طوال هذه السنوات، لم تضع الحكومات الائتلافية أية برامج اقتصادية مستدامة، ولم تستقر على أية خطط تنموية؛ لذلك ساد تضخم اقتصادي هو الأكبر في تاريخ البلاد، إلى جانب زيادة مستويات البطالة والدين العام واستشراء الفساد.
وحين وصل حزب العدالة والتنمية إلى سُدة الحُكم، كان رئيس الوزراء بولنت أجاويد مريضاً للغاية خلال سنوات حكمه الثلاث الأخيرة، والنخبة المحيطة به متأكدة من نهاية عمرها السياسي، ومختلف أجهزة الحكم مصابة بشلل وظيفي، وعجلة الاقتصاد متوقفة تماماً.
نتيجة لذلك، أدت انتخابات 3 نوفمبر/تشرين الثاني عام 2003 إلى وصول حزب العدالة والتنمية للحكم، وتمكن خلال السنوات الثلاث الأولى من تنفيذ برنامجه الاقتصادي الطموح، الذي رسمه الاقتصاديان البارعان كمال درويش وعلي باباجان، وهو البرناماج الذي نال استحسان المؤسسات المالية والاقتصادية الدولية.
وظهرت نتائج ذلك التحول سريعاً، إلى أن صارت التنمية السنوية بمعدل 7 في المئة، فيما قفز الاقتصاد التركي من المرتبة 27 على مستوى العالم إلى المرتبة 16، ليبلغ حجمه 740 مليار دولار، وارتفعت الصادرات من 36 مليار دولار إلى 135 مليار دولار خلال أعوام قليلة. وشكلت عوائد الاقتصاد الإنتاجي، خاصة في الصناعة والسياحة، عصب الاقتصاد في البلاد، بعدما كان معتمداً على الزراعة والخدمات.
مارة أمام ملصق انتخابي لأردوغان في اسطنبول، 19 أبريل 2023.
وتمكنت تركيا من تجاوز الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008 بسلاسة معقولة، وأجرت سلسلة من الإصلاحات الإدارية والاقتصادية والقطاعية الهيكلية، بدعم وإرشاد من البنك الدولي وصندوق النقد، وهو ما أوقف دورة التضخم للمرة الأولى في تاريخ تركيا الحديث، وصارت المداخيل السنوية للفرد عام 2010 5 أضعاف ما كانت عليه قبل 7 سنوات. ووصلت التنمية إلى ذروتها عام 2011، لتقارب حدود الـ10 في المئة.
لكن اعتبارا من ذلك الوقت تباطأ نمو الاقتصاد التركي، الذي ترافق مع دعوة الرئيس أردوغان للتحول إلى النظام الرئيسي؛ حيث أوقف المفاوضات مع البنك الدولي وصندوق النقد، وشجع خصخصة القطاع العام، لصالح طبقة من الأثرياء الجدد المحيطين به، متبعاً أعلى درجات السياسات الاقتصادية النيوليبرالية، ساعياً للحصول على كتل ضخمة من القروض الأجنبية، لصرفها على البنية التحتية "الشكلية"، في نفس الوقت الذي كان يسعى فيه للسيطرة تماماً على الهيئات الاقتصادية المستقلة، مثل البنك المركزي واتحادات رجال الأعمال.
عاد التضخم بقوة منذ عام 2015، لتتكبد الليرة التركية خسارة فادحة، امتدت إلى وقتنا هذا، إذ خسرت أكثر من نصف قيمتها مقابل الدولار، وتراجع دخل المواطنين الأتراك، فيما صارت تهم الفساد تلاحق أعضاء من عائلة أردوغان وكامل الطبقة السياسية والاقتصادية المحيطة به.
فرصة ضائعة
بعد سنة واحدة من حُكمه، ولأول مرة في تاريخ تركيا الحديث، اعترف أردوغان في مهرجان خطابي في مدينة ديار بكر ذات الغالبية الكردية بوجود قضية كردية في البلاد، وهو ما أحدث موجة تفاؤل عارمة، تراجعت بسببها مستويات المواجهة والعنف الذي استمر لثلاثة عقود وأوقع عشرات الآلاف من الضحايا.
لعشر سنوات متتالية، اتخذ حزب العدالة والتنمية سلسلة من الخطوات المتتالية، مثل افتتاح قناة تلفزيونية حكومية باللغة الكردية والسماح بافتتاح معاهد تعليمية، ومنح المواطنين الأكراد حصة مدرسية اختيارية بلغتهم الأم، إلى جانب إلغاء الكثير من القوانين والإجراءات التي وصفت بـ"العنصرية"، مثل إعادة اسماء القرى والبلدات الكردية إلى تسمياتها الأصلية وعدم حظر الأزياء والكلام باللغة الكردية.
لكن ذروة التحول كانت عبر إجراء سلسلة من المفاوضات مع حزب العمال الكردستاني، تحديدا تلك الجولات التي حدثت في العاصمة النروجية أوسلو خلال الأعوام 2010-2015، وبرعاية وحضور الولايات المتحدة، تلك المفاوضات التي وصلت إلى نتائج معقولة للغاية، بغية إنهاء العمل المسلح مقابل بعض المطالب السياسية، مثل تحويل اللغة الكردية إلى لغة رسمية وتحقيق المزيد من الحكم الذاتي عبر الإدارات المحلية.
تبدل كل شيء اعتباراً من العام 2015. فخلال الانتخابات البرلمانية التي جرت في ذلك العام، خسر حزب العدالة والتنمية أغلبيته البرلمانية للمرة الأولى، ورفض حزب الشعوب الديمقراطية (المؤيد للأكراد) منح العدالة والتنمية أغلبية برلمانية، وأعلن رفضه القبول بالنظام الرئاسي ومشروع أردوغان لتغيير النظام السياسي في البلاد، وهو أمر اعتبره أردوغان بمثابة "خيانة شخصية".
الأمر الآخر تمثل في الهجمات التي بدأت تركيا تشنها على الأكراد في سوريا، معتبرة "قوات سوريا الديمقراطية" امتداداً لحزب العمال الكردستاني. ذلك العنف الذي امتد إلى داخل تركيا نفسها.
بُعيد تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية منذ عام 2015، اضطر للتحالف مع حزب الحركة القومية المتطرف، الأمر الذي دفعه لاتخاذ سلسلة مطولة من السياسات المضادة تماماً لأية إمكانية لحل المسألة الكردية، بل على العكس تماماً، زادتها توتراً وعنفاً بما لا يقاس مع أي ماضٍ.