مواجهة عسكرية للملف الكردي خارجياً وإغلاقه داخلياً

أردوغان مستمر في السلطة

Reuters
Reuters

مواجهة عسكرية للملف الكردي خارجياً وإغلاقه داخلياً

نظرا إلى موقع تركيا الجيوسياسي وارتباطه بتاريخها وتأثيرها الدائم على المسألة الكردية، داخلياً وفي مختلف دول الإقليم، فإن إعادة انتخاب الرئيس رجب طيب أردوغان لولاية رئاسية ثالثة، مدتها خمس سنوات، ستكون ذات تأثير بالغ على مسارات ومصائر المسألة الكردية في المنطقة، بمختلف ملفاتها وأماكن انتشارها؛ فالمسألة الكردية ظلت على الدوام متداخلة ومتشابكة ومتأثرة بالسلطة/الحاكم لتركيا ونوعية توجهاته الإقليمية وسياساته الداخلية وخياراته الدولية، بل إن التاريخ الشخصي والسيرة السياسية للشخص والحزب الحاكم لتركيا كانت ذات تأثير جوهري على هذا الملف الضخم، المسألة الكردية.

راهناً، تتفرع المسألة الكردية بالنسبة لتركيا إلى أربعة ملفات متداخلة مع بعضها، لكنها تشكل في مجموعها لوحة واحدة، مؤثرة ومتأثرة تماماً بخيارات حاكم تركيا، الذي لا يستطيع بدوره إلا أن يتعامل مع كل تفصيل منها، فالمسألة الكردية من القضايا النادرة التي تمس الأمن القومي التركي دوما.

Reuters
وصول الناخبين الى احد مراكز الاقتراع في ديار بكر في 28 مايو

هذه الملفات الأربعة تبدأ من البعد السياسي والهوياتي الداخلي للمسألة الكردية في تركيا، وتمر بالمواجهة العسكرية التي تخوضها تركيا ضد مقاتلي حزب العمال الكردستاني (PKK) في المنطقة الجبلية بين تركيا وإقليم كردستان في العراق، وحتى منطقة سنجار غرب محافظة الموصل العراقية، وتتكثف في شكل مجابهة تركيا للحضور السياسي والعسكري الكردي في سوريا، الممثلة في الإدارة الذاتية لشمال شرقي سوريا وقوات سوريا الديمقراطية، ولا تنتهي بتفاصيل العلاقة بين تركيا وإقليم كردستان الفيدرالي في العراق. وثمة بعض المراقبين يرصدون نوعاً خاصاً من التعاطي السياسي والاستخباراتي التركي مع الجالية الكردية في الدول الأوروبية.

المسألة الكردية ظلت على الدوام متداخلة ومتشابكة ومتأثرة بالسلطة/ الحاكم لتركيا ونوعية توجهاته الإقليمية وسياساته الداخلية وخياراته الدولية

من حيث المبدأ، يشكل فوز أردوغان مجدداً إعلاناً لوضع نهاية للقراءات والرؤى التي توسعت خلال الشهور الماضية والتي كانت تتوقع هزيمة برلمانية ورئاسية لأردوغان وحزب العدالة والتنمية، وتالياً توقع حدوث انفتاح وتحول نوعي في الملف الكردي داخل تركيا. بعد توقف أي تطور خاص بها منذ العام 2015، حين رفض حزب الشعوب الديمقراطي "الكردي" القبول بمشروع الرئيس أردوغان وقتئذ، للتحول من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، وانتهاء المفاوضات بين السلطة وحزب العمال الكردستاني في العاصمة النرويجية أوسلو. بل ودخولها مرحلة "كسر عظم سياسي"، بعد تحالف الرئيس أردوغان مع حزب الحركة القومية (المتطرف) منذ ذلك الوقت؛ فالمسألة الكردية لن تُحل، أو تُناقش، ضمن البرلمان التركي في الأفق المنظور، كما كانت تعد قوى المعارضة التركية، كمقابل لتأييد الأكراد لمرشحها في الانتخابات الرئاسية كمال كليشدار أوغلو. 

لن يحدث ذلك، في ظل بقاء أردوغان في سدة الرئاسة، واستحواذ حزب العدالة والتنمية الحاكم، مع حليفه حزب الحركة القومية على الأغلبية البرلمانية الواضحة، مقابل تراجع المقاعد التي كانت لحزب الشعوب الديمقراطي، من 67 مقعداً إلى 61 مقعدا، وخسارته لقرابة 1.5 مليون من أصوات مؤيديه، وإن بقي محافظاً على الأغلبية السياسية والانتخابية في عموم المناطق ذات الأكثرية الكردية. ففي المحصلة، خسرت الأحزاب والقوى السياسية الكردية أمام تحدي الرئيس أردوغان وإصراره على مواجهة تحالفها مع قوى المعارضة. مقابل صعود واضح للقوميين الأتراك، سواء في معسكر السلطة أو المعارضة.  


في الإطار نفسه، فإن المعتقلين السياسيين الأكراد، المقدرين بقرابة 15 ألف معتقل، وعلى رأسهم زعيم حزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين دميرتاش، لن يحصلوا على أي إفراج قريب، كما كانت قوى المعارضة قد تعهدت، وسيبقون في السجون لإتمام كامل المدة التي حُكِموا بها، كما توعدهم الرئيس أردوغان أكثر من مرة. التفصيل نفسه ينطبق على أكثر من 77 ألف موظف كردي، فصلوا من وظائفهم الحكومية خلال الأعوام الماضية، بعد اتهامهم بـ"موالاة" حزب العمال الكردستاني (PKK). 

مجموع الأمرين سيعني أن المسألة الكردية داخل تركيا ستبقى مغلقة في الأفق المنظور، وأن مزيداً من الاستقطاب والمواجهة والعنف سيصيبها، بما في ذلك استبعاد الفائزين الأكراد عن البلدات والمجالس المناطقية، كما كان يفعل الرئيس أردوغان طوال عقد كامل مضى، حتى لو فاز أعضاء الأحزاب الكردية في الانتخابات المحلية المقررة في العام القادم. سيحدث ذلك غالباً، وقد يصل الأمر إلى إمكان حدوث مواجهة مباشرة في الشارع؛ فالسلوك العمومي للرئيس أردوغان يوحي بأنه ذاهب لدعم القوى الكردية الموالية له بشكل واضح وقوي وبأي ثمن، بما في ذلك حزب "الدعوة الحرة"، المتهم بتنفيذ عمليات اغتيال وعنف بحق القادة السياسيين الأكراد. لخلق تيار سياسي كردي "إسلامي"، بديل عن القوى السياسية الكردية الرئيسة، التي قررت التحالف مع حزب الشعب الجمهوري.

 يشكل فوز أردوغان مجدداً إعلاناً لوضع نهاية للقراءات والرؤى التي توسعت خلال الشهور الماضية والتي كانت تتوقع هزيمة برلمانية ورئاسية لأردوغان وحزب العدالة والتنمية

مدفوعاً بنوع التحالف الذي يجمعه مع حزب الحركة القومية "المتطرفة"، وكتأكيد على التزامه بالخطاب القومي المتشدد الذي تبناه لسنوات، فإن الرئيس أردوغان سيندفع نحو المزيد من المواجهة العسكرية مع القوى الكردية المسلحة، سواء ضد حزب العمال الكردستاني في المناطق الجبلية الوعرة بين تركيا والعراق، أو مع قوات سوريا الديمقراطية في سوريا، أو ضد مقاتلي "وحدات حماية شنكال" في منطقة سنجار غربي مدينة الموصل العراقية. 

 تصعيد عسكري ضد الأكراد في العراق

طبعاً ستختلف تلك المواجهة العسكرية بين منطقة وأخرى، حسب الواقع الجيوسياسي لكل منها، وإن كانت المواجهة في كل واحدة منها تعني انتفاء إمكانية إيجاد حلول غير صفرية بين تركيا وتلك القوى الكردية المسلحة. 

في المناطق الحدودية بين تركيا والعراق، سيسعى أردوغان لتثبيت خطته القائمة على خلق "مساحة آمنة" داخل أراضي إقليم كردستان، لمواجهة مقاتلي حزب العمال الكردستاني، ومنعهم من الاستفادة من المناطق الجغرافية الوعرة في تلك المنطقة، في سلسلة جبال متينا وخواكورك وزاب وقنديل، ومعها تكثيف مستمر لعمليات قصف المقاتلين عبر الطائرات المسيرة، للحد تماماً من قدرتهم على التحرك أو شن هجمات داخل تركيا، كما كانت تفعل بشكل تقليدي، وتقديم ذلك للداخل التركي كحل نهائي في مواجهة الحركة الكردية المسلحة، حيث لم يستطع أي زعيم سياسي تركي سابق من تفكيكها. 

الأمر نفسه سينطبق على المقاتلين الأكراد في منطقة سنجار، المقدرين بنحو 15 ألف مقاتل، والذين يسيطرون فعلياً على بقعة جغرافية واسعة من الحدود الشمالية للعراق مع سوريا، والذين يتعرضون لهجمات دورية من قِبل الطيران التركي؛ فبالإضافة لاستمرار تلك الضربات الجوية، سيحدد الرئيس أردوغان دعوته إلى إعادة الحكومة المركزية العراقية لسيطرتها على كامل منطقة سنجار، وتفكيك تنظيمات "وحدات حماية شنكال"، كشرط أولي ودائم، لأي تعاون من قِبل تركيا مع العراق في ملفي المياه وتصدير النفط والغاز عبر ميناء جيهان التركي. 

ليس من إشارات واضحة حول إمكان كبح ذلك الجموح العسكري التركي المتوقع، خلا بعض الترتيبات التي قد تقوم بها إيران لصالح هذه القوى الكردية المسلحة، خصوصاً في منطقة سنجار، لحفظ نوع من التوازن الإقليمي بينها وبين تركيا.
 

 في المناطق الحدودية بين تركيا والعراق، سيسعى أردوغان لتثبيت خطته القائمة على خلق "مساحة آمنة" داخل أراضي إقليم كردستان، لمواجهة مقاتلي حزب العمال الكردستاني

الأمر نفسه قد تقوم به الولايات المتحدة الأميركية في سوريا، وبشكل أكثر صرامة. فتوسع عمليات القصف التركية ضد مقاتلي قوات سوريا الديمقراطية، كما سيفعل أردوغان في المستقبل المنظور، سيكون محل رفض أميركي واضح، لأنه سيكون لصالح تمدد النظام السوري إلى تلك المنطقة، وتالياً تفكيك المشروع والمشاركة الأميركية الوحيدة الباقية في الملف السوري. 

تعقيد في التعاطي مع أكراد سوريا

لكن فوز أردوغان في الانتخابات عامل معزز لاستمرار التعاطي الصفري من قِبل تركيا مع المسألة الكردية في سوريا، عبر قراءة مبسطة ومغلقة، تمارسها منذ عدة سنوات، تعتبر قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية لشمال شرقي سوريا امتداداً لحزب العمال الكردستاني، وتالياً فعل كل شيء من أجل تحطيم تلك التجربة، بما في ذلك دعم الجماعات السورية الأكثر تطرفاً، وتنفيذ حروب ماحقة أكثر من مرة، وحتى التفاوض مع النظام السوري والتطبيع معه، فقط في سبيل ذلك. 

AP
مسؤولو مراكز الاقتراع ينتظرون دورهم لتسليم النتائج امام مقر لجنة الانتخابات العليا في ديار بكر في 28 مايو

برود خطاب أردوغان تجاه اللاجئين السوريين خلال الأسبوعين الفاصلين بين جولتي الانتخابات الرئاسية، وتأكده من الفوز بأغلبية برلمانية واضحة، وتراجع نبرة طلبه لقاء الرئيس السوري بأي ثمن، دليل واضح على الطبيعة المؤقتة لتلك السياسات التقاربية التي اتخذها خلال الشهور الماضية مع النظام السوري، وتالياً إمكانية وضعه لعدد من الشروط الجديدة أمام النظام السوري في سبيل التطبيع معه، وعلى رأسها بذل المزيد من الجهد المشترك لتقويض المشروع الكردي في سوريا. 

فوز أردوغان في الانتخابات عامل معزز لاستمرار التعاطي الصفري من قِبل تركيا مع المسألة الكردية في سوريا

ستسير علاقة تركيا مع إقليم كردستان العراق على ما كانت عليه تقليدياً: مزيج من التعاطي الإيجابي مع الحذر من إمكانية تطور غير منضبط للإقليم عسكرياً وسياسياً وحتى اقتصادياً. 

تنظيم العلاقة مع كردستان

صحيح، تملك تركيا روابط ومصالح اقتصادية واسعة ضمن الإقليم، وتعتبر بوابتها البرية الأكثر حيوية لتصدير البضائع والمصنوعات التركية، لكن ثمة أربعة ملفات خلافية شديدة الحساسية بين الطرفين، سيسعى الرئيس أردوغان لاستخدام علاقته والثقة المتبادلة التي يحملها مع كثير من الزعماء السياسيين الأكراد في كردستان لتفكيكها؛ فملف العلاقة بين حزب العمال الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني لا بُد من تفكيكه وإيجاد حل له، والاتحاد الوطني هو الحزب الرئيس الثاني في الإقليم وشريك في السلطة الحاكمة للإقليم. يملك الاتحاد الوطني رغبة إيجابية في تفكيك الملفات العالقة مع تركيا، كما علمت "المجلة" من مصدر قيادي رفيع من الاتحاد الوطني، لكن الاتحاد لا يقبل بفرض الإرادة والاتهامات التركية دون قرائن واضحة، كما قال المصدر عينه. وهو أمر يجب التعامل معه كقضية تخص كل إقليم كردستان، وليس كمزاحمة بين تركيا والاتحاد الوطني الكردستاني فحسب. 

Reuters
اثناء الانتخابات البرلمانية في 14 مايو في ديار بكر

كذلك فإن الإقليم يطالب تركيا بإيجاد حل ما للمواجهة المسلحة بين الجيش التركي ومقاتلي حزب العمال الكردستاني على أراضيه. الأمر الذي يؤثر على الإقليم سياسياً وبيئياً وديموغرافياً بشكل استثنائي. لم تعد الوساطات التي بذلها الإقليم بين تركيا والمقاتلين الأكراد متوفرة راهناً، مثلما كان يفعل طوال السنوات 2008-2015، لكن التموضع العسكري الراهن للطرفين ضمن أراضي الإقليم عامل ضغط شديد عليه. ولأجل ذلك، سيسعى قادة الإقليم لاستخدام كل نفوذهم في سبيل دفع الرئيس أردوغان للتخفيف من المواجهة العسكرية ضد حزب العمال الكردستاني ضمن أراضي الإقليم، وإيجاد مسارات أخرى للتعاطي مع هذا الملف. 


الملفان الاقتصادي والبيئي/المائي يأتيان ضمن نفس السياق، وإن كانت تركيا تفضل أن يكونا جزء من الاستراتيجية التركية الكلية تجاه العراق، وعبر الحكومة المركزية. فهما عاملا ضغط يمكن للطرفين أن يتبادلانه. فمثلما تستشعر تركيا ضعفاً عراقياً في ملف المياه، بسبب زيادة التصحر وتأثيرات التغير المناخي على العراق، فإن الملف الاقتصادي، بالذات من زاوية تصدير النفط لتركيا وعبرها، سيكون محل حاجة شديدة من الرئيس أردوغان، الذي يتوقع المراقبون أن يواجه أزمة اقتصادية مرتقبة في الأفق المنظور. 
 
 

font change

مقالات ذات صلة