شتتهم الواقع فجمعتهم هذه الباحثة في العالم الافتراضي

البداية مع وثائق حصلت عليها من جدّتها

سمر دويدار

شتتهم الواقع فجمعتهم هذه الباحثة في العالم الافتراضي

القاهرة: "حكايات فلسطينية" مشروع أرشيف رقمي للعائلات الفلسطينية هدفه الحفاظ على إرثهم الثقافي. أسسته الباحثة في التاريخ الشفهي سمر دويدار التي منحها العمل في مجال المشروعات التنموية والثقافية فرصة للتعرف الى قصص نساء فلسطينيات.

لمناسبة إطلاق البث التجريبي للموقع الإلكتروني أقيم في القاهرة، في 20 مايو/أيار الماضي معرض "على بلد المحبوب ودّيني" عرضت فيه دويدار مقتطفات من الوثائق التاريخية لجدها علي رشيد شعث.

رحلة بحث

على مدار ثلاث سنوات ومن خلال عملها مديرة في المشروعات التنموية أجرت سمر دويدار العديد من المقابلات مع نساء فلسطينيات متزوجات من غير فلسطينيين. تقول: "كانت رحلة بحث اجتماعي عن معنى الانتماء وكيف تتكون الهوية لدى أبناء الزواج المختلط بين امرأة فلسطينية وزوج من بلد آخر ثم يولد أبناؤها بعيدا عن فلسطين وتكون جنسيتهم مرتبطة بالأب، لذلك تتشكل حياتهم في وطن جديد مختلف عن حياة تلك المرأة الفلسطينية. وكان السؤال الذي يشغلني، هل تبقى فلسطين جزءا من هوية الأبناء أم تختفي تحت طبقات من الواقع المغاير لحياة تلك المرأة وتكوينها؟".

تجيب دويدار بنفسها عن هذا السؤال: "بدأت بحثي بافتراض أن فلسطين ستظل باقية لأن الأم هي من تنقل الأفكار والمشاعر الى الأبناء، إلا أني أدركت أن هذا الافتراض غير دقيق لأن تلك العملية مركبة وتراكمية تتأثر بالعديد من العوامل الاجتماعية والثقافية والسياسية والنفسية والشخصية التي يكبر الأبناء في ظلها ويتفاعلون معها".

كانت رحلة بحث اجتماعي عن معنى الانتماء وكيف تتكون الهوية لدى أبناء الزواج المختلط بين امرأة فلسطينية وزوج من بلد آخر ثم يولد أبناؤها بعيدا عن فلسطين وتكون جنسيتهم مرتبطة بالأب، لذلك تتشكل حياتهم في وطن جديد مختلف عن حياة تلك المرأة الفلسطينية 

• سمر دويدار

حكايات

تأثرت سمر دويدار بحكايات أولئك النساء، فقررت كتابتها "كانت لحظة فارقة في حياتي حين شعرت برغبة جادة في سرد حكايات أولئك النسوة اللاتي قابلتهن وسمحن لي بالاقتراب من تفاصيل حياتهن، لأنها حكايات عن الحياة وتستحق أن تُروى لا أن تظل حبيسة بحث مكتوب داخل الدرج. وأثناء رحلة البحث عن شكل لسرد حياة أولئك النسوة وقعت بين يدي الرسائل المتبادلة بين جدي علي رشيد شعث وزوجته سميحة أحمد التنير وأبنائه وأقاربه".

غلاف كتاب من البنسلين

خلال بحث سمر عن بعض المعلومات التاريخية حول أحداث الرواية، أعطتها والدتها الوثائق التاريخية المحفوظة لديها منذ أكثر من عشرين عاما. الميراث الذي تركته لها سميحة أحمد التنير وحافظت عليه منذ وفاة زوجها علي رشيد شعث في 1967 بسبب شعوره بالهزيمة والحسرة بعد انكسار مصر في الحرب، واحتلال الضفة وغزة.

حول أرشيف عائلتها تقول سمر: "سلمتني والدتي نهاية عام 2019 الوثائق ورسائل عائلية متبادلة بين جدي وأفراد عائلته وأصدقائه، تحمل الكثير من ذكرياته عن الوطن، علها تساعدني في رسم أحداث روايتي. شعرت في ذلك الوقت بأن التاريخ فتح لي أوسع ابوابه للدخول إلى عالم آخر وكأنني سافرت عبر الزمن لأتجول في شوارع لم تطأها قدماي من قبل ومدن كنت أسمع عنها ولكنني صرت أعيش فيها، وأشم رائحة أشجار الياسمين المزروعة على مداخل بيوتها، وأسمع حكايات جدي وذكرياته من خلال سرد قصصي ساحر".

علي شعث وخطيبته سميحة التنير عام 1937

لقاء روحي

عن هذه العلاقة التي ربطتها بجدّها، تقول: "على الرغم من أني ولدت بعد وفاته بعامين إلا أننا صرنا صديقين وكأن روحينا التقتا، أذكر نكاته المكتوبة في الرسائل وأكاد أسمع نبرة الحزن لفقدانه وطنه وسعادته بأغنيات طفلته الصغرى زينب".

كان علي رشيد شعث معلما لمادة العلوم ثم مديرا لمدرسة العامرية بمدينة يافا، وأصدر كتابين هما "من طرائف العلماء" عام 1943 و"من البنسيلين إلى القنبله الذرية" عام 1946، وهذا الأخير أعيدت طباعته عام 2022 ضمن برنامج "استعادة الموروث الثقافي" لوزارة الثقافة الفلسطينية الذي يهدف إلى إعادة طباعة كل ما صدر في فلسطين قبل النكبة.

انتدبعلي رشيد شعث عام 1947 ليصبح مدرا لأول فرع للبنك الفلسطيني "البنك العربي" في مدينة الإسكندرية بمصر. تأسس أول فرع للبنك العربي على يد سبعة مستثمرين برأس مال قيمته 15000 جنيه فلسطيني، وسجّل رسميا في 21 مايو/أيار 1930 وبدأ عملياته في القدس في 14 يوليو/تموز من العام نفسه. أسسه عبد الحميد شومان وهو أول رئيس مجلس إدارة للبنك.

سافر شعث وعائلته الصغيرة من فلسطين إلى الإسكندرية، لكنه لم يتمكن من العودة إلى وطنه. أمضى 20 عاما متنقلا بين عواصم وبلدان للعمل، لكنه لم يتوقف يوما عن كتابة الرسائل. رسائل من زوج يحاول التغلب على مشاعر الغربة، يكتب لزوجته عما يمر به من تفاصيل فتشعر أنها معه تقابل من يقابلهم وتتذوق ما يأكله وتسمع معه الموسيقى. تقول سمر، حفيدة شعث: "من يقرأ تلك الرسائل سيشعر وكأنه يقرأ كتابا في أدب الرحلات. في الرسائل فتح جدي صندوق ذكرياته لزوجته فكتب لها عن طفولته وشبابه، عن حنينه لوطن أصبح بعيد المنال ولعائلة أصبح لقاؤها مستحيلا. كتب بحميمية عن كل شيء؛ الجغرافيا والتاريخ والبشر وتقلبات أحوالهم والأزمات والأفراح والشعر والموسيقى والسياسة أيضا.

شعرت في ذلك الوقت بأن التاريخ فتح لي أوسع ابوابه للدخول إلى عالم آخر وكأنني سافرت عبر الزمن لأتجول في شوارع لم تطأها قدماي من قبل ومدن كنت أسمع عنها ولكنني صرت أعيش فيها، وأشم رائحة أشجار الياسمين المزروعة على مداخل بيوتها 

• سمر دويدار

مسؤولية

شعرت سمر دويدار بمسؤولية تجاه العدد الكبير من الرسائل الشخصية والمكاتبات الرسمية التي يصل عددها إلى نحو 300 وثيقة و600 صورة خلال الفترة من 1925 حتى 1966 ما بين أحداث فعلية كان يوثقها جدها من خلال رسائله التي كتبها وقت الأحداث أو رسائل خلال خمسينات القرن الماضي سرد بها ذكرياته التي تعود الى العشرينات والثلاثينات والأربعينات وتوثق لحياته في فلسطين.

غلاف كتاب من البنسلين

بفخر تتحدث دويدار عن الرسائل: "على المستوى اللغوي لدى جدي أسلوب أدبي رشيق في الكتابة مما يجعل من يقرأها يرغب في المزيد، لكن الجزء الأهم في هذه الرسائل هو توثيقه لأحداث تاريخية مهمة مرت على فلسطين وبلاد عربية وغربية مختلفة كان جدي شاهدا عليها، تعدّ هذه الأحداث جزءا من تاريخ يروى اليوم".

هذه الأوراق بمثابة وثيقة تتناول التاريخ الاجتماعي لحقبة من الزمن تكاد تندثر بسبب رحيل من عاصروها. تقول سمر دويدار: "شعرت أن هذه الدهشة والإعجاب يجب ألا يتوقف صداهما عند أفراد عائلة شعث. وبعد رحلة طويلة أمضيتها وشريكتي في المبادرة مريم عبد العزيز في التنظيم والأرشفة كان يجب أن يخرج العمل إلى النور وأن يتمتع به الجميع. لذلك قررنا عرض بعض منها كنموذج في معرض 'على بلد المحبوب ودّيني' بالإضافة إلى جمعها في موقع على شبكة الإنترنت مع دعوة إلى كل من يملك أرشيفا عائليا بأن ينضم الى المبادرة ليصبح هذا الموقع مكانا نحفظ فيه سير أجدادنا من الضياع".

كانت بداية الفكرة إنشاء موقع إلكتروني تشارك من خلاله دويدار الوثائق مع باقي أفراد عائلتها المنتشرين حول العالم وتقول: "بدأت بالفعل العمل على الموقع إلا أن الفكرة تطورت من مجرد موقع لأرشيف رجل من عائلة فلسطينية لتصبح أرشيفا لأي عائلة من أصول فلسطينية. يقوم ببناء الأرشيف أفراد هذه العائلات، أي أن أي شخص يدخل موقع 'حكايات فلسطينية' يمكنه تحميل الصور والوثائق العائلية المخزنة لديه في صندوق لا يراه أحد على الموقع، بهذه الطريقة سيتمكن من التواصل مع أفراد عائلته في كل مكان. هذا الموقع سيمنح الأسر فرصة لبناء أرشيف العائلة الذي يتضمن ذكرياتهم على أرض فلسطين قبل الاحتلال".

يستهدف موقع "حكايات فلسطينية" الجيل الثالث من الفلسطينيين في داخل فلسطين وفي الشتات لأنهم الشباب القادر على التعامل مع وسائل التواصل الحديثة ويهدف المشروع إلى إحياء التواصل بينهم وبين أجدادهم للمساهمة في الحفاظ على التراث الفلسطيني وإبقائه حيا. تقول سمر: "هذا الموقع سيكون وسيلة لمقاومة الروايات الأخرى التي تعمل على طمس رواية سكان فلسطين الأصليين أصحاب الأرض".

font change

مقالات ذات صلة