أحلام اليوان

أحلام اليوان

يعزى انهيار العملات الوطنية الى أسباب شتى، أهمها ارتفاع التضخم الى مستويات خارجة على السيطرة، معدلات استدانة مرتفعة في ظل اقتصاد غير منتج، ضعف بنيوي يدفع الى هروب الرساميل والأصول، والخلل التجاري الذي يراكم العجوزات في الموازنة وميزان المدفوعات، إضافة إلى عوامل أخرى كتفكك الدولة وعدم الاستقرار السياسي والفساد والحروب والكوارث الطبيعية المدمرة.

من شهد أزمات اقتصادية كبرى في دول مثل الأرجنتين وفنزويلا ولبنان وإيران وغيرها، يدرك جيدا النفق المظلم الذي ينتظر أي دولة وشعبها بفعل انهيار العملة الوطنية.

لك أن تتخيل السيناريو نفسه في الولايات المتحدة الأميركية بعدما أصبح موضوع "التخلي عن الدولرة" (De-dollarization)، أو الابتعاد عن استخدام الدولار الأميركي كعملة أساسية للتبادل في التجارة والاستثمار العالميين، موضوعا ساخنا في التحليلات المالية والتوقعات لخبراء مرموقين، كما في فيديوهات "الريل" السريعة ووسائل التواصل الاجتماعي التي تروج لضعف الدولار وانهياره الوشيك وفقدانه مكانته كعملة مرجعية دولية. ناهيك بمن يدعون لتحويل الاستثمارات بالعملة الأميركية الى أسواق العقارات وشراء الذهب أو الى محافظ "العملات المشفرة" الهوائية، والادعاء أنها "ملاذات آمنة" من تداعيات تدهور الدولار، علما أن أسواقها شهدت فقاعات مدمرة للثروات في مراحل عدة بينما حافظ الدولار على استقراره.

يسيطر الدولار على أكثر من 80 في المئة من التعاملات التجارية العالمية

تبدو بعض المقالات في صحف عالمية محترمة مثيرة للذعر والعجب في الآن نفسه، في وقت تسيطر العملة الأميركية على أكثر من 80 في المئة من التعاملات التجارية العالمية، ونحو 45 في المئة من الودائع بالدولار بحسب الفيديرالي الأميركي. فماذا سيكون مصير تلك التعاملات ومعها معظم استثمارات الصناديق السيادية بالدولار من أسهم وسندات وتداولات لعقود النفط والسلع على البورصات العالمية، وأي زلزال مالي سيحدث في الكرة الأرضية إذا ما فقد الدولار دوره فعلا؟ 

الثقة تبقى الأساس

قد يشكل عدم ارتباط الدولار بالذهب إحدى الذرائع التي يستند إليها بعض الاقتصاديين والمحللين في نظريتهم القائلة بحتمية فقدان الدولار قيمته ودوره خارج حدود الأراضي الأميركية مع الوقت، لكن من المفيد أن نتذكر بأن العملة الخضراء تستمد قوتها من ثقل الولايات المتحدة، الدولة العظمى القائمة على الديموقراطية والحريات وحكم القانون والاقتصاد الحر وحقوق الانسان، والهيئات الرقابية والتنظيمية والشفافية والأصول الراسخة التي تحكم اقتصادها وأسواقها المالية داخليا وخارجيا، وهذه كلها تشكل "ميزان الذهب"، لا الذهب فقط، الذي يحقق التوازن النقدي المطلوب، فتولد الثقة بقيمة الدولار، الذي تلجأ اليه المصارف المركزية في العالم كمخزن للقيمة وتشكيل الاحتياطات الوطنية.

لا شك في أن كثيرا من هذه القوى الناعمة عصية على دول عظمى أخرى كالصين، المنافس المباشر والأبرز للولايات المتحدة اليوم، التي تسعى إلى تعزيز موقعها كأحد الأقطاب التي يحسب لها ألف حساب. ربما ذلك ممكن سياسيا وصناعيا وتكنولوجيا وتجاريا، ولها في ذلك شأن عظيم، لكن على مستوى النقد، ونظام التحويلات فللأمر حسابات أخرى.  

من المفيد أن نتذكر بأن العملة الخضراء تستمد قوتها من ثقل الولايات المتحدة، الدولة العظمى القائمة على الديموقراطية والحريات وحكم القانون والاقتصاد الحر وحقوق الانسان، والهيئات الرقابية والتنظيمية والشفافية 

على الرغم من ذلك، تنشط الصين ماليا لوضع حجر الأساس لنظام "سويفت" جديد مقبول عالميا وتسعى إلى توسيع نطاق تكتل دول "بريكس" (BRICS)، الذي خطت دوله خطوات كبيرة لتعزيز نفوذها الاقتصادي العالمي، وجذب أعضاء جدد للاتفاق على عملة موحدة للتداول التجاري في ما بينها، يماثله في ذلك الاتحاد الأوروبي. إنما تبقى الصين غير مهيأة لتلقف أي خلل في أسواق المال والسلع العالمية، وأهمها النفط، نظرا الى تواضع بنيتها التشريعية الأساسية وعدم اكتمال الثقة بأنظمتها المالية التي تشوبها الضوابط على رأس المال، وحرية التحويلات، وسيطرة حزب الدولة الواحد، خلافا للأسواق الأميركية. وهذا ما لا يناسب المستثمرين والمصارف المركزية في العالم الذين يريدون الاطمئنان الى جهوزية أموالهم وسهولة سحبها وتحويلها فورا عند الحاجة، ولا سيما في أوقات الشدة. وما لا يصح للصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة، لا يصح بالطبع لغيرها. 
من هنا يبرز السؤال لدى الحديث عن فقدان الدولار دوره ذات يوم، ما البديل أصلا؟

عملة غير تقليدية

ليست الولايات المتحدة في منأى من التحولات التاريخية، لا سيما مع تفاقم التضخم ورفع الفوائد، وتاليا نمو الديون الأميركية الى حد تجاوز سقف الدين الفيديرالي، وهذه معضلة أساسية يفترض أن تسعى الادارة الأميركية الى معالجتها بسرعة مع مطلع يونيو/حزيران المقبل، موعد الاستحقاق، لتفادي تخلفها عن السداد. 

حتى اليوم لا تزال الولايات المتحدة تتمتع باستقرار سياسي واقتصادي وديموغرافي، مقارنة بكل من أوروبا والصين، وعلى الرغم من تراجع الدولار خلال الأشهر الستة المنصرمة، فإنه لا يزال قريبا من أعلى مستوى له في عشر سنين، في مقابل عملات الدول التي تشكل شريكا تجاريا للولايات المتحدة، وهو "احتفظ بقوته القياسية في مقابل عملات "مجموعة العشر" وعملات الأسواق الناشئة"، كما ذكر روبن بروكس، كبير الاقتصاديين في معهد التمويل الدولي. وحافظ الطلب على سندات الخزانة الأميركية على نمو مطرد منذ عام  2013، وفقا لـ"بلومبرغ"، كما شهدت الولايات المتحدة أكبر تدفق للاستثمار الأجنبي المباشر، وللاستثمار الطويل الأجل في الأعمال التجارية والممتلكات، مقارنة بالاقتصادات الرئيسية الأخرى في عام 2022 نظرا إلى ما يتمتع به الاقتصاد الأميركي من مرونة.  

تبقى الصين غير مهيأة لتلقف أي خلل في أسواق المال والسلع العالمية، وأهمها النفط، نظرا الى تواضع بنيتها التشريعية الأساسية وعدم اكتمال الثقة بأنظمتها المالية

وعلى عكس أي دولة أخرى في العالم، فإن الدولار ليس عملة تقليدية كبقية العملات، كونه يتمتع بمكانة خاصة في النظام المالي العالمي، فهو عملة الاحتياط العالمية الأقوى، مما يجعلها الأكثر أمانا، مع احتفاظ العديد من الدول والمصارف بالدولار كاحتياطي في خزائنها أو استخدامه كعملة رئيسية لدعم عملاتها واقتصاداتها منذ اتفاق "بريتون وودز" عام 1944. كذلك، فإن معظم العقود المالية العالمية تحرر بالدولار الأميركي كأحد شروطها الرئيسية للثقة وللوفاء بهذه العقود. 

كما أن اقتصاد الولايات المتحدة هو الأقوى على الكوكب بناتج محلي إجمالي يفوق 23 تريليون دولار، بفارق نحو 6 تريليونات دولار عن ناتج الصين، ويشكل ربع حجم الاقتصاد العالمي. يشار الى أن الصين لا تزال تمتلك نحو تريليون دولار من الأصول الأميركية، عدا كونها ثالث أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة من بعد المكسيك وكندا، بحجم صادرات أميركية إلى الصين تبلغ 1,8 تريليون دولار، أي ما يمثل 8,6 في المئة من الصادرات الإجمالية الأميركية في 2021، وحجم واردات من الصين يبلغ 2,8 تريليون دولار، ما يمثل 17,9 في المئة من الواردات الأميركية بحسب وزارة التجارة الأميركية، مما يضع مصالحها في تحدي الولايات المتحدة وعملتها موضع التساؤل، أو الغباء الاقتصادي الصرف.

وزن "عملة الشعب"؟

 اتخذت بعض الدول القلقة من استخدام الولايات المتحدة الدولار كسلاح لمعاقبة "الدول المارقة" أو التي تشن الحروب على جيرانها، كروسيا، والقلقة أيضا من أحادية أقوى عملة دولية، خطوات رمزية كخفض تعاملاتها بالدولار واستبدالها بعملات أخرى، محلية أو دولية، أو خفض احتياطيات مصارفها المركزية من الدولار، وقد شهدنا انخفاض حصة الدولار من هذه الاحتياطيات عالميا من نحو 70 في المئة قبل 20 عاما إلى أقل من 60 في المئة حاليا. وكانت الصين طلبت من منتجي النفط الموافقة على تسديد مدفوعاتهم باليوان بدلاً من الدولار، كما أبرمت اتفاقات "سويفت" مع عدد من الدول، مما سمح لها بتجاوز الدولار الأميركي في معاملاتها التجارية. وبالفعل، قوبلت هذه الطلبات بإيجابية في روسيا، وفرنسا، والبرازيل، ومصر، وإيران وغيرها، تبعا للظروف السياسية والاقتصادية لكل من هذه الدول، لكن الأهم هو تقييم حجم هذه التعاملات وتأثيرها الفعلي على هيمنة الدولار، وقدرة هذه الخطوة على استقطاب دول أخرى ذات اقتصادات وازنة لاتباع المنحى ذاته.

60 في المئة نسبة التجارة العالمية من النفط والذهب والسيارات والهواتف الذكية وغيرها من السلع الأساسية يتم تداولها بالدولار، و30 في المئة باليورو، و10 في المئة لبقية عملات العالم بما فيها اليوان

صندوق النقد الدولي

يجب أن نتذكر هنا أن أميركا لم تعاقب بسلاح الدولار أبرياء أو مظلومين، بل فاسدين ومهربين، معتدين ومجرمين وقادة ديكتاتوريين وسفاحين يسلبون السلطة بقوة السلاح ويرتكبون المجازر والمآسي في حق شعوبهم وشعوب أخرى. 

يقدر صندوق النقد الدولي نسبة التجارة العالمية من النفط والذهب والسيارات والهواتف الذكية وغيرها من السلع الأساسية التي يتم تداولها بالدولار الأميركي بنحو 60 في المئة، فيما يمثل اليورو نحو 30 في المئة، أما الباقي (أي نحو 10 في المئة) فيغطيها مجموع العملات الأخرى كلها ومن ضمنها الرنمينبي (أي عملة الشعب) الصيني وهي التسمية الأخرى لليوان. 

وواقع أن 75 في المئة من ديون الولايات المتحدة هي ديون داخلية، فإن تأثير طلب حاملي الأصول بالدولار الأميركي في العالم تسييل استثماراتهم الضخمة، لن يثني الولايات المتحدة عن تأمين التزاماتها عبر بيع بعض من أصولها المهمة، منها سندات الخزانة أو الأوراق المالية أو غيرها. 

قد يعاني الدولار الأميركي ضعفا في وقت من الأوقات، خصوصا في حال تفاقم صراع الديوك بين الديموقراطيين والجمهوريين في خصوص سقف الدين الفيديرالي الشهر المقبل وفلتان الزمام، لكن الحديث عن انهياره أو فقدان دوره كعملة العالم الأقوى، له حسابات أخرى ومن المبكر لأوانه. لا شيء مستحيلا في عالم النقد والاقتصاد، وقد يبرز توجه نحو عالم من العملات متعدد القطب على المدى الطويل، إلا أن الانتقال من هيمنة الدولار إلى التخلص منه لتكون الصدارة لغيره من العملات، فهذا كان طموحا للين الياباني منذ عقود، وطموحا لليورو منذ 23 عاما لم يتحقق... وهو اليوم من أوهام تجار البضائع الصينية وأحلام اليوان.

font change