صوت الأكراد في انتخابات تركيا: إلتزام بتحالفات أحزابهم وانتقال جذري للمعارضة

الأكراد أغلبية سكانية في 15 ولاية جنوب شرقي تركيا على الحدود مع سوريا والعراق وإيران

Reuters
Reuters
مؤيدو حزب العدالة والتنمية يحتفلون بفوز اردوغان في الانتخابات الرئاسية في اسطنبول

صوت الأكراد في انتخابات تركيا: إلتزام بتحالفات أحزابهم وانتقال جذري للمعارضة

حسب النتائج النهائية للجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية التركية، لم تختلف السمة العامة للسلوك الانتخابي الكردي، في جنوب شرقي البلاد، مركز الغالبية السكانية الكردية المطلقة، وفي المدن المركزية، حيث تعيش كتلة سكانية كردية كبيرة، لم تختلف عما كانت عليه تقليدياً؛ إذ بقيت النسبة الأكبر منها تصوت حسب التوجيهات والتحالفات السياسية لحزب الشعوب الديمقراطي "المؤيد للأكراد"، بقرابة ثلثي مجموع الأصوات، فيما ظل الرئيس رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية يتمتعان بنفوذٍ ما ضمن الأوساط الشعبية الكردية، المحافظة منها خصوصا.

يشكل الأكراد أغلبية سكانية مطلقة في 15 ولاية جنوب شرقي تركيا، على طول الحدود التركية مع كل من سوريا والعراق وإيران، وثمة أحياء وكتل سكانية كردية كبيرة في المدن المركزية في البلاد، العاصمة أنقرة ومدن إسطنبول وأزمير وميرسين وأضنة.

ولا توجد إحصاءات رسمية عن حجم كتلة المصوتين الأكراد أو نسبتهم من مجموع الناخبين في تركيا. لكن بعض الحسابات التقديرية، عبر جمع مجموع الأصوات التي حصل عليها حزب "اليسار الأخضر"، الممثل للحركة القومية الكردية في آخر انتخابات برلمانية، والتي بلغت قرابة 5 ملايين صوت، مع ما يقارب نصف تلك الأصوات من الذين صوتوا لحزب العدالة والتنمية وباقي الأحزاب المتحالفة معه في المناطق ذات الأغلبية الكردية، ومعهم أعداد قريبة لذلك، من الذين قاطعوا الانتخابات، يُستدل منها على أن الكتلة الكردية الناخبة تبلغ قرابة 10 ملايين صوت، من أصل 64 مليون صوت، مما يجعلها تشكل 15.6 في المئة من مجموع الناخبين، تقريباً.

الرئيس رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية يتمتعان بنفوذ ما ضمن الأوساط الشعبية الكردية، خصوصا المحافظة منها


حسب النتائج التفصيلية، حصل مرشح المعارضة كمال كليشدار أوغلو على 5.6 مليون صوت كردي، من أصل 25.4 مليون صوت هي اجمالي ما حصل عليه، أي إن قرابة 20 في المئة من أصوات مرشح المعارضة كانت من البيئة الكردية، وبفضل الدعم الذي ناله من حزبي الشعوب الديمقراطي واليسار الأخضر، الممثلان للتطلعات القومية.

دعم غير حاسم للمعارضة


ونال الرئيس أردوغان قرابة نصف عدد تلك الأصوات من المناطق ذات الغالبية الكردية، والمدن المركزية الكردية. لكن المراقبين أشاروا إلى أن تلك النسبة التي ظل الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية محافظين عليها في الأوساط الكردية، كانت كافية لتأمين فوزه في الانتخابات، مشيرين مثلاً إلى ولاية أورفا، جنوب شرقي البلاد، ذات الغالبية السكانية الكردية، حيث حصل الرئيس أردوغان على 610 آلاف صوت، مقابل 330 ألف صوت لمرشح المعارضة، وهي أصوات في ولاية واحدة، شكلت قرابة 25 في المئة من أصل 2.6 مليون صوت، هو فارق الأصوات بين المرشحين المتنافسين. 


ومن بين 15 ولاية ذات أغلبية سكانية كردية، حصل مرشح المعارضة على الأغلبية في 12 ولاية منها، لم تقل تلك الأغلبية عن 70 في المئة في أكثر تلك الولايات، فيما وصلت في ولاية تونجلي "ديرسم" الكردية إلى نسبة قياسية 82.9 في المئة.  وحصل الرئيس أردوغان على الأكثرية في ثلاث ولايات فقط ذات أغلبية كردية، هي أورفا وآديمان وبينغول.


وقد صوتت مراكز الثقل السياسي والثقافي الكردية الأساسية في تركيا لصالح مرشح المعارضة. في ولايات ديار بكر ووآن وماردين، وبقيت الكتلة الكردية الناخبة الى جانب توجهات الأحزاب الكردية؛ ففي ديار بكر حصل مرشح المعارضة على نسبة 71.6 في المئة من مجموع أصوات الناخبين، وفي ولاية وآن على 61.5 في المئة، وفي ماردين 65.2 في المئة.

وهذه هي المراكز الحضرية والمدنية التي ظل الرئيس أردوغان يهدد الأحزاب الكردية بإخراجها منها سياسياً وانتخابياً، وبذل الكثير من الجهود في سبيل تحقيق هذا الأمر: تحالف من جهة مع حزب "الدعوة الحرة"، الجناح السياسي المحدث لـ"حزب الله الكردي"، المتهم بتنفيذ كثير من الجرائم ضد المدنيين في التسعينات من القرن المنصرم، وصرف ميزانيات مالية ضخمة لصالح رجال أعمال وقادة رأي مقربين منه، خصوصا من رجال الدين وزعماء عشائر في أرياف تلك الولايات. لكنه لم ينجح في تحقيق غايته، إذ بقيت الأكثرية المطلقة من القواعد الاجتماعية تصوّت لصالح الأحزاب "الكردية".

AFP
الرئيس اردوغان يعلن فوزه امام مؤيديه في اسطنبول


الأمر نفسه صح على المدن الرئيسة التي تحوي مجتمعات كردية كبيرة، مهاجرة من مناطقها بسبب الفقر والأحداث الأمنية منذ التسعينات، في العاصمة أنقرة ومدن إسطنبول وأزمير وأضنة وميرسين. تقليدياً، كانت قوى الإسلام السياسي تسيطر على أصوات الناخبين في تلك المدن منذ 30 عاماً (باستثناء أزمير)، لكنها صارت مدناً تعطي غالبية أصواتها لمرشح المعارضة، بسبب السلوك الانتخابي للمجتمعات الكردية فيها، المنعكس عن التوجيهات التي تلقتها من الأحزاب الكردية. 


لكن النقطة الأبرز كانت في حفاظ القواعد الاجتماعية والشعبية الكردية على كثافة مشاركتها في الجولة الثانية من الانتخابات، على الرغم من كل التوقعات التي كانت تشير إلى عكس ذلك، بسبب "الهزيمة" التي منيت بها قوى المعارضة في الانتخابات البرلمانية مؤخرا. وبالتالي تراجع زخم فكرة إلحاق هزيمة بالرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية، وخفتت نوعية الخطاب التصالحي والإيجابي لمرشح المعارضة تجاه المسألة الكردية في البلاد. 


وفي مختلف الولايات ذات الأغلبية الكردية لم تقل نسبة المشاركة عن 75 في المئة من مجموع الذين يحق لهم التصويت، وهو أمر عزاه المراقبون إلى إلحاح الحزبين الكرديين على الناخبين للتصويت بحماس وكثافة، لإحداث تغيير ما في الانتخابات الرئاسية، بعد خسارة الانتخابات البرلمانية.  

من بين 15 ولاية ذات أغلبية سكانية كردية، حصل مرشح المعارضة على الأغلبية في 12 ولاية منها، لم تقل تلك الأغلبية عن 70 في المئة في أكثر تلك الولايات


وحسب المحصلة الكلية لهذه النتيجة، فمن المفترض أن تكون الهوة السياسية والنفسية والآيديولوجية بين حزب الشعب الجمهوري، الممثل التاريخي للأفكار والتوجهات القومية الأتاتوركية، ومعه عدد من أحزاب المعارضة التركية القومية، وبين الأحزاب الممثلة للتطلعات القومية الكردية قد ردمت، ولو نسبياً؛ فالأكراد حافظوا على تعهدهم بدعم مرشح المعارضة في كل حال، رغم عدم حصولهم على أية تعهدات واضحة بإيجاد حلٍ لمسألتهم القومية في تركيا، خلا بعض التفاصيل الجزئية، مثل إطلاق سراح المعتقلين السياسيين ومناقشة المسألة الكردية تحت قبة البرلمان. 

توترات بين جولتي الانتخاب


كذلك حافظت الأحزاب الكردية على تعهداتها، بالرغم من التوتر الذي أصاب علاقة حزبي الشعوب الديمقراطي واليسار الأخضر "الكرديين" مع حزب الشعب الجمهوري ومرشح المعارضة كمال كليشدار أوغلو قبل أيام قليلة من الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية، بسبب الخطاب القومي المتشدد الذي أثاره كليشدار أوغلو خلال الأسبوعين الماضيين، وذهابه إلى حد التحالف العلني مع "حزب النصر" القومي المتطرف، وحصوله على دعم زعيم الحزب المتطرف أوميت أوزداغ. 

Reuters
زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كيلشدار اوغلو يتحدث الى انصاره في أنقرة


بعد تلك الحادثة، أصدر المكتبان السياسيان للحزبين "الكرديين" بياناً مشتركاً، أشارا فيه إلى بروز نزعات وخطابات غير مطابقة للقيم والمبادئ الديمقراطية، صارت تصدر عن مرشح المعارضة كمال كليشدار أوغلو، مؤكدين أنهما سيوضحان رأيهما النهائي بشأن الجهة التي سيدعمانها في الجولة الثانية من الانتخابات بعد عدة أيام. 


خلال تلك الفترة، جرت اتصالات مكثفة بين قياديين من حزب الشعب الجمهوري وقيادة حزب الشعوب الديمقراطي، حسبما علمت "المجلة" من مصدر رفيع من قيادة حزب الشعوب. شرح حزب الشعب الجمهوري خلالها الدوافع التي أجبرته على التواصل والتوافق مع حزب النصر وشخص أوميت أوزداغ، خصوصاً بعد إعلان المرشح الثالث في جولة الانتخابات الرئاسية الأولى سنان أوغان عن دعمه للرئيس أردوغان. 


وعاد حزبا الشعوب الديمقراطي واليسار الأخضر وأعلنا دعمهما لمرشح المعارضة، داعين القواعد الاجتماعية والشعبية الكردية إلى التصويت لصالح مرشح المعارضة، طالبين منهم المشاركة بكثافة. وقد أنخرط الحزبان في حملة دعائية وترويجية لصالح المرشح كليشدار أوغلو. وهو ما كان محل تقدير من قِبل قيادة حزب الشعب الجمهوري، والكثير من أعضاء النخبة الثقافية والفكرية والسياسية التركية، الذين ثمنوا امتثال الحزبين لتعهداتهما، رغم كل الهفوات.  


 

 أصدر المكتبان السياسيان للحزبين "الكرديين" بياناً مشتركاً، أشارا فيه إلى بروز نزعات وخطابات غير مطابقة للقيم والمبادئ الديمقراطية، صدرت عن مرشح المعارضة كمال كليشدار أوغلو

حسب مشهد الخريطة السياسية الكلية في تركيا راهناً، وبعد تقلص فوارق الدعم الشعبي بين قوى المعارضة والتحالف الحاكم إلى ما دون الـ3 في المئة، فإن ثمة كتلتين جغرافيتين/شعبيتين تقسمان تركيا بشكل عمودي واضح: واحدة للمعارضة، تضم كافة المناطق الساحلية في جنوب وغرب البلاد، ومعها العاصمة أنقرة وكامل الولايات ذات الأغلبية السكانية الكردية، جنوب شرقي البلاد، تقابل كتلة أخرى مؤيدة للسلطة والرئيس أردوغان، متمركزة في الوسط الأناضولي وعلى سواحل البحر الأسود. 


تحالفات مستقبلية


 وعلى الأقل ثمة ثلاثة استحقاقات رئيسة خلال عام واحد، ستتضح خلالها كيف يمكن لقوى المعارضة التركية، وعلى رأسها حزبا الشعب الجمهوري "الأتاتوركي"، و"الحزب الخيّر" القومي المتطرف، من أن يخلقا مساحة توافقية مع القوى السياسية والشعبية الممثلة للأكراد، للعمل معا وخلق ضغوط سياسية وشعبية على السلطة والرئيس أردوغان. 


خلال العام القادم ستجرى الانتخابات البلدية مجدداً، وسيكون من مصلحة قوى المعارضة الاستفادة من الأصوات الكردية في المدن الرئيسة مجدداً، لدعم حيوية بقائها كقوة فعالة في الحياة السياسية في البلاد. لكنه سيكون أمراً مشروطاً من قِبل الأحزاب الكردية، للمطالبة بمزيد من الاعتراف والتداول السياسي للمسألة الكردية في خطاب قوى المعارضة، وللضغط المشترك في اتجاه إلغاء السلوك الدائم للسلطة في تركيا منذ عدة أعوام، حين ترفع يد الفائزين الأكراد عن البلديات التي يفوزون بها، بدعوى "دعمهم للإرهاب". 

ثمة ثلاثة استحقاقات رئيسة خلال عام واحد، ستتضح خلالها كيف يمكن لقوى المعارضة التركية، أن يخلقا مساحة توافقية مع القوى السياسية والشعبية الممثلة للأكراد، للعمل معا وخلق ضغوط على السلطة والرئيس أردوغان

كذلك من المتوقع أن تحدث أزمة اقتصادية في البلاد؛ فالمسار الاقتصادي في تركيا يصفه المراقبون بأنه "مختنق"، وكانت خسارة الليرة التركية لـ5 في المئة من قيمتها خلال الأسبوعين الماضيين أكبر مؤشر على ذلك. هذه الهزة الاقتصادية التي ستدفع المعارضة لمواجهة السلطة في الشارع، وغالباً عبر طلب انتخابات برلمانية مبكرة، وهي قضية تتطلب تعاوناً بين الطرفين، برلمانياً وسياسياً وشعبيا. 


أخيراً، ثمة ملف اللاجئين، السوريين تحديداً، حيث ستتصاعد النقاشات السياسية والاقتصادية والشعبية بشأنهم داخل تركيا في المستقبل المنظور، وقوى المعارضة ستستخدمه بكثافة ضد السلطة، لأنها ستعتبره السبب المباشر لخسارتها في هذه الانتخابات ولتدهور أحوال البلاد، وستحتاج إلى مؤازرة من القوى الكردية، كي لا تُتهم بالتطرف القومي والطائفي ضد اللاجئين.     
 

font change

مقالات ذات صلة