وصف عمرو بن العاص لمصر... الشائع والحقيقة

روايات يدحضها العقل

Getty Images
Getty Images
مسجد عمرو بن العاص، ويسمى أيضًا مسجد عمرو، بني في الأصل عام 642 م، في مدينة الفسطاط.

وصف عمرو بن العاص لمصر... الشائع والحقيقة

حين وقعت رسالة عمرو بن العاص في وصف مصر بيد الكاتب الفرنسي أوكتاف أوزان (ت ١٩٣١م) ذهل من بلاغتها وعمقها وإيجازها. فترجمها، ونشرها في صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية، وكتب حولها تعليقات عدة، وصف فيها كتاب عمرو بن العاص الذي أرسله إلى عمر بن الخطاب بأنه من أكبر آيات البلاغة في كل لغات العالم، وقال فيه إنه من الفرائد في إيجازه وإعجازه. واقترح وجوب تدريسه في جميع مدارس المعمورة، "حتى يتعلموا منه قوة الوصف ومتانة التعبير، وصحة الحكم على الأشياء، وكيفية تنظيم الممالك وسياسة الدول".

فما هي هذه الرسالة التي أثارت إعجاب ذلك الكاتب الفرنسي، ودفعته لأن ينشرها في صحافة بلاده؟ وماذا عن تلك المقولات والأوصاف الشائعة حول مصر التي تُنسب إلى عمرو بن العاص وفي طياتها إساءته لشعب مصر وتاريخها، هل قالها حقا؟ وهل تصح نسبتها لفاتح مصر وحاكمها الأول في تاريخ الإسلام، أم أنها مختلقة منحولة، منسوبة إليه زورا؟

تقارير جغرافية

قادة الفتح الإسلامي كانت لديهم عناية كبيرة بدراسة البلدان التي فتحوها، ودراسة أحوالها، والتعرف إلى طبيعتها الجغرافية والمناخية والاقتصادية والاجتماعية، ويبعثون في ذلك التقارير إلى عاصمة الخلافة الراشدة في المدينة المنورة، ومن الدلائل على ذلك أن عمر بن الخطاب كان يشترط على قادته شروطا ومعايير لاختيار مواقع العواصم، حيث اشترط ألا يحجبه بينه وبينهم بحر، ولا نهر، وهذا المعيار كان له أثر في تحول عمرو بن العاص عن اتخاذ العاصمة الإسكندرية، والتوجه لبناء مدينة الفسطاط، التي أصبحت أول عاصمة إسلامية في مصر وأفريقيا.

 shutterstock

العرب وتأسيس المدن والعواصم

وكان من ثمرات هذه الدراسة لأحوال البلاد المفتوحة أن شيِّدت مدن وعواصم جديدة كانت بمثابة مناطق إدارية للحكم الجديد، ثم تحولت بعد ذلك إلى مدن مزدهرة عامرة بالسكان حتى يومنا هذا، ومن ذلك حين قام سعد بن أبي وقاص بعد فتح المدائن، ببناء مدينة الكوفة، كما يذكر عنه ابن كثير أن سعدا حين مر مع أصحابه على أرض الكوفة وهي حصباء جرداء، في رملة حمراء فأعجبته، ثم قال: اللهم بارك لنا في هذه الكوفة، واجعلها منزل ثبات. ‏ثم اختطها، وكان أول بناء وضع فيها هو المسجد، ثم بنى قبالته قصرا للإمارة، وبنى الناس منازلهم، ثم أصبحت لاحقا أول عاصمة للخلافة الراشدة خارج جزيرة العرب. وفي المغرب قام عقبة بن نافع بتأسيس القيروان، وبنى أبو جعفر المنصور عاصمة العراق بغداد، وشيد المعتصم سامراء، والأمويون في الأندلس أسسوا أهم العواصم الأوروبية إلى اليوم، مدينة مدريد.

بناء المدن بهذا النحو، وتشييدها على أرض كانت فارغة، أو قاحلة، أو يقطنها عدد قليل من السكان، ثم تتحول بعد ذلك إلى أهم المدن في التاريخ، يدل على دراسة مسبقة، ووعي مبكر بالتفاصيل الجغرافية لتلك البلاد، واختيار دقيق وفق معايير مدنية وحضرية واقتصادية لتشييد المدن، التي كُتب لها أن تدوم وتزدهر، مهما تعاقبت عليها الدول والممالك.

يرى عدد من المحققين أن نص الرسالة قد أعيد صياغته، وكتب بمزيد من التنميق والتزويق، حيث يرى حسن إبراهيم حسن أن "وصف عمرو مصرا لعمر في هذا الكتاب قد رواه كثير من المؤرخين، ولكننا نشك في أن ألفاظه النمقة صدرت عن عمرو"

رسالة عمرو بن العاص

ومن نماذج الوعي الجغرافي المبكر لدى العرب، تلك الرسالة التي بعثها عمرو بن العاص حين أتمّ فتح مصر، حيث أرسل إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كتابا يصف له فيه مصر، وشرح له السياسة التي سيتخذها فيها، ونصه: "مصر تربة غبراء (أي سهلة الإنبات) وشجرة خضراء (كثيرة الشجر الأخضر) طولها شهر، وعرضها عشر (لعله يريد أن الماشي يقطعها طولا في شهر، وعرضا في عشرة أيام) يكتنفها جبل أغبر (يحيط بها جبل ضارب إلى السواد) ورمل أعفر (أبيض مائل إلى الحمرة أو الصفرة) يخط وسطها نهر ميمون الغدوات مبارك الروحات (محمود الذهاب والإياب) يجري بالزيادة والنقصان، كجري الشمس والقمر. له أوان تظهر به عيون الأرض وينابيعها حتى إذا عج عجيجه (معظم مائه) وتعظمت أمواجه لم يكن وصول بعض أهل القرى إلى بعض إلا في خفاف القوارب وصغار المراكب، فإذا تكامل في زيادة نكص على عقبه، كأول ما بدا في شدته، وطمى في حدته فعند ذلك يخرج القوم ليحرثوا بطون أوديته وروابيه، يبذرون الحب ويرجون الثمار من الرب، حتى إذا أشرق وأشرف سقاه من فوقه الندى وغذاه من تحته الثرى، فعند ذلك يدر حلابه ويغني ذبابه (يعظم محصوله) فبينما هي يا أمير المؤمنين درة بيضاء إذا هي عنبرة سوداء، وإذا هي زبرجدة خضراء فتعالى الله الفعال لما يشاء، الذي يصلح هذه البلاد وينميها ويقر قاطنها فيها أن لا يقبل قول خسيسها في رئيسها، وأن لا يستأدى خراج ثمرة إلا في أوانها، وأن يصرف ثلث ارتفاعها في عمل جسورها وترعها، فإذا تقرر الحال مع العمال في هذه الأحوال، تضاعف ارتفاع المال، والله تعالى يوفق في المبتدأ والمآل". فلما ورد هذا الكتاب على عمر بن الخطاب قال: "لله درك يا ابن العاص، لقد وصفت لي خبرا كأني أشاهده". وقد ذكر هذه الرسالة ابن تغري بردي في كتابه "النجوم الزاهرة في أخبار ملوك مصر والقاهرة"، وأشار إليها أبو عبيد البكري في كتابه "المسالك والممالك"، وغيرهما، كما شرح ألفاظها عبد الحي الكتاني في التراتيب الإدارية.

Getty Images
مسجد عمرو بن العاص في القاهرة

هذه الرسالة في وصف مصر هي التي أثارت انتباه الكاتب الفرنسي أوكتاف أوزون، وقد ترجم هذا الوصف من مؤرخي الإنكليز المؤرخ إدوارد جيبون، وألفريد بتلر في كتاب "فتح العرب لمصر"، وإن كان عدد من المحققين يرون أن نص الرسالة قد أعيد صياغته، وكتب بمزيد من التنميق والتزويق، حيث يرى حسن إبراهيم حسن في كتابه "تاريخ عمرو بن العاص" أن "وصف عمرو مصرا لعمر في هذا الكتاب قد رواه كثير من المؤرخين، ولكننا نشك في أن ألفاظه النمقة صدرت عن عمرو في صدر الإسلام".

 

الأوصاف المبتذلة الشائعة

أمام هذا الوصف البليغ لأحوال مصر، وطبيعتها الزراعية والمناخية والجغرافية، نجد مقولات شائعة منسوبة إلى عمرو بن العاص، من أشهرها تلك المقولة: "مصر نيلها عجب، وترابها ذهب، ونساؤها لعب، ورجالها طرب، وهي لمن غلب"، وعلى كثرة شيوع هذه العبارة، وترددها بين الناس بصيغ مختلفة إلا أنه لا يوجد أي مصدر تاريخي ينسبها إلى عمرو بن العاص، فهي مختلقة منحولة على ابن العاص، ولا تتسق أبدا مع منطق القائد العربي البليغ الذي يعد من أبرز دهاة العرب، وعباقرتهم، كان مضرب المثل في فصاحة اللسان، وبلاغة المنطق والذكاء، وقد كان عمر بن الخطاب إذا رأى رجلا يتلجلج في كلامه يقول: "خالِقُ هذا وخالِقُ عمرو بن العاص واحد!".

عمرو بن العاص الرجل الذي أحب مصر، وربطته بها صلات قديمة قبل الإسلام، وحين دخلها رفع شعار الأمان، وأعاد إلى الأقباط مكانتهم، وكنائسهم. هل يعقل لرجل بمثل تلك القامة والمكانة أن تصدر منه هذه الكلمات المبتذلة المسيئة لتلك البلاد التي عاش فيها عمره، وعاش فيها أبناؤه من بعده، وارتبط بها حتى ارتبطت به!

إن هذه المقولة التي تنسب زورا إلى عمرو بن العاص، لا يعرف على وجه التحديد من هو قائلها، وقد أشار إليها المقريزي في كتابه "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار"، دون أن ينسبها إلى شخص محدد، وجاءت في هذا النص: "سأل بعض الخلفاء الليث بن سعد عن الوقت الذي تطيب فيه مصر؟ فقال: إذا غاض ماؤها، وارتفع وباها وجف ثراها وأمكن مرعاها، وقال آخر: نيلها عجب، وأرضها ذهب، وخيرها جلب، وملكها سلب، ومالها رغب، وفي أهلها صخب، وطاعتهم رهب، وسلامهم شعب، وحربهم حرب، وهي لمن غلب. وقال آخر: مصر من سادات القرى ورؤساء المدن"، كما وردت في صيغة شبيهة عند المسعودي في "مروج الذهب"، بدون أن ينسبها إلى أحد.

على كثرة شيوع هذه العبارة، وترددها بين الناس بصيغ مختلفة إلا أنه لا يوجد أي مصدر تاريخي ينسبها إلى عمرو بن العاص، فهي مختلقة منحولة على ابن العاص، ولا تتسق أبدا مع منطق القائد العربي البليغ الذي يعد من أبرز دهاة العرب

تحامل المؤرخين

وقد انتشرت في كتب التاريخ مثل هذه الأقوال الشائعة التي تنتقص من المصريين، وفي ذلك كتب أحمد أمين في مجلة "الرسالة" مقالة بعنوان "صفحة سوداء" ذكر فيها طرفا من تحامل المؤرخين على شعب مصر، ونعتهم بأوصاف الدعة واللهو، وكان من أبرز هؤلاء ابن خلدون، الذي وصف المصريين قائلا: "كأنما فرغوا من الحساب" يريد أنهم لا يحاسبون أنفسهم على ما يصدر منهم، ولا يخافون من عاقبة أعمالهم، علق أحمد أمين: ابن خلدون كان في طباعه حدة وعنف، فنظر إلى مصر بطبعه الحاد نظرة فيها إفراط وفيها مبالغة... ونسي أن تاريخ مصر صفحات بيضاء تتجلى فيها العزة بأجلى مظاهرها.

font change

مقالات ذات صلة