غزة... "التجارة المربحة"

غزة... "التجارة المربحة"

استمع إلى المقال دقيقة

يستحق اسم فرانشيسكا ألبانيزي، أن نحفظه ونقدّره بعمق، في زمنٍ انعدم الضمير الإنساني العالمي وانحدرت الأخلاق البشرية الى درك سحيق، وسقطت كل أقنعة الحضارة وسط صمت العالم على المجازر المُروِّعة في غزة، المالئة الشاشات والهواء.

أعدت فرانشيسكا وهي المقرّرة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، تقريرا أصدرته الأمم المتحدة بعنوان: "من اقتصاد الاحتلال إلى اقتصاد الإبادة الجماعية"، نُشر مطلع هذا الاسبوع، ففضح زيف شعارات شركات الغرب المتشدّق بحقوق الإنسان!

يُفصّل تقرير الأمم المتحدة هذا، كيف تحقق مئات الشركات الدولية أرباحا مالية طائلة من حرب غزة، هي أحد الأسباب العميقة لاستمرار المذبحة.

هذا التربح من الموت والدمار والمجاعة لا يقتصر فقط على شركات صناعة الأسلحة والذخائر، بل يشمل مصارف وشركات استثمار تموّل الحرب، وكيانات اقتصادية عملاقة، مالية وتكنولوجية وعقارية وسياحية. شركاتٌ تفوق مداخيل كلٍّ منها سنوياً موازنات دول كبرى، وترتبط بها شبكاتٌ معقدة من المصانع والمصالح والشركات التابعة والمؤسسات المالية والتجارية، ومصانع السيارات والآليات في دول مختلفة، ناهيك عن صناديق إدارة الأصول وبعض الصناديق الحكومية الخاصة.

أرباح على أنقاض غزة

يصف تقرير الأمم المتحدة مجازر غزة بأنها "في رعاية هذه الشركات"، واستند التقرير المتقن والممتد على 38 صفحة، والموثق بـ 440 مصدرا ومرجعا وهامشا، الى قاعدة من البيانات تضم 1000 كيان تجاري، استنادًا إلى أكثر من 200 مساهمة غير مسبوقة، وذلك استجابةً لدعوة تقديم المعلومات أثناء إعداد هذا التقرير. وقد ساعدت هذه القاعدة في رسم خريطة لتورط كثير من الشركات حول العالم في انتهاكات حقوق الإنسان وفي جرائم دولية على الأرض الفلسطينية المحتلة. وتم إبلاغ أكثر من 45 شركة مذكورة في التقرير بالوقائع التي دفعت المقررة الخاصة إلى صوغ سلسلة الاتهامات الواردة.

بينما تُمحى الحياة في غزة وتتعرض الضفة الغربية لهجوم متصاعد، يكشف هذا التقرير لماذا تستمر الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل: لأنها مربحة للكثيرين

تقرير الأمم المتحدة

لن ندخل في هذه العجالة بأسماء الشركات والمصارف والمصانع وهي معروفة جدا، وواضحة في التقرير المنشور، ويستطيع كل راغب الاطلاع عليها، لكن اللافت هو الدرك الأخلاقي السحيق الذي بلغته شركات من القطاع الخاص، في وقت تتفاخر تقاريرها السنوية والفصلية في تدبيج الكلام عن حقوق الانسان والحيوان والنبات، وعن الاستدامة والمسؤولية الاجتماعية للشركات.  

يلخص التقرير الجهد الكبير الذي بذلته فرانشيسكا والفريق العامل معها، ويخلص إلى الاستنتاج الآتي: "بينما تُمحى الحياة في غزة وتتعرض الضفة الغربية لهجوم متصاعد، يكشف هذا التقرير لماذا تستمر الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل: لأنها مربحة للكثيرين".

وإذا كان مألوفًا لدى كثيرين ممن عاصروا حروبا طويلة ومدمرة، ما ارتُكِب فيها من المجازر والإبادات، فإن ما يحصل في غزة منذ ما يقرب العامين، وخصوصًا ما يكشفه التقرير بصراحةٍ مذهلة عمّا ترتكبه هذه الشركات، لمّما لا يستوعبه عقل في عصرنا، بعدما وصل هذا التوحشّ الربحيّ الهمجيّ إلى حدٍّ سورياليٍّ غير مسبوق.

يشير التقرير إلى أن الجيش الإسرائيلي استفاد من "أكبر برنامج مشتريات دفاعية على الإطلاق" لطائرات F-35 المقاتلة، التي تنتجها شركة "لوكهيد مارتن"، بالتعاون مع أكثر من 1600 جهة تصنيع في ثماني دول. وكانت إسرائيل أول من استخدم هذه الطائرة في "وضعية الوحش"، والتي تحمل  ثمانية عشر الف رطل من القنابل دفعة واحدة.

شركات شريكة في الإبادة

أصعب ما في الأمر، أن محاسبة هذه الشركات التي ثبت تورّطها في جرائم غزة، لن تكون بالسهولة التي تطالب بها فرانشيسكا وغيرها كثيرون من ناشطي حقوق الإنسان، ليس بسبب نفوذ هذه الشركات فحسب، وارتباط الكثير منها بحكومات ودول أو كيانات عالمية ضخمة وواسعة الانتشار، بل أيضا، بسبب الشبكات المعقدة والمتشعبة التي تقوم عليها هذه الكيانات التجارية والروابط غير الواضحة في كثير من الأحيان بين الشركات الأم والشركات التابعة، والامتيازات، والمشاريع المشتركة، والمرخّصين، والكيانات الأخرى المتورطة. ويظهر التحقيق الكامن وراء التقرير مدى الجهود التي تبذلها الشركات لإخفاء تورطها وتواطئها عبر تلك الشبكات. 

من بين الأنقاض المجبولة بدماء الأطفال والنساء في غزة، هناك شركات تربح ماليا، لكنها مفلسة أخلاقيا وإنسانيا، تفوح من أرباحها رائحة الموت، وتعكس خواء العالم من العدالة والرحمة

في خلاصة تقرير الأمم المتحدة، بارقة أمل في ظل هذين الموت والعجز، اذ يقول: "إن التواطؤ الذي كشفه هذا التقرير ليس سوى غيض من فيض؛ ولن يتم إنهاؤه من دون محاسبة القطاع الخاص، بمن في ذلك مسؤولوه التنفيذيون". ويشير الى أن "القانون الدولي يقر بدرجات متفاوتة بالمسؤولية – التي تتطلب كل منها التدقيق والمساءلة، لا سيما في هذه الحالة، حيث يكون تقرير مصير شعب ما ووجوده على المحك. وهذه خطوة ضرورية لإنهاء الإبادة الجماعية وتفكيك النظام العالمي الذي سمح بها".

تقارير النفاق والاستدامة

من بين الأنقاض المجبولة بدماء الأطفال والنساء في غزة، وصرخات الناجين، هناك شركات تربح ماليا، لكنها مفلسة أخلاقيا وإنسانيا، تفوح من أرباحها رائحة الموت، وتعكس خواء العالم من العدالة والرحمة. 
إن مسؤولية هذه الشركات أساسية في استمرار القتل، كما يفند تقرير الأمم المتحدة، وقد دمّر استمرارُ دعمها المالي لاسرائيل مستقبل أجيالٍ فلسطينية بكاملها. 

إن حفنةً من تقارير النفاق والاستدامة والحوكمة الاجتماعية والبيئية للشركات التي تدّعي الحرص على موارد الكوكب لن تعزّي أحدًا، ولن تمسح نقطة دم واحدة أريقت على الأرض الفلسطينية القتيلة.

يشكّل تقرير الأمم المتحدة شهادةً للتاريخ، وبصيص أملٍ لنا ولعالمٍ أكثر عدلاً وإنسانية، ومدعاة فخرٍ لأحفاد فرانشيسكا ألبانيزي. 

سلِمت يداكِ سيدتي الإيطالية.

font change