه بما لا يقارن مع السابق، وإن ارتفع عدد الضحايا ارتفاعا كبيرا، فكل حرب كانت تُظهر مزيداً من الخراب العميم عن تلك السابقة عليها، لكنها، بدورها، تشكل سداً أمام إمكان اندلاع حروب أخرى. 


يجري ذلك، لأن النوعية الجديدة من الأسلحة المستخدمة خلال أي حرب جديدة، ولأن مستويات تضرر الدول المنخرطة وقدرة المناوئين على إنهاكها خلال تلك الحروب، أسست لتحول نوعي في إدراك وشرط الانخراط في الحروب خصوصاً من تلك الأنظمة والدول القائمة على أنظمة ديموقراطية حديثة، يمكن لصاحب قرار الحرب أن يُحاسب فيها على أفعاله. 


لكن حدوث ذلك لم يعنِ، مع الأسف، البدء بمرحلة من "السلام العالمي"، تسود فيه قيم السلام الجماعي وآلية عمل المنظمات الحقوقية العالمية. بل على العكس تماماً، غدت الكثير من الدول والأنظمة والتنظيمات المسلحة تتصرف كأن منظوماتها السياسية الحاكمة صارت محمية من أية طاقة للردع أو الضبط، وتاليا غدت تنشر الخراب والدمار في كل حدب، وإن بالقضم وليس الإسقاط، بالميليشيات وتجارة المخدرات والهجمات الإلكترونية، وأشياء كثيرة من ذلك. وهو أمر متعلق بقصور انتشار الديموقراطية وقيمها، في الوقت الذي تراجعت فيه أعداد الحروب. 
    
 

font change