مستفيدون من الحملة على اللاجئين السوريين

مستفيدون من الحملة على اللاجئين السوريين

في العام 1951، رفضت السلطات اللبنانية التوقيع على الاتفاقية الخاصة بوضع اللاجئين. واتخذت الموقف ذاته حيال بروتوكول 1967 الملحق بالاتفاقية التي كانت ترمي إلى حماية ملايين اللاجئين المنتشرين حول العالم بُعيد الحرب العالمية الثانية وتقسيم الهند.

أملى الموقف اللبناني الخشية من أن تتحول حقوق اللاجئين المنصوص عليها في الاتفاقية إلى مبرر لتوطين اللاجئين الفلسطينيين الذين كانوا قد وصلوا إلى لبنان قبل ثلاث سنوات جراء النكبة والتهجير القسري الذي أرغمتهم إسرائيل عليه.

الثورة السورية والحرب الأهلية التي أعقبتها، دفعتا مئات آلاف السوريين إلى لبنان، هربا من الجحيم الذي فتحه نظام بشار الأسد في وجوههم. ومنذ 2011 تصر الحكومات اللبنانية على وصف السوريين الذين وفدوا إلى لبنان بأنهم "نازحون" وليسوا "لاجئين" إخلاصا منها لموقفها برفض تقديم أي حجة لمطالبة اللاجئين الفلسطينيين، ثم السوريين، بحقوق مدنية، ربما– وربما لا– يُبنى عليها السعي إلى الحصول على الجنسية اللبنانية.

هذه مقدمة بقفازات مخملية. الواقع مختلف.

لقد نشأ لبنان على توازنات طائفية وإحصاءات تتغير في الحقيقة كل بضع سنوات، لكن مفاعليها صامدة في النصوص. لا معنى للتذكير بنتيجة إحصاء 1932 وهو الأخير الذي جرى في ذلك البلد، من دون الأخذ في الاعتبار أن العدد لعبة ذات منافع جمة على الطبقة السياسية الحاكمة المؤلفة من جميع الطوائف والمؤتلفة بمصالح وصلات محض دنيوية.

الثورة السورية والحرب الأهلية التي أعقبتها، دفعتا مئات آلاف السوريين إلى لبنان، هربا من الجحيم الذي فتحه نظام بشار الأسد في وجوههم

وليس سرا أن أحدا لن يتخلى عن التهويل بالخطر الديموغرافي الذي يتعرض له لإبقاء جمهوره على الولاء له ويسير سيرا حسنا في الوجهة المطلوبة. المسلم أو الفلسطيني أو السوري، وفي بعض الأحيان المسيحي السرياني والقبطي، كلها شعارات يرفعها من يريد تأبيد سيطرته على جماعته وإبقائها في حالة من الهلع والذعر والانغلاق. لا جديد تحت الشمس. خصوصا أن امرا مشابها يحصل في تركيا حيث "تستثمر" الاحزاب التركية انتخابيا في الحملة على اللاجئين السوريين. 

ومنذ بدء الخليقة، يُلقى باللوم على الآخر المختلف في كل مصيبة تحل بمجتمع ما. الطاعون والفقر والمجاعات والجفاف والجريمة، كانت وستبقى (فلنتذكر "الفيروس الصيني" الذي تحدث عنه اليمين الأميركي عند تفشي وباء كوفيد-19)؛ أدوات قابلة للتوظيف السياسي بسهولة ويسر. الضحايا من الغجر واليهود والمسلمين والمسيحيين والنساء (مطاردة الساحرات في أوروبا وأميركا الشمالية) وكل من لا ينتمي إلى الأكثرية السائدة، مدان مسبقا من دون القدرة على الدفاع عن النفس. 

سوء حظ السوريين اللاجئين في لبنان، وضعهم بين فكّي كماشة: هناك أولا الكارثة الاقتصادية والسياسية التي يعيشها لبنان منذ ثلاث سنوات ونيف، من جهة. وثانيا، ثمة نظام لا يرى في مواطنيه اللاجئين سوى أوراق للمساومة والضغط على الآخرين لتحصيل مكاسب سياسية ومالية. وفاقم الأمر سوءا أن اللاجئين السوريين وقعوا بين نوعين من التنميط: الشيطنة المطلقة التي يتبناها العنصريون اللبنانيون (وينتمي هؤلاء إلى كل "العائلات الروحية" من دون استثناء) التي تصور اللاجئ علةً لكل ما أصاب لبنان منذ عقود، وقد تبوأ مقعد سلفه الفلسطيني بوصفه شماعة يُعلق عليها الفشل اللبناني المزمن في صوغ مشاريع دولة ومجتمع وشعب وحياة سياسية حديثة وقادرة على علاج موبقاتها الكثيرة، بنفسها. يتضافر هنا المسلمون والمسيحيون ويتّحدون لتصوير اللاجئ السوري كمستفيد من الكارثة اللبنانية الحالية ومنتفع من تقديمات أجنبية، والسبب وراء انفلات الأمن وتصاعد نسبة الجرائم، على حساب اللبناني البريء الذي يتآمر العالم عليه لإيقاعه في الفاقة. 
 

منذ بدء الخليقة، يلقى باللوم على الآخر المختلف في كل مصيبة تحل بمجتمع ما. الطاعون والفقر والمجاعات والجفاف والجريمة، كانت وستبقى أدوات قابلة للتوظيف السياسي بسهولة ويسر

الصورة النمطية الثانية تأتي من المعارضة السورية في الخارج. فهذه لا ترى فشلها في بلورة أي إطار سياسي يدافع عن حقوق اللاجئين حيث هم، ويحاور السلطات التي يقيم اللاجئون فيها، ولا ترى مدى ضحالة إنجازاتها في مجالات التواصل مع اللاجئين وتأمين مخارج مشرفة لهم، سواء بتأمين انتقالهم إلى بلدان أكثر احتراما لحقوق الإنسان أو تشكيل هيئات لرعايتهم، وهو فشل لا يضاهيه سوى هزيمتها  السياسية في مقارعة نظام الأسد. بل تصور اللاجئ على أنه الضحية المطلقة التي سقط عليها حكم القدر ورماها بين أيدي وحوش مفترسة مثل الأتراك واللبنانيين وغيرهم. 
اللاجئون في الصورتين "أدوار" تؤدى على مسرح المأساة وليسوا بشرا لهم صفات ويتميز الواحد منهم عن الآخر بشخصية مركبة تتأثر بالظروف وتؤثر في محيطها. 
أما الكلام المكتوب على الجدار، كما جاء في سفر دانيال الذي تنبأ بانهيار مملكة بيلشاصر الفاسدة، فلا يراه أحد.  

السياسيون اللبنانيون يجنون الفوائد الجمة من وجود اللاجئين من خلال قبضهم على خناق المجتمع اللبناني ومنع بروز حالة اعتراضية على الأهوال التي تسببوا فيها وتحميلها إلى اللاجئين السوريين. فالفائدة الكبرى من هؤلاء ليست الأموال التي دفعتها الأمم المتحدة لإيوائهم وتعليمهم (والتي تعرض قسم منها إلى النهب في دوائر الفساد اللبنانية) ولا في استثمارات جاء بها بعض المتمولين السوريين إلى لبنان، بل في إدامة حكم التحالف الحاكم محليا وفي توفير ورقة ضغط على الأوروبيين وغيرهم ممن يخاف من موجات لجوء مشابهة لتلك التي نظمها الرئيس التركي في 2015. وهذه فائدة تصب الماء في طواحين سياسيين لبنانيين وسوريين لكنها تسحق الشعبين وتضعهما في مواجهة بعضهما البعض. فلا علاج غير القتل وسط الجموع الهائجة. 
 ربما تسيل دماء قريبا. 

font change