انتشار «الوجه الأسود» في الثقافة الشعبية العربية

يكشف حقيقة مؤرقة عن الجهل بتاريخ العنصرية وصورها

انتشار «الوجه الأسود» في الثقافة الشعبية العربية

* بدأت ممارسة الوجه الأسود في الولايات المتحدة بعد الحرب الأهلية
* يمكن أن تبدو عبودية ذوي البشرة السمراء خاصة بأميركا تحديدًا، فإن الحقيقة المؤلمة أيضًا أنه في تاريخ الشرق الأوسط كانت هناك أعداد لا حصر لها من غرب أفريقيا تباع كعبيد
* منعت ثقافة الصمت البلدان العربية من الاشتراك في حوار بشأن العنصرية والعبودية ولون البشرة

في عام 2001. التقطت صور لجاستن ترودو مرتديا عمامة وثوبا أبيض، في حين صبغ وجهه وعنقه ويداه بمستحضرات تجميل ذات لون بني غامق – وهي ممارسة تشتهر بـ«الوجه الأسود» أو «الوجه البني» – في إحدى الحفلات التي صممت على طراز الليالي العربية والتي نشرتها مختلف وسائل الإعلام الدولي في العام الماضي، مما أثر على سمعته كنموذج مثالي لليبرالي وأحد المدافعين عن التعددية الثقافية والتنوع. بعد ظهور مزيد من الصور، رفض ترودو استبعاد وجود صور أخرى له وهو يضع هذه الصبغة، وقال إن «الامتياز» الأبيض أعمى نظره عن عنصرية هذه الوسيلة الترفيهية التي ترجع جذورها إلى القرن التاسع عشر في أميركا. ولكن لم يقتصر «الوجه الأسود» على شخصيات ذوي بشرة بيضاء – بل توجد هذه الممارسة في بلدان تتعرض هي ذاتها للتعصب، وفي مناطق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا متنوعة الأعراق؛ إذ لا تزال الممارسة الهزلية التي ترجع إلى قرون مضت قائمة ومستمرة.
تعلقت أحدث فضيحة عنصرية في الوسط الثقافي الشعبي العربي بخبيرة تجميل كويتية شهيرة لديها ما يزيد على مليوني متابع على موقع «إنستغرام»، إذ اتهمت بالعنصرية عقب رفعها مقطع فيديو ليلة رأس السنة وهي تضع مساحيق داكنة اللون لتبدو بشرتها أعمق وهي تحرك شفتيها على كلمات أغنية «نحن العالم» (1985). وجاء تعليق الفيديو: «لا يهم من أين أنت أو ما تعتقده، نحن جميعا أبناء هذا العالم، ونتشارك فيه سويًا. الجمال يأتي بجميع الأشكال والألوان، دعونا نحب بعضنا البعض ونحتفل بوحدتنا».
يبدو الأمر عبثيًا ولكن من المحزن أنها ليست مزحة سخيفة: كان الفيديو الذي تضمن ممارسة عنصرية مؤذية يهدف إلى الإشارة للاحتفاء بالعلاقات بين الشعوب وتعزيز الوحدة. ولكن الأسوأ من ذلك هو ما حدث بعد تلقيها كثيرًا من التعليقات المنددة بظهورها بالوجه الأسود، لم تتراجع عن اختيارها الخاطئ. وبدلاً من ذلك رفضت حذف الفيديو محل الخلاف، ونشرت صورة أخرى لها بالوجه الأسود، وحاولت تبرير تصرفاتها بالإصرار على أنها ليست عنصرية وأن المنشورات «لإظهار مهاراتها».
كتب أحد مستخدمي «تويتر»: «من الغريب أن يقول مئات الأشخاص ذوي البشرة السمراء أن هذا عنصري ومسيء ولكن تصر غدير سلطان والكثير من الأشخاص غير ذوي البشرة السمراء على أنه «لا ليس عنصريا، إنه فن...» هذا هو الوجه الأسود، سواء كنت تستخدمه من أجل الكوميديا أو الفن».
في الوقت ذاته، دافع آخرون عنها قائلين إنها لم ترتكب خطأ، مؤكدين على أن الوجه الأسود «مفهوم غربي»، وبالتالي لا يمكن أن يكون المقصود منه إهانة عنصرية.
قال مستخدم آخر على موقع «تويتر»: «للتذكرة، المفهوم الغربي للوجه الأسود لا ينطبق على الكويت. وغدير لم ترتكب خطأ، وهي لم تقصد الإساءة لأي شخص. كفوا عن المبالغة والشكوى من العنصرية إذا كنتم لا تعلمون الفارق بين تاريخ ومعنى الوجه الأسود في الغرب وفي الكويت».
جذبت هذه الواقعة الأنظار إلى انتشار ممارسة الوجه الأسود في الثقافة الشعبية العربية وكشفت عن حقيقة مزعجة وهي تفشي الجهل المحيط بالعنصرية ومعاداة ذوي البشرة السمراء في المجتمع. صرحت إيف تروت باول الأستاذة في جامعة بنسلفانيا لـ«المجلة» بأنها عندما رأت دفاع وسائل التواصل الاجتماعي عن سلطان وغيرها بأن الوجه الأسود ليس عنصريًا، قلقت من أن «(سلطان) وغيرها لا يفهمون ما هي العنصرية على وجه التحديد».

 


 
ممارسة واسعة النطاق
تلك ليست المرة الأولى التي تثير فيها شخصيات عامة عربية الجدل بتصويرهم لعرقيات أخرى. نادرًا ما ترى على شبكات التلفزيون أو شاشات السينما أشخاصا ذوي بشرة داكنة أو سمراء على الهواء، ولكن من المعتاد أن يمثل أدوارهم ممثلون ذوي بشرة فاتحة يعملون على صباغة وجوههم بلون داكن في مقاطع كوميدية لانتزاع ضحكات رخيصة بتقديم تحيزات وأنماط مهينة.
في الربيع الماضي، أثارت الممثلة الكوميدية ومقدمة البرامج المصرية الشهيرة شيماء سيف حالة من الغضب لاستخدامها الوجه الأسود في السخرية من الشعب السوداني. تحدثت سيف مع ركاب مصريين باللهجة السودانية بفجاجة وبشرتها مصبوغة باللون الأسود في حافلة ضمن فقرة أذيعت في برنامج «شقلباظ». تؤدي سيف مقلبًا في ركاب الحافلة فتضايقهم وتحاول سرقة هواتفهم الجوالة وتتظاهر بتناول الكحوليات. أذيعت الفقرة على قناة «إم بي سي» المصرية وهي إحدى أكبر القنوات الترفيهية في المنطقة. وتسبب المقطع في شعور الكثيرين من أفراد المجتمع السوداني بالإساءة فأعربوا عن غضبهم من سيف لظهورها بالوجه الأسود وإهانة المرأة السودانية. وكان رد سيف أنها لم تقصد الإساءة.
وفي تناقض مثير للاهتمام، انتقدت الممثلة الكوميدية ذاتها زميلتها في برنامج «نفسنة» بسبب استخدامها كلمة عربية مسيئة لذوي البشرة السمراء لوصف موسيقيين أميركيين من أصول أفريقية، قائلة إنه لفظ عنصري ولا يجب استخدامه. ولكن زميلتها الممثلة المصرية ومقدمة البرنامج انتصار أصرت على تكرار الكلمة.
في ديسمبر (كانون الأول) عام 2018، أصدرت الممثلة والمغنية المصرية بشرى أغنية فيديو يظهر فيها رجل بوجه أسود مصبوغ في إشارة إلى الممثل والمغني المصري محمد رمضان ذي البشرة السمراء. كذلك ظهرت الممثلة اللبنانية الشهيرة مريام فارس بوجه أسود في فيديو موسيقي حديث.
في شهر رمضان عام 2018، ارتدى الممثلان الكوميديان سمير غانم وابنته إيمي شعرًا مضفرًا مستعارًا وصبغا بشرتيهما باللون الداكن في حلقات مسلسل «عزمي وأشجان» واستخدما ألفاظا عنصرية. وفي الفيلم المصري الشهير «عيال حبيِّبة» إنتاج 2005، عندما ينظر أحد أبطال الفيلم «مميس» إلى صور عمه – الذي صبغ وجهه باللون الأسود – وعائلته، يسخر منهم بسؤاله: «هل حرق أحد هذه الشقة من قبل؟» يجيب زميله بيجاما قائلاً: «كان يجب عليك تحميض الصور قبل تعليقها». وفي مسلسل تلفزيوني كوميدي كويتي «بلوك غشمرة»، خُصصت حلقة كاملة للممثلين وهم واضعين مساحيق «الوجه الأسود» ويؤدون أدوارًا مسيئة للشعب السوداني تصفهم بالكسل والتهكم.
كانت تلك بعض الأمثلة على المشاهد المضللة والبغيضة وغير اللائقة المتكررة في الثقافة الشعبية العربية. ويشير السبب في استمرار مثل هذه الأدوار إلى غياب الوعي بالتاريخ المشحون والمعقد للوجه الأسود والعنصرية وتداعيات التعصب العنصري.
 
تجاهل التاريخ إنكار العنصرية
بدأت ممارسة الوجه الأسود في الولايات المتحدة بعد الحرب الأهلية، حيث كان ممثلون بيض متجولون يصبغون وجوههم بمساحيق تجميل سوداء ويضعون أحمر شفاه فاقعا بالإضافة إلى ارتداء شعر صوفي مستعار، ليؤدوا أدوارًا تسخر من الأميركيين من أصول أفريقية وتحقر من شأنهم، مما ساعد على تأكيد أفكار تفوق البيض بناء على عرقهم. وانتشرت شعبية هذه العروض في أميركا في فترة أثارت فيها مطالب العبيد المحررين حديثًا بالحريات المدنية عداءً عنصريًا. كما أدى أميركيون من أصول أفريقية أدوارًا في عروض الوجه الأسود نظرًا لأنها كانت الوسيلة الوحيدة للمشاركة في صناعة الترفيه. واليوم بسبب الاستخدام التاريخي للوجه الأسود في الحط من قدر الأشخاص ذوي الأصل الأفريقي وعلاقته الوثيقة بالقمع الاجتماعي والسياسي، لا يزال استخدامه عنصريًا. كما يستمر تقديم أنماط سلبية عن الأميركيين الأفارقة والسخرية من البشرة الداكنة في العقود الأخيرة. كشفت دراسة أجراها العام الماضي مركز بيو للأبحاث أن ثلثي الأميركيين يعتقدون أنه ليس من الخطأ أن يضع شخص أبيض البشرة مساحيق ليبدو أسمر. ويستمر تعرض الشخصيات التلفزيونية والسياسيين وحتى ماركات الأزياء التجارية للهجوم بسبب الجدل الذي يثار حول استخدام الوجه الأسود.
تقول أستاذة التاريخ باول، وهي أميركية من أصل أفريقي أمضت أعوامًا في مصر وتسافر إلى الشرق الأوسط بانتظام: «في الولايات المتحدة لا يزال لدينا سياسيون عليهم الاعتذار عن وضع مساحيق سوداء في أثناء حفلات حضروها في شبابهم. ومثلاً كيم كارداشيان وضعت لونًا داكنًا على بشرتها من أجل جلسة تصوير، والتي اعتذرت عنها أيضًا. أعتقد أن السبب في حدوث ذلك، في الكثير من المجتمعات بما فيها المجتمعات العربية، هو عدم تلقي الناس تعليما كافيا بشأن العبودية في مناهج التاريخ. فالوجه الأسود ممارسة لها صلة مباشرة باستعباد الأفارقة، وتعليمها للأسف ليس عميقًا بما يكفي على أفضل تقدير، أو يتم تجاهله على أسوأ تقدير».
بينما يمكن أن تبدو عبودية ذوي البشرة السمراء خاصة بأميركا تحديدًا، فإن الحقيقة المؤلمة أيضًا أنه في تاريخ الشرق الأوسط كانت هناك أعداد لا حصر لها من غرب أفريقيا تباع كعبيد. ولكن يستمر جدار الصمت حول تجارة العبيد في مختلف أنحاء المنطقة، مما ساعد على تجنب الأسئلة المثيرة للتحدي فيما يتعلق باستمرار إرث العبودية، وتستمر العنصرية ضد السود في المجتمعات العربية في التأثير على صور الحياة الاجتماعية.
لطالما منعت ثقافة الصمت البلدان العربية من الاشتراك في حوار بشأن العنصرية والعبودية ولون البشرة. وبحسب ما ذكرته الأستاذة باول، أدى ذلك إلى إنكار صريح وشائع لوجود المواقف العنصرية ضد ذوي البشرة السمراء داخل المجتمعات العربية. 
وتوضح الأستاذة باول: «من واقع خبرتي في العالم العربي، أغلب الناس لا يعلمون المعاني التاريخية لكلمة (عبيد) أو ينسبون فكرة العنصرية للولايات المتحدة دون أن يروا أنها يمكن أن توجد بينهم في بلادهم».
يتطلب الانتقال من حالة الإنكار المنتشرة إلى التغلب على وصمة الأشخاص ذوي البشرة السمراء إلى نهج متعدد المحاور. توضح باول أنه على الرغم من أن وسائل الإعلام جعلت من الأسهل مساءلة الممثلين الكوميديين والمخرجين والمنتجين، وأن عدد الباحثين العرب الذين ينشرون أعمالاً رائعة يتزايد، فإن العنصر الجوهري في كسر ثقافة الصمت يأتي عبر التعليم. وتضيف: «من الضروري وضع مناهج عن التاريخ الأفريقي وأيضًا عن العبودية (ليس فقط عبر المحيط الأطلنطي) لتعريف الطلاب بالأدوار المختلفة التي أداها ذوو البشرة السمراء حول العالم».

font change