فيلق الاستثمارات السعودي في دمشق

الرياض مصممة على إعادة إعمار سوريا وتحقيق السلام والوئام بين أبنائها

فيلق الاستثمارات السعودي في دمشق

استمع إلى المقال دقيقة

لم تنج دولة غرقت في الحروب والصراعات بالاتفاقات السياسية والعسكرية قط، فالنجاة الحقيقية للشعوب لا تتحقق إلا بالنهوض الاقتصادي، القائم على العدالة وبناء المؤسسات الوطنية والقضاء على الفساد. ولا يتحقق الازدهار بقوة السلاح، بل بصوغ أولويات الدول والمجتمعات، وانتاج بيئة من الاستقرار والفرص، تُضعف جذور العنف والصراعات.

بعد الحرب العالمية الثانية، لم تكن المصالح السياسية وحدها وراء استقرار أوروبا، بل كان تعافي الاقتصاد و"مشروع مارشال" وإعادة بناء المدن وفتح الأسواق، وتغليب العلم والثقافة والصحة والمصلحة الاقتصادية العليا للشعوب على الاعتبارات الإيديولوجية الضيقة.

لم تتجاوز البلدان والدول، من رواندا الى كولومبيا وكوريا الجنوبية، ندوب حروبها الداخلية، إلا بعد فتح باب إعادة الإعمار والاستثمارات وتوفير فرص العمل والنمو. ولم تندمل جروح الإبادة الجماعية في رواندا عبر المحاكمات فقط، بل بتحقيق النمو الاقتصادي وفتح آفاق العمل أمام الشباب.

في لبنان لم يكن اتفاق الطائف عام 1989، كافياً وحده لضمان السلم الأهلي. بل إن مرحلة الرئيس الشهيد رفيق الحريري في التسعينات خير مثال حديث، لمعرفة ما قبله، وما بعده، والدَرَك السحيق الذي لا تزال تتخبط به بلاد الأرز اليوم، ومؤشرات نسب الفقر والنمو وفرص العمل خير شواهد.

من الواضح ان مخاض الحلول السياسية في سوريا لن يكون يسيرا، لكن حظوظ بناء مصالح اقتصادية مشتركة على الأرض، بين أبناء المناطق المختلفة، ستشجّع على التعاون بدلاً من التصادم، وعلى تبادل السلع والخدمات بدل التراشق بالرصاص

ورثت سوريا اليوم مناطق منقسمة لا تخضع لنفوذ الدولة تماما، ومناطق أخرى للأكراد في الشمال الشرقي، ومنطقة ذات خصوصية درزية في الجنوب، وهي كلها مناطق أنهكتها النزاعات، وسرقها وعذبها نظام بائد، وانهارت فيها البنى التحتية للاقتصاد والصحة والتعليم. 

من الواضح أن مخاض الحلول السياسية لن يكون يسيرا، لكن حظوظ بناء مصالح اقتصادية مشتركة على الأرض، بين أبناء المناطق المختلفة، ستشجّع على التعاون بدلاً من التصادم، وعلى تبادل السلع والخدمات بدل التراشق بالرصاص. لغة الاقتصاد تساهم في اسقاط الحواجز الداخلية النفسية، وهي لغة قادرة على لعب دور استراتيجي في إقناع الجميع بالجلوس إلى طاولة الوفاق الوطني السياسي والأمني والاقتصادي والاجتماعي. 

الكلام الفصل في المستقبل الاقتصادي لسوريا

من هنا، وبتوجيه من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، جاء إنزال "فيلق الاستثمارت السعودي" للتدخل السريع في مطار دمشق قبل يومين، لينعقد "المنتدى الاستثماري السوري السعودي"، وليقال الكلام الفصل في المستقبل الاقتصادي لسوريا: "عندنا ثقة بأن السوريين سينهضون باقتصاد البلاد، والضمانات والشفافية مهمة، وهي عوامل مشجعة للاستثمار، والمنتدى سيكون شرارة استثمارات قادمة الى دمشق"، على ما صرح وزير الاستثمار السعودي خالد الفالح الذي رأس وفدا من مئة وعشرين من رجال الأعمال السعوديين الكبار، شاركوا في "المنتدى الاستثماري السوري السعودي"، وأعلن التزام استثمارات فورية في سبعة وأربعين مشروعا، قيمتها ستة مليارات و400 مليون دولار، أو ما يوازي 50 الف فرصة عمل جديدة.

لا ريب أن المبادرة السعودية، خطوة استراتيجية تعكس الدور المحوري للمملكة في دعم استقرار سوريا وإعمارها. وهي تحمل رسائل تنطوي على رؤية تنموية متكاملة للقاصي والداني، وتذكّر المتغافلين بتصميم السعودية على إعادة إعمار سوريا وتحقيق السلام والوئام بين أبنائها

لا ريب أن المبادرة السعودية الجديدة، خطوة استراتيجية تعكس الدور المحوري للمملكة في قيادة الجهود العربية والدولية نحو دعم استقرار سوريا وإعادة إعمارها. وهي تحمل رسائل تنطوي على رؤية تنموية متكاملة للقاصي والداني، وتذكّر المتغافلين بتصميم السعودية على إعادة إعمار سوريا وتحقيق السلام والوئام بين أبنائها.

ثلثا السوريين تحت خط الفقر

يئن معظم الشعب السوري من فقر مدقع، وبطالة مُتفَشية بين الشباب والشابات، ولا فرق بين أكثرية وأقلية. لقد خلّف النظام الأسدي من الأب الى الإبن الفار، جراحا عميقة، ونموا تحت الصفر ودمارا هائلا. 

لقد أظهر تقرير حديث للبنك الدولي صدر هذا الشهر، انكماش الناتج المحلي التراكمي بأكثر من 50 في المئة منذ عام 2010، وانخفض نصيب الفرد من الدخل القومي الإجمالي إلى 830 دولاراً أميركياً فقط في 2024، ويطال الفقر المدقع حالياً واحدا من كل أربعة سوريين، في حين يعيش ثلثا السوريين تحت خط الفقر.

لربما تشكل لغة الأرقام والاقتصاد مفتاحا لإقناع الجميع بأن طريق البقاء لا يمر عبر البندقية، بل بالتقاط المِعول والفُرصة السعودية والدولية التاريخية المتاحة.

الشراكة الاقتصادية هي الشراكة المستدامة

لعل من أبلغ ما سمعته، عن بُعد، خلال أعمال "المنتدى الاستثماري السوري السعودي"، هو ما أورده رئيس مجلس الأعمال السعودي-السوري، ومؤسس ورئيس مجلس ادارة "أكوا باور" محمد أبونيان في ختام أعمال المنتدى، إذ قال في كلمات خرجت من القلب:

"نحن سنقدم وسنقدم، بالأفعال وليس بالكلام... المشاريع المعلنة اليوم هي مجرد "حزمة بسيطة من القادم"، ونحن "نتطلع في المستقبل الى شراكات مع إخواننا السوريين، الى عمل مشترك في كل القطاعات، ونحن شركاء ولسنا تجارا، أي ليس على المدى القصير، ولا نتطلع الى العائد الاستثماري كرقم، نحن ننظر الى شراكة استراتيجية دائمة". واستشهد بما يقول ولي العهد السعودي إن "الشراكة الحقيقية هي في الشراكة الاقتصادية، الشراكة السياسية مهمة، ولكن الاقتصادية أعمق وهي التي تستدام".

لا شك أن الكرة الآن في الملعب السوري الذي يحتاج إلى كسب ثقة المستثمرين والقطاع الخاص، وخصوصا رجال الأعمال والأطباء السوريين الناجحين في مختلف أصقاع الارض. وذلك من خلال توفير بنية قانونية حديثة وشفافة، لحماية أعمالهم من الفساد، ووقف السياسات العشوائية، وإشراك الجميع في عملية الإدارة والتنمية والإصلاح والبناء.

إن توحيد الجهود حول الرؤية الاقتصادية السعودية السورية الشاملة هو بوابة عريضة للخروج من "باب الحارة" والدخول في فضاء الذكاء الاصطناعي والعيش الكريم وإنهاء نصف قرن من الآلام... فالسلاح يفقد بريقه عندما يُتاح للناس ما هو أكثر جدوى وكرامة

لا يختلف اثنان في أن الاقتصاد والنمو يحتاجان إلى وحدة البلاد، وتكامل مقوّمات سوريا من ثروات نفطية وزراعية وسياحية.

لا شيء ينقص سوريا

لا شيء ينقص تجّارَ دمشق، وصناعيّي حلب، ولا مزارعي الأرياف من سهل الغاب الخصيب في حماة إلى حقول القطن في الحسكة وزيتون إدلب، وحرفيي حمص، وأهل الزيت وكروم العنب في السويداء، والحبوب في حوران، وقمح الجزيرة في الشمال الشرقي، وسكان الساحل وصيّادي اللاذقية وطرطوس، وخبراء التعليم والصحة من أبناء ريف دمشق، وعمال النفط في الرميلان ووادي الفرات… 

لا ينقص كلّ هذه الديموغرافيا والموارد شيءٌ للنهوض بسوريا الحرّة الكريمة.

لا ريب إن توحيد الجهود حول الرؤية الاقتصادية السعودية السورية الشاملة هو بوابة عريضة للخروج من "باب الحارة" والدخول في فضاء الذكاء الاصطناعي والعيش الكريم وإنهاء نصف قرن من الآلام ... فالسلاح يفقد بريقه عندما يُتاح للناس ما هو أكثر جدوى وكرامة.

font change