حيدر حيدر الشاهد على اشتعال المدن العربية

رحلة مضنية بين التجارب والمدن

فيسبوك
فيسبوك
الروائي السوري حيدر حيدر

حيدر حيدر الشاهد على اشتعال المدن العربية

دمشق: لا يُمكن الكتابة عن حدثٍ كوفاة حيدر حيدر صباح الجمعة بعد معاناة صامتة مع السرطان على أنه وفاة لأديب فقط. أغلب الذين ولدوا في النصف الأول من القرن المنصرم يملكون ما يتجاوز الأدب في سيرتهم، رحلة المحاولة العربية لإنجاز الحداثة والثورة جعلت كُتّاب تلك المرحلة يملكون سيرا ومحطاتٍ فيها من النزوح، والهروب، والخوف، والانفعال السياسي والثقافي ما يجعل سيرة أبدانهم موازية أحيانا لسيرة أقلامهم.

نحو المدن

انطلق حيدر حيدر نحو المدن الحقيقيّة والكُبرى منذ خمسينات القرن الماضي، حيثُ كانت حلب لإتمام الدراسة في مجال التربية والتعليم التربوي. ثمّ دمشق من أجل التشبّع في الأيديولوجيا والخيار والتمتّع بمحاولة تتوازى مع الموهبة من أجل الكتابة والنشر. المنهجيّة التي أعجبته كمدرّس حوّلته دون شك إلى حالم أيديولوجي ذي نزعةٍ تعليميّةٍ وسياسيّة. لا شكّ أن دور المُعلم قد بدا مُثيرا في حياته، النخبة المركّبة التي احتوتها الأيديولوجيّات جعلتْه سياسيّا بلغةِ مُعلّم صادق، وأديبا حارّ الكلمة ومُحاربا فيها، وأيضا متذكّرا مُخلصا لكل ما شاهده في الريف من قحطٍ وجوع وظُلمة. كان الجهل الذي أحاط القرية، والغابات المفتوحة أمامه، نزاعا دائما في داخله. هذا ما سنعرفه من هوسه في الوصف المكاني، وما يجعله في كل رواية معاندا لفراغِ المكان في النص. تركُه الغابة والقرية عوضه بعين تلهث لوصف المكان دون أن تكل.

من قصص قصيرة نُشرت إبّان وجوده في حلب، إلى مجلة الآداب اللبنانية وهو في دمشق، أصبحت رحلة الكتابة أكثر تجذرا على مستوى القلم، وأكثر اضطرابا على مستوى الجسد، اشتعلت دمشق من الناصريّة إلى البعث، وبدا فيها غارقا ببعدٍ عروبي، تأثير الناصرية والاشتراكية أعطاه خطابيّة الشخصية المؤثّرة بجسدها وكيانها مثل عبد الناصر، والشخصيات الشيوعية المُلهمة، والكتابة الواقعيّة ضمن قالبٍ ستكون واضحة منذ القصص والروايات الأولى، أدب الواقعية والنزعة المتألّمة على واقعٍ طبقيّ وفئوي، والذي يكون فيه تعاطفُ الروائي والقاصّ حاضرا دون تجرّد. لم يتنازل المُعلّم أبدا عن الدرس الذي يُريد تلقينه في روايته أو قصصه.

في السبعينيّات كانت الرحلة إلى الجزائر-الأستاذ في المهمة التي يُحبّها، العروبة كجزءٍ من الهوية والنضال، والهدوء الذي يمكن الحصول عليه في دولة خرجت من مجزرة ضدّ المحتل، وحربٍ أهليّة ناشئة- بُعدا عنفوانيّا صادقا جعله في مهمّة أحَبّها دون شك، واكتشف فيها نزوحا مؤلما آخر لإيجاد المعنى، وذلك للمرّة الرابعة بعد حلب ودمشق وبيروت على المستوى المجرّد. سكن بيروت مرات كثيرة، حينما كانت آماله تمضي مع الرسالة التي تحمل قصّته وصولا إلى مجلة الآداب. الرسالة النص ها هنا جسدٌ آخر عرف معناه حيدر حيدر، لقد عرف تماما سيرة الجسد والكلمة في التنقّل والبحث عن أمانٍ ما وظهورٍ آمنٍ أيضا.

النخبة المركّبة التي احتوتها الأيديولوجيّات جعلت حيدر حيدر سياسيّا بلغةِ مُعلّم صادق، وأديبا حارّ الكلمة ومُحاربا فيها، وأيضا متذكّرا مُخلصا لكل ما شاهده في الريف من قحطٍ وجوع وظُلمة

رحلة الاستكشاف

في الجزائر كانت الرحلة للاستكشاف والهدوء والتأمّل، والكتابة الأسلوبيّة التي اختارها. من عايشَ أتعابَ دمشق في ستينات وسبعينات القرن الماضي، وموتها تحت نير العسكر، لن يهدأ، وإن كان قد حمل في أفكاره لمرّاتٍ كثيرةٍ أملا بأصحاب البزّة الزيتية. يتعب المُعلم أحيانا من طول الوقت الذي يحتاجه الدرس والحزب، نحو حلمٍ سريع بخلاصٍ ما من الأيديولوجيا والسلاح. إلا أنه قد تعلّم الدرس، واستكان لفترة قصيرة في دمشق بعد عودته من الجزائر، دمشق التي لم يحتملها، ونحو بيروت مرة أخرى دون أن يكون مُعلّما، بل محرّرا ومثقّفا ناشطا دون هوادَة. لم يستطع أن يبقى في دمشق، هناك ضجيجٌ دائمٌ يدفعه إلى الخروج والنزوح والهجرة.

ظهرت روايته الأولى "الزمن الموحش" في العام 1974، بعد عدّة إصدارات قصصيّة، تحوّلت بعض قصصها إلى روايات. الرواية الأولى التي هي حصيلة سنوات دمشق، يكون فيها الشخصيّةَ المركزيّة، ويظهر فيها الضعف البسيط على مستوى تشكّل الشخصيات، وكيف تنحلّ تجربته الشخصية وقوله الخاص على حساب التخيّل المعياري لمنطق الرواية. حتى الرمزية فيها تكون أكثر وضوحا، ونقمة على الركود والتراث، المدينة وأزقّتها وسكّانها يكبتون كل حرية، أو كل فوضى يمكن الاستساغة فيها، الأنثى الحبيبة التي تتخلّى وتُخان وتخون، المثقّف الخائن، والسلطة الدينية والسياسية التي تأكل بشرية الفعل ورغباته. كان الزمن الموحش التاريخَ الشخصيَّ له، ونزاع مواضيع رغبته الذاتية بالذات نفسها، وفي الخارج عنها أيضا. وهو يبحث عن تصاعدٍ ذاتي أكثرَ شبها لرغباته وأمنياته. كانت الزمن الموحش أيضا إحدى المنجزات الوصفية للمثقّف الثوري والفوضوي الضائع أحيانا، وهو يصف مصاعب تجربته في دمشق ويدفعنا للتفكير فيها وفهمِ دمشق ذاتها في الستينات. وأيضا تكمن أهميتها في أنها توكد ملامحه الذاتيّة على حساب وعي مسؤول مؤدلَج، تدرّج حيدر حيدر في الكتابة بمعوله. أي أنها لصيقةٌ بمخيّلته ورؤاه، دون همّ المسؤولية أو البنية التوظيفيّة لأدبِ الواقعيّة.

في بيروت

في بيروت كان العمل ذهنيّا وصحفيّا وتحريريّا، لوقتٍ ما بدا أن لحيدر ملله الخاص، وبحثه الدائم عن إبراز الصوت والفعل، أرفق هذا بالكتابة القصصيّة والتحضيرات لأعمالٍ روائيّة، الخسارة المكانية والثقافية لدمشق حفّزته للفعل والقول الأيديولوجيين عبر أشكالٍ متاحة وممكنة، من موقع الاستدعاء للقهر والألم، فكانت شخصيّة شاهين الآثرة والتقليدية في آنٍ واحد، البطل القروي المتألّم، الجبروت الصّامت والمتحمّل للذلّ في مواجهة الإقطاع والاستعمار. أدبُ البطل الواحد الذي اندرج كعادةٍ احيانا، وكلغةٍ للعصر في أحايين أخرى، خاصة أنها تحوّلت لفيلم، السينما التي اجتاحتها فكرة البطل، وتصوير العقبات والظلمات الشخصية. الرواية كانت تصلح لفيلم بيُسر، لأنها بالكاد تُزاح عن لغة البطل في الوصف، وسهولة التمكّن من المكان والحالة، ثيمةُ الفقر المدقع والعذاب اليومي والحياتي. كان التعاون مع نبيل المالح مُنتجا، وحصل الفيلم على جوائز عالمية.

 وصولا إلى أن تكون تجربته الأكثر شبها لعنفوانه وصميميّة داخله، في العمل الثوري مع فلسطيني لبناني، فتحول لصحافي ببزّة عسكرية، فكان الانغماس في الفعل وكأنّه هو ذاته شخصيّةٌ مجنونةٌ لا تتوقّف عن الانفعال والفعل. شيء فيه مسكونٌ بالصراع والاحتدام بقضية. هناك شيء خفيٌّ في شخصه يجعل أي عارفٍ أو قارئ لسيرته، مُحتارا في رسم شخصه وفهمه أيضا. كانت الخيبة الجواب الدائم له، رغم أنه سيكون مدينا لقدرته على النجاة والاحتفاء بالألم في الكتابة. تخلّلت هزيمة لبنان وفلسطين آفة هجرةٍ جديدة نحو قبرص. لقد استكان للدافعية الإبداعية، على حساب الدافعيّة الجسديّة في مواجهة الاستبداد والعدوّ الإسرائيلي، أو النزوح الدائم بحثا عن مظلومين يقف معهم ويؤيدهم. الدافعية الإبداعية ستحمل قلقا غلّابا لتصبح نصوصه بناءات لغوية مركّبة وأقربَ للشعرية، ومن جهة أخرى نزعا للهروب من أزمات الخيبة والخسارة ومواجهتها نحو صُنع شخصيات متنوعةٍ ومختلفة وذات أبعادٍ نفسيّة عميقة، متأملة، ورغبويّةٍ بشكلٍ حاد.

 ابتدأت عزلته رغم نشره للعديد من الروايات والقصص إلا أن الجسد السياسي المعنوي توقّف عن الفعل، اكتفى بعزلةٍ محدودة، وأعاد اكتشاف رحلة الإنسان وهو يترك شيئا من حِسّه المُعتاد وقدرته المتوقعة

وليمة لأعشاب البحر

  في قبرص كتب روايته "وليمة لأعشاب البحر" عام 1984، والتي ستتحوّل في وقت لاحق إلى إحدى أكثر الروايات العربية إشكالا، وذلك لاتهامها في مصر بإهانة الذات الإلهيّة، وبأنها تحمل حوارات إباحيّة. رغم أن الرواية تحمل بنية حديثة، ولا تحمل شخصيّة بطوليّة تواجه عقباتٍ تقليديّة، أي أنها ليست موجّهة بساردها الأول أو الثاني نحو فكرةٍ تمرديّة أو نزاعيّة، ولا ترتيب الحدث والزمن فيها يُحيلان إلى ذلك. بل هي رواية لتجربة عراقي ثوري هرب إبّان سقوط نظام عبد الكريم قاسم، وسحل الشيوعيين حينها. الرواية هي القصّة المتأخّرة لنتائج أو وعي الستينات والسبعينات العربية، وانزياح الشخصية العربية نفسها من الحلم العام نحو الرغبة الجزئيّة. وحتّى رحلة الخروج من الأمكنة نحو أمكنةٍ أخرى، هو الغشّ الذي أُسّس في شخصيّة حيدر، في أن تكون رحلة خروجه هي رحلة قوله، المكان هو غشّ الحريّة المُتاح. الرواية لا تحمل بُعدا دينيا، بقدر ما تتقوّل شخصيتين، بعض الجُمل والعبارات والحوارات قد جعلت منها آفة لا بد من التخلص مِنها وتكفير كاتبها. هذا ما أعاد حيدر للواجهة، وأعاد الوهج إليه مرارا بعد سبعة عشر عاما على طباعة النسخة الأولى من الرواية. ومصر التي لم يصلها بقدميه لا في النزوح ولا في الرغبة أتت إليه هي لكن في أكثر ما يكرهه، أن يكون معاقبا منها ومنبوذا فيما يكتبه فيها. ذاتها قيمة الكلمة والرسالة التي عرفها وهو يكتب قصصه ويرسلها إلى بيروت، عادت إليه حينما أعادت مصر طبع روايته. من قبرص إلى سوريا ليترك لدافعيّة الإبداع سلطتها، ومن هنا ابتدأت عزلته رغم نشره للعديد من الروايات والقصص إلا أن الجسد السياسي المعنوي توقّف عن الفعل، اكتفى بعزلةٍ محدودة، وأعاد اكتشاف رحلة الإنسان وهو يترك شيئا من حِسّه المُعتاد وقدرته المتوقعة.

رحل حيدر حيدر صباح الجمعة بعد معاناة صامتة مع السرطان

حيز المعنى

الرحلة الشخصية أثيرة، شيء ما من تتبّع رحلته يوحي بأن الأدب ليس كافيا للتعبير عنه، خاصة أنه امتلك حيزا من المعنى الحقيقي للتجربة العنفوانيّة المتجسّدة، سواء بانتقالاته بين العواصم العربيّة المشتعلة، دون أن يملك سندا من نظام في عاصمة، أو بُعدا سلطويّا جرّاء عمله الثقافي. جائزته الوحيدة كانت فلسطينية، الفلسطينيون كانوا أقدس قضاياه، الروائي المولود في ريف مدينة طرطوس حصين البحر عاد إليها دون ان نعرف أجوبته كلها على خروجه منها، والعودة إليها وكأنه قد وجد الرحم. أثره الأكثر وضوحا كثّف تجربته الخاصة مع ما أنتجه إبداعيا، وحدّة الدافعين الإبداعي والسلوكي أفادته كثيرا، أكثر من كون رواياته ذات أثرٍ عميق، ذلك لاتّصالها بالتجربة النوعية لا الفريدة.  تقنيّة لغويّة بسيطة أمام شاعريّة مبالغ فيها في الرَّوي، وفيها طابع استعراضي، هو ذاته يقول عن هذا حُبّا باللغة. في كل هذا يبدو أن النوعي الذي خلقه آثرٌ وجميل.

خلال عشرات الروايات والقصص القصيرة بقى القالب الخاص لتجربة حيدر واضحا، عناده، فوضويّته، قتاليّة شخصياته نحو الرغبة والنزوع من أي تقليد. في العشر سنين الأخيرة لم نعرف رأيا واضحا لحيدر أثناء حريق البلاد، شيءٌ من هذا قد يكون خوفا من خيبة أخرى، أو تأويلٍ خائف لحريق يتجدّد في منطقةٍ لا خلاص فيها. في الحالتين كانت العزلة مُريبة وصامتة، وحينما نعاه ابنه عاد إلى الفهد قائلا: "الفهد غادرنا إلى ملكوته". كانت رواية الفهد الأقلّ أهمية في أعماله، لكن دوما سيكون البحث عن بطل التأويل الأفضل لفهم تجربة حيدر حيدر.

بعض من أعماله:

حكايا النورس المهاجر 1968

الزمن الموحش 1973

الفهد 1978

مرايا النار 1992

شموس الغجر 1997

هجرة السنونو 2008

الوعول

التموجات

شهادة أحوال زماننا

عشق الآلهة.

font change

مقالات ذات صلة