ماذا يبقى من الماس؟ الشيء ورمزه

القيمة ليست واحدة... إذ لا يمكن فصلها عن رموزها

ماذا يبقى من الماس؟ الشيء ورمزه

عند تجريد أي مُنتج مادي من قيمته الرمزية، ماذا يبقى منه؟

الإجابة على السؤال أصعب مما تبدو عليه للوهلة الأولى؛ فهو يعالج مسألة "القيمة" التي تكسبها المادة في نظر الإنسان، وهذه معضلة شغلت عقول البشر منذ مئات السنين. وتتطلب تفكيرا على مستويات عدة، واحد منها ما طرحه الفيلم الوثائقي "لا شيء يدوم إلى الأبد" الذي أخرجه جايسون كون، وتعرضه شبكة "نتفليكس"، ويغوص في العالم الخفي لتجارة وصناعة الماس.

أصحاب المناجم وكبار تجار الماس الذين أجرى معدو الوثائقي مقابلات معهم، يشددون على القيمة الرمزية للحجر الكريم وعلى فوائده الاقتصادية على الدول الفقيرة التي تقع المناجم فيها. يقول أحدهم إن حفرة المنجم التي يبلغ قطرها كيلومترين كان يمكن أن تكون مرعى لعشر أبقار، لكنها– وإن ألحقت أضرارا بالبيئة المحيطة– حوّلت الحياة في الدولة الأفريقية التي تقع فيها نحو الأحسن. بفضلها بُنيت المستشفيات وفُتحت المدارس وشُقت الطرق. أما كبير تجار الماس في نيويورك فيقول إن حجر الماس هو رمز الالتزام الأبدي بين الزوج والزوجة، وعلامة الحب الذي لا يفنى بين الاثنين.

يقدم الوثائقي فرصة لبعض مصنعي الماس التركيبي (أو الاصطناعي) لشرح وجهة نظرهم. يقول متخصص في الكيمياء تحول إلى تصنيع الماس، إن الحجر مجرد متوالية من مادة الكربون وضعتها الطبيعة في شكل معين. سر هذا التركيب معروف وظروف تكرار ما فعلته الطبيعة باتت متاحة لكل من يرغب. والراغبون كثر، من بينهم مصانع ضخمة في الصين تضغط نوعا خاصا من الكربون بواسطة آلات ضخمة للحصول على ماس تركيبي لا يختلف في شيء عن الماس الطبيعي من ناحية البنية الكيميائية والخصائص الفيزيائية.

الأكثر إثارة للاستغراب أن قسما كبيرا من الماس التركيبي يدخل بطريقة أو بأخرى، وضمن إجراءات يضعها القانون في المنطقة الرمادية، إلى سوق الماس التقليدي بواسطة وسطاء في عدد من البلدان خصوصا الهند. يعلم تجار وأصحاب المناجم بهذه الحقيقة بل يحاولون الاستفادة منها عبر "دس" بعض الماس التركيبي بين المنتجات الطبيعية حيث يصعب التمييز بين النوعين الذي يتطلب آلات معقدة ومرتفعة التكاليف.

 أصحاب المناجم وكبار تجار الماس يشددون على القيمة الرمزية للحجر الكريم وعلى فوائده الاقتصادية على الدول الفقيرة التي تقع المناجم فيها

التجار يقولون إنه لا بديل عن الماس "الحقيقي". ذلك أنه منتج صنعته الطبيعة قبل أكثر من مليار سنة وتركته ليجده الإنسان ويعبر بواسطته عن الإخلاص والحب والثقة الأبدية. 

المصنعون يقولون حسنا، لكن لا ميزة للماس الطبيعي "الحقيقي" على ذلك المُنتج في المصنع والمختبر سوى قيمته الرمزية التي اخترعها التجار وأصحاب المناجم. يضيفون أن التحلي بالماس لم يصبح هوسا عاما، خصوصا عند الطبقات الوسطى، سوى في القرن العشرين، بفعل الحملات الدعائية التي درست المعطى النفسي للمشتري المحتمل. غير ذلك، فالماس موجود في الطبيعة وهو ليس نادرا كما يصوره التجار وليس فريدا في أي من ميزاته المادية التي يمكن تحقيقها في العشرات من المصانع. بل إن الفيلم يعرض مصنعا للمكابس الآلية المستخدمة في ضغط الكربون وتحويله إلى ماس.  

الشركات الكبرى التي لم تستطع كبح انفجار تجارة الماس التركيبي، قررت الانضمام إلى هذه السوق وباتت تعرض "ماسها" التركيبي الذي يحمل علاماتها التجارية. بل إنها افتتحت فروعا خاصة لبيع المجوهرات المصممة للماس التركيبي وبأسعار أقل بكثير من الماس "الحقيقي"، و"الطبيعي". 

في نهاية الفيلم، يظهر لقاء لتجار الماس ويقول كبيرهم إنه لن يدرج الماس التركيبي ضمن لوائح الأسعار التي تصدرها شركته، ولن يبيعها في المتاجر التي يملكها لأن "الماس هو رمز الحب الأبدي" الذي قدمته الطبيعة... إلخ.

لكن السؤال الكبير الذي يلمح الفيلم إليه يبقى بلا جواب: ما "قيمة" الأشياء بالنسبة إلى البشر؟ ولماذا يكتسب حجر بات في الإمكان تصنيع أعداد لا نهائية منه في المعامل قيمة لدى حامليه ويشكل رمزا للثروة والدعة، فيما هو عبارة عن مصفوفة مركبة بطريقة معينة من بلورات مادة مبذولة لا قيمة تجارية تقريبا لها؟ وما الموقع الذي كان الماس (وغيره من الأحجار والبلورات "الطبيعية") ليحتله لولا الدعاية المدروسة والمنهجية التي أقنعت الملايين أن الماس استثنائي بين الأحجار وله قيمة شبه سحرية تحيي العاطفة بين الزوجين وتخلد حبهما، وأن الطبيعة لم تجُد بالكثير منه، وغير ذلك مما يمكن دحضه حسابيا وعلميا؟ وأن العثور عليه دونه الأهوال في المجاهل والصحارى والأدغال؟ 

الإجابات ليست سوداء وبيضاء. فمشكلة "القيمة" من المسائل التي وقفت الفلسفة طويلا عندها وتشابكت فروع الأسئلة التي تطرحها بين الاقتصاد والأخلاق والاجتماع. الإجابة البسيطة والمباشرة قد تكون أن أي منتج مادي إذا جُرّد من حمولته الرمزية سيخسر القسم الأعظم من قيمته. فذاك الذي يحتفظ بصورة قديمة لعائلته، قد لا يبيعها بمبالغ طائلة، في حين أنها بالنسبة إلى الآخرين ليست سوى قصاصة من الورق عليها صور أموات. أين هي القيمة الحقيقية للصورة تلك؟ 
 

ما الموقع الذي كان الماس سيحتله لولا الدعاية المدروسة والمنهجية التي أقنعت الملايين أن الماس استثنائي بين الأحجار وله قيمة شبه سحرية تحيي العاطفة بين الزوجين وتخلّد حبهما؟

هنا ينهض سؤال آخر: ما "حقيقة" القيمة؟ إنها ليست واحدة، إذ لا يمكن فصلها عن رموزها، ما يعيد التذكير بثلاثية عالم النفس الفرنسي جاك لاكان: الحقيقي والمتخيل والرمزي، إذا أسقطت على البنية النفسية للإنسان الفرد وضمن بيئته الاجتماعية. أو كما ذهب كورنيليوس كاستورياديس في تحليله للمحمول الرمزي باعتباره قدرة الإنسان على اختراع أشكال جديدة لموقعه الاجتماعي. 

هكذا يصبح "الحقيقي" الذي لا يتجاوز مصفوفة من جزيئات الكربون المكررة على نحو معين، رمزا للثروة والحب والخلود، ومبعث خيال حول الأهمية الاجتماعية والفردية... 
 
 

font change