أين الأديرة في عُمان والخليج العربي؟

أين الأديرة في عُمان والخليج العربي؟

الأحداث التاريخية مليئة بقصص تَحَوُّل الأديرة والكنائس إلى مساجد، وكذلك تحويل المساجد إلى كنائس، فالتوسعات الإسلامية والمسيحية في التاريخ معروفة ولا ينكرها أحد، وهي مذكورة وموثقة، خاصة في المدن التاريخية من مثل القسطنطينية (إسطنبول) وأشبيلية وقرطبة وغرناطة وأخرى كثيرة. لا حرج في البحث، فالوقائع صارت جزءا من التاريخ.

أين الأديرة والكنائس البرتغالية في الخليج؟ إذ ليس صحيحا أن البرتغاليين اكتفوا ببناء القلاع على سواحل الخليج، لتخزين بضائع الملك البرتغالي، إذ لا بد من وجود دُور عبادة لكل هؤلاء الجنود الذين استقروا مدة قرن ونصف قرن في الخليج، وقد مات أغلبهم هناك، وقبورهم شاهدة على ذلك.

كان دومينغوس لويس دي أوليفيرا بحارا وقبطانا من البرتغال، كتب في مقدمة مجلد برتغالي، الكثير عن منطقة الخليج وجغرافيتها وطبيعتها. يعترف في رسالة كتبها الى الملك يطلعه فيها على الوضع العام في الخليج العربي، خاصة في أواخر فترات وجود البرتغاليين في المنطقة وبالتحديد عام 1693، بأن المكان يزداد سوءا، ويقصد تجاريا، مع عدم توفر السلع البرتغالية أمام الرحلات الأوروبية، وكيف أن التاج البرتغالي يشهد تراجعا هناك.

 ليس صحيحا أن البرتغاليين اكتفوا ببناء القلاع على سواحل الخليج، لتخزين بضائع الملك البرتغالي، إذ لا بد من وجود دُور عبادة لكل هؤلاء الجنود الذين استقروا مدة قرن ونصف قرن في الخليج


ويقترح أوليفيرا على الملك، تفعيل منافسة البرتغال في المنطقة، بعد قبول بعضهم التعاون معهم، ويذكّر أوليفيرا الملك، بأن لديهم تراثهم الديني البرتغالي، والهياكل العمرانية المحصنة والمثيرة للدهشة في عُمان، ومنطقة الخليج بسواحله، من حصون وأديرة.

من الواضح أن ذلك مرتبط بوجود الكهنة البرتغاليين والبعثات التي استقرت في عُمان والخليج العربي،وليس من الصعب فهم الدور الأسمى الذي تؤدّيه هذه المؤسسات الدينية في توطيد المصالح البرتغالية، إلى جانب التبشير الديني، لكن البرتغال بلا شك أقامت قنوات اتصال مع مختلف القوى الإقليمية التي كانت مصدراً رئيسيا للمعلومات بجميع أنواعها، كما أن تحرك السفراء، مثلما توضح الرسائل المتاحة والمؤرشفة، لعب دورا رئيسيا للتوسط في الصراعات بين كل تلك الهياكل العمرانية التي أسستها بشكل رسمي.

في بعض المناطق التي تركها البرتغاليون، أبقوا البعثات بالقرب من الكنائس والأديرة التي استمرت في العمل. وفي حين أننا نعرف أين استقروا من مدن، لكن معلوماتنا قليلة عن التراث الديني الذي تركوه وراءهم في سواحل الخليج وعُمان، والتي امتدت شمالا إلى جورجيا. حتى في البصرة كان للدير نظام، بجانب الموقف العسكري البرتغالي، وفي رأيي أن الأديرة شيدت بجانب القلاع البرتغالية كما في البصرة والبحرين وتاروتورأس الخيمة ودبا وكلباء وليما وخصب وخورفكان وقلهات وقريات ومطرح ومسقط وقشم،وقد أقيمت لحماية الملاحة البرتغالية ودعم تجارتها. هناك إذن تفكير إستراتيجي وتخطيط كامل للاستقرار، لا قرارات مفاجئة.

على سبيل المثل، ثمة في مدينة خورفكان، التي أزورها دائما، مسجد صغير وقديم يُعد نموذجا أقرب إلى دير، وهو يبلغ من العمر خمسمائة عام، ويسمّى مسجد "سالم المطوع" وقبل ذلك كان يسمى مسجد "شرق"، وعلى الرغم  من مساحة المسجد الصغيرة جدا، لفتت نظري، وأيضا أنظار الباحثين الجدد، مئذنته المختلفة في طرازها العمراني، والتي تُشابه في فتحاتها الواسعة وقبتها أبراج الأديرة الكلاسيكية في أوروبا.

الجدير بالذكر أن صورة المسجد طبعت على ورقة الخمسة دراهم النقدية، ليتم توثيق المئذنة المختلفة في الشكل، والشبيهة بأبراج أديرة البرتغال في تلك الفترة من القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين، خاصة أن المسجد بني في فترة دخولهم عام 1507، مثلما أثبت فحص الكربون المشع 14. ومن يطلع على الخريطة الشهيرة لمدينة خورفكان في القرن السادس عشر الميلادي في أرشيف البرتغال، التي رسمها البرتغاليون بعد سيطرتهم عليها، وطريقة بنائهم السور والقلعة وغير ذلك من الملحقات، يتثبّت من أن البرتغاليين اعتبروا موقع المدينة استراتيجيا، وبالتالي ثابتا يدعم الوجود البرتغالي.  

في بعض المناطق التي تركها البرتغاليون، أبقوا البعثات بالقرب من الكنائس والأديرة التي استمرت في العمل، وفي حين أننا نعرف أين استقروا من مدن، لكن معلوماتنا قليلة عن التراث الديني الذي تركوه وراءهم في سواحل الخليج وعُمان

وما دفع الباحثين إلى الاهتمام أكثر بالمئذنة المختلفة والقوية في بنائها هو اتجاه القبلة، إذ كانت تميل إلى الشرق أكثر قبل ترميمها، كما يقول البعض، ولا ندري مدى صدقية هذا القول الشفهي، لعلمنا أن القدس الشريف هو قبلة المسيح والإسلام. لكن من يمعن النظر في القبة الصغيرة بالمئذنة التي تشبه قبة الدير، يرى في أسفلها الأجراس، وفي أعلاها الصليب. بالطبع هناك فرق بين الكنيسة التي هي للصلاة وملحقاتها من طقوس العبادة المسيحية، وبين الدير الذي هو للنساك من الرهبان.

خورفكان مدينة تجارية، لكنها في المقابل كانت تصلح للتأمل نظراً لسحرها الطبيعي أمام البحر وبين الجبال وهي بكامل خصوبتها وزراعتها، وعلينا ألا ننكر كيف كان الدير مستخدما بشكل عملي للتمريض والمداواة، وهذا ما كان يحتاج إليه الجيش البرتغالي والجنود والبحارة لمكوثهم الطويل في المنطقة وهم يقاومون الأهالي والحوادث، أي كان مستوصفاً بالمسمى المعاصر، أما في ما مضى، فكل شيء كان يأخذ طابعا دينيا وروحيا، لتتطور بعض الأديرة في العالم كله إلى مدارس نظامية للرهبان والراهبات وتعليم الصناعة والزراعة وغير ذلك، دون أن ننسى أن الدير اليوم غالبا خرج من الأنظمة المسيحية الكاثوليكية الرومانية تحديدا، بعدما لعب دورا في تاريخ التعليم الأوروبي بهدف الصالح العام، ويبقى السؤال مطروحا حول مصائر الأديرة، بعد كل هذا الوجود العميق للبرتغال في عُمان والخليج.

font change