مخاوف الناخبين الأتراك في جولة الإعادة الرئاسية

مخاوف الناخبين الأتراك في جولة الإعادة الرئاسية

بغض النظر عن المرشح الذي سيخرج منتصرا أخيراً في الانتخابات العامة في تركيا، فإن المنافسة الندية بين الرئيس رجب طيب أردوغان وكمال كليشدار أوغلو، المنافس الرئيس على كرسي الرئاسة، تشهد على حيوية الديمقراطية التركية.

وفي السنوات القليلة الماضية، تزايد القلق في تركيا من أن يكون في الميول الاستبدادية لأردوغان تهديد مباشر للإرث الديمقراطي في البلاد، الذي يمكن إرجاعه إلى مؤسس الدولة التركية الحديثة كمال أتاتورك قبل قرن من الزمان.

والحقيقة أن هجوم أردوغان على المؤسسات الديمقراطية في البلاد كان واضحا بكل جلاء عقب محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016، عندما أخفقت محاولة يدعمها الجيش للسيطرة على البلاد بالقوة. ولم يكن مستغربا أن يرى أردوغان في محاولة الانقلاب هجوماً مباشراً على رئاسته، ولا سيما أن طائرته الخاصة كانت هدفا لطائرتين تركيتين من طراز F-16، وكادت تسقط بالفعل وهي متوجهة إلى مطار إسطنبول.

كان رد الرئيس التركي منذ اليوم الأول لمحاولة الانقلاب شن حملة قمع صارمة على مستوى البلاد، ليس فقط ضد خصومه، ولكن ضد أي جماعة يرى أنها تعارض نظامه الإسلامي الاستبدادي. وحين تمكن من توطيد سلطته بتركيز الصلاحيات في يد الرئيس عقب الاستفتاء على الدستور عام 2017، شن هو وأنصاره حملة قمع واسعة النطاق ضد معارضي النظام. وأدى ذلك إلى إغلاق معظم وسائل الإعلام المعارضة للحكومة، وإقالة عشرات الآلاف من أفراد الشرطة والجيش والموظفين المدنيين والقضاة، بتهمة التعاطف مع محاولة الانقلاب، كما سُجن أكثر من 95 ألف مواطن.

في ظروف كهذه، تصاعدت مخاوف جدية من أن مرشحي المعارضة سيكون مستحيلا عليهم تقريبا أن يجمعوا حشدا يشكل تحديا خطيرا لأردوغان بعد عقدين في السلطة.

ومع أن التغييرات الدستورية الأخيرة عززت بلا شك قدرة الزعيم التركي على البقاء في السلطة، غير أن التحدي القوي الذي شكله كمال كليشدار أوغلو، المنافس الرئيس على كرسي الرئاسة مدعوما بتحالف من ستة أحزاب، يظهر أن الناس في تركيا لا زالوا، على الرغم من جهود أردوغان، ملتزمين تماما بالعملية الديمقراطية في تركيا.

وفي أخطر تحدٍ يواجه أردوغان وحزبه، حزب العدالة والتنمية، منذ توليه السلطة أول مرة في 2003، اقترب كليشدار أوغلو، وهو محاسب وموظف حكومي سابق يبلغ من العمر 74 عاما يرأس حزب الشعب الجمهوري، اقترب من الإطاحة بأردوغان من منصبه.

وبينما كانت استطلاعات الرأي تتوقع أن كليشدار أوغلو يتجه نحو فوز ضئيل في الانتخابات يوم الأحد الماضي، انتهت المنافسة بين المرشحين من دون أن يؤمن أي منهما عتبة الـ50 في المئة اللازمة لإعلان الفوز الصريح.

التغييرات الدستورية الأخيرة عززت قدرة الرئيس التركي على البقاء في السلطة، غير أن التحدي القوي الذي شكله كمال كليشدار أوغلو، يظهر أن الناس لا زالوا ملتزمين تماما بالعملية الديمقراطية في تركيا

مع فرز أكثر من 99 في المائة من الأصوات، أعلن المجلس الأعلى للانتخابات في تركيا أن أردوغان يتقدم بنسبة 49.54 في المائة من الأصوات، بينما فاز كليشدار أوغلو بنسبة 44.88 في المائة. ولأن أيا من المرشحين لم يبلغ عتبة الـ50 في المائة، فقد بات من المقرر الآن إعادة الانتخابات يوم 28 مايو/أيار الحالي.


وبينما يدعي أنصار حزب العدالة والتنمية النصر بالفعل، ويحتفلون في الشوارع خارج مقر الحزب في أنقرة بعد إعلان النتيجة، كانت المعارضة أقل اقتناعا بالنتيجة، حيث اتهم النشطاء حزب أردوغان الحاكم بالتدخل في عدّ الأصوات والتلاعب بالنتائج. وحث كليشدار أوغلو أنصاره على التحلي بالصبر، مؤكدا أنه سينتصر في جولة الإعادة.


ولن يكون ذلك مستحيلا، إذ إن هناك سابقة حدثت مؤخرا في السياسة التركية، حيث فاز مرشح معارض تحدى حزب العدالة والتنمية في جولة الإعادة. فبعد نجاح أكرم إمام أوغلو، مرشح المعارضة، في انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول عام 2019، تمكن حزب العدالة والتنمية من إلغاء الانتخابات، مستشهداً بحدوث مخالفات في التصويت. إلا أن إمام أوغلو تمكن، عندما أعيدت الانتخابات ثانية، من زيادة حصته في الأصوات وضمن لنفسه النصر.


لذا ينبغي على أردوغان وأنصاره أن يحرصوا على ألا يعيد التاريخ نفسه في السباق الرئاسي، ولا سيما أن كليشدار أوغلو، على الرغم من أنه أكبر من أردوغان بخمس سنوات، يبدو أنه اجتذب دعما قويا من الناخبين الأتراك الشباب.


ومع ما يواجهه الاقتصاد التركي من رياح معاكسة قوية، ومع تضخم يقدر بـ45 في المئة، يتزايد الاستياء من حكومة أردوغان، ولا سيما أن الزعيم التركي متهم بأنه السبب في الصعوبات الاقتصادية، بتعامله غير الكفء مع وباء فيروس كورونا وتداعياته. كما واجه أردوغان انتقادات شديدة بسبب طريقة تعامله مع الزلزال المدمر الذي وقع في فبراير/شباط الماضي وأودى بحياة أكثر من 50 ألف شخص وشرد ثلاثة ملايين نسمة.

من هنا، فإن تعهد كليشدار أوغلو بتفكيك نظام أردوغان الاستبدادي القمعي هو أحد الأسباب التي مكنته من الحصول على هذا الدعم القوي في جميع أنحاء البلاد. 


وأهم شيء أن كليشدار أوغلو تعهد، في حال انتخابه رئيساً، بأن يلغي نظام أردوغان الرئاسي ويعيد السلطة إلى البرلمان والى منصب رئيس الوزراء ثانية، إضافة لضمان استقلال القضاء والصحافة.
 

رغم أن كليشدار أوغلو أكبر من أردوغان بخمس سنوات، فإنه اجتذب دعما قويا من الناخبين الأتراك الشباب

وقال كليشدار أوغلو مؤخراً في حديث مع "بي بي سي": "الشباب يريدون الديمقراطية، ولا يريدون أن تأتي الشرطة إلى أبوابهم في الصباح الباكر لمجرد أنهم غردوا على "تويتر". وأنا أقول للشباب إنه يمكنهم انتقادي بحرية، وأؤكد أن هذا من حقهم.


كما أن التزام كليشدار أوغلو بإعادة تأكيد أوراق اعتماد بلاده في الناتو، وتعهده على الأخص بإصلاح علاقات أنقرة مع الولايات المتحدة، شد إليه أيضا اهتمام القادة الغربيين، وكذلك إشارته بأنه سيعيد إحياء محاولة تركيا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.


غير أن كليشدار أوغلو وأنصاره يدركون أن أردوغان خصم قوي جدا، فهو من قاد حزب العدالة والتنمية لتحقيق انتصارات انتخابية متعددة خلال السنوات العشرين المنصرمة.


ومما يزيد من قلق خصوم أردوغان أنه إن تمكن من تحقيق النصر في جولة الإعادة، سيزيد جهوده لتعظيم سلطاته الرئاسية على حساب المؤسسات الديمقراطية في البلاد. وذلك، إن حدث، سيكون خطأ فادحاً، لان رغبة الأتراك، كما أظهروا ذلك بالملايين منهم، أن يكونوا جزءاً من دولة ديمقراطية، أياً كان المرشح الذي سيخرج منتصرا في النهاية، وهي رغبة لا يستهان بها.
 

font change