"السيدة شاترجي".. أمّ تواجه دولة!

حين تصطدم التقاليد الشرقية بقوانين الغرب

netflix
netflix

"السيدة شاترجي".. أمّ تواجه دولة!

يتناول الفيلم الهندي "السيدة شاترجي ضد النرويج" للمخرجة آشيما تشيبر قضية باتت تشكل كابوسا للأسر المهاجرة في أوروبا، والتي تزايد توافدها إلى القارة العجوز، خصوصا في العقد الأخير، إذ ظهرت إلى السطح، وعلى نحو لافت، تعقيدات ما يمكن تسميته بـ"الصدام الحضاري والثقافي" بين الشرق بكل سحره وطقوسه وروحانيته، وبين الغرب بقوانينه الصارمة.

ليس في عنوان هذا الفيلم، الذي بدأت منصة نتفليكس بعرضه أخيرا، أية مبالغة، بل ربما هو من أكثر العناوين تعبيرا عن مضمون الفيلم، ففي هذا الشريط السينمائي نحن إزاء أم هندية مهاجرة تحارب، بمفردها، دولة بكل ما تتمتع به من سطوة رسمية وسلطات تنفيذية وإجراءات بيروقراطية.

ورغم أن أحداث الفيلم تحفل بالكثير من المواقف الميلودرامية، التي تعيد إلى الأذهان السمات الأبرز للسينما الهندية، من مبالغة وتهويل ومصادفات غريبة، لكن كل ذلك يظل في إطار سيناريوهات متخيلة، تفرضها شروط إنتاجية تضع شباك التذاكر في المقام الأول، لكن "السيدة شاترجي ضد النرويج"، وإن حوى وقائع، مثل تلك، صعبة التصديق، إلا أنها مستندة إلى قصة حقيقية، كما نقرأ في مستهل الفيلم، مع القليل من التعديلات التي يتطلبها السرد الدرامي.

يبدأ الفيلم بقول مأثور للشاعر البريطاني روديارد كيبلنغ يذكّر بمكانة الأم، مسبغا عليها دور القداسة، وهذه المقولة للشاعر الذي ولد في الهند عندما كانت هذه الأخيرة مستعمرة بريطانية، لا يأتي اعتباطا، بل يكاد يختزل عوالم هذا الفيلم الذي يظهر الأم الهندية (تجسد دورها نجمة بوليوود راني موخرجي) وهي تسعى، بكل ما أوتيت من عاطفة وحنان، للاحتفاظ بحقها الطبيعي بحضانة طفليها بعد أن حرمتها منهما هيئة حماية الطفل النرويجية، وهي المؤسسة الحكومية المسؤولة عن حماية الأطفال ورعايتهم في البلاد.

تسوق المؤسسة الرسمية تبريرات واهية دفعتها لحرمان أم من طفليها، فهذه الأم، تطعم أطفالها بيديها، لا بالملعقة، وتضع لهما الكحل، وتسمح لهما بالنوم في سرير الأب

تواطؤ وفساد

ولكن ما الذي يدفع مؤسسة حكومية إلى انتزاع طفلين من أسرتهما؟ لا تتعلق الأسباب، هنا، بالعنف الأسري، أو الإهمال الصحي وغير ذلك من التبريرات التي قد تكون مفهومة في بلد أوروبي كالنرويج، بل تسوق المؤسسة الرسمية تبريرات واهية دفعتها لحرمان أم من طفليها، فهذه الأم، تطعم أطفالها بيديها، لا بالملعقة، وتضع لهما الكحل، وتسمح لهما بالنوم في سرير الأب. ولئن كانت هذه الممارسات مألوفة وبديهية في الهند، ولا يأبه بها أحد، إلا أنها، ومن وجهة نظر الثقافة النرويجية، قد تضر بصحة الطفل، وتؤثر على نفسيته، كما تقول السلطات التي ارتأت، بعد مراقبة لأسابيع، "خطف" الطفلين والتعهد بهما الى دار حضانة حتى تتبناهما لاحقا أسرة تراعي أساليب التربية الراقية، الى ان يبلغا الثامنة عشرة.

تضطر الأم، التي كانت تعيش في جو أسري مستقر رفقة زوجها الذي يعمل في شركة بترول، إلى خوض معركة تتوه خلالها بين أروقة الهيئات الرسمية، ومكاتب المحامين، وقاعات المحاكم، في محاولة لاستعادة طفليها، من دون أن تستوعب الذنب الذي ارتكبته، فكل ما قامت به هو أنها تقيدت بعادات أجدادها، ولم يدر في خلدها أن إطعام طفل باليد، لا بالملعقة، قد يعرضها لهذه العقوبة التي لا تحتمل، وهي الحرمان من طفليها.

رحلتها المضنية تنتهي في إحدى قاعات المحاكم، بعد أن تصل القضية إلى أعلى المستويات في أوسلو والنرويج، إذ ينصفها القاضي ويعيد لها حق حضانة طفليها، بعد أن يكتشف ما تعرضت له هذه الأم من غبن، ساهم فيه كذلك زوجها وأهل زوجها، الذين استغلوا القضية للحصول على مساعدات مالية.

netflix
نجمة بوليوود راني موخرجي بدور السيدة شاترجي

وهذه المساعدات السخية، تفسر جانبا من الغموض الذي يحيط بمثل هذه القضايا، إذ يسلط الفيلم الضوء على مسألة خطيرة تتمثل في تواطؤ بين موظفي المؤسسة والمحامين والقضاة والسلطات التنفيذية، من أجل انتزاع المزيد من الأطفال من عائلاتهم، ذلك أن الأمر لا يتعلق بالحرص الحكومي على الطفل، بل ثمة ادعاءات باطلة وممارسات مشبوهة تُقدم عليها مؤسسة رعاية الطفل بهدف الحصول على مزيد من التمويل، فكلما زاد عدد الأطفال المنتزعين من أسرهم لديها، زاد مقدار التمويل سواء من الجهات الرسمية أو من منظمات حقوقية تُعنى بها الأمر.

ووفقا لتقارير، فإن هيئة حماية الطفولة النرويجية تعرضت لانتقادات عديدة سابقة، حتى من جهات غربية، بسبب تطبيقها الصارم للقوانين في هذا الصدد، ورفضها إبداء أي قدر من المرونة يأخذ في الحسبان الاعتبارات الإنسانية المختلفة، كما في حالة الأم الهندية.

ومن بين المشاهد المؤثرة في الفيلم، تلك المرافعات التي تقدمها الأم في قاعات المحاكم،  فهي لا تنمّق الحديث، مثلما يفعل المحامون والقضاة، بل تنطق بلسان امرأة حائرة وعاجزة عن إثبات أكثر الأمور بداهة في هذي الحياة، وهي أن حضن الأم هو المكان الأكثر أمانا ورأفة بالنسبة إلى طفل.

يسلط الفيلم الضوء على مسألة خطيرة تتمثل في تواطؤ بين موظفي المؤسسة والمحامين والقضاة والسلطات التنفيذية، من أجل انتزاع المزيد من الأطفال من عائلاتهم


الأعراف والتقاليد في مواجهة القانون

في دول أوروبا الغربية، وخصوصا الدول الإسكندنافية، ومنها النرويج، كل شيء مرتب بالمسطرة والقلم، وثمة قوانين ببنود واضحة تحدّد للمرء واجباته وحقوقه، لكن هذه الصرامة في تنفيذ بنود القانون قد لا تصلح في بعض الوقائع، كحالة الأم الهندية التي بدت جاهلة بتلك القوانين، فتصرفت بعفوية وفق الأعراف والمعتقدات التي تؤمن بها، لتصطدم بالمحظورات.

وقد تكون هناك حالات تستدعي أخذ طفل من أسرته، كأن يتعرض، فعليا، للعنف الجسدي أو اللفظي، أو أن يكون الأب أو الأم مدمنا، وغير ذلك من الحالات التي تستوجب تدخل الدولة لحماية الأطفال الذين يحظون باهتمام في الدول الأوروبية، لا يمكن نكرانه، لكن كل ذلك لا ينطبق على حالة الأم الهندية، ومن هنا أظهر صناع الفيلم تعاطفا مع شخصية الأم،  والتي أجادت في تجسيدها رانيا موخرجي، إذ أظهرت كل ما في داخلها من انفعالات وغضب حيال ما تعرضت له، وكذلك أجادت التعبير عن عاطفة الأمومة بكل ما تنطوي عليه من دعة وحنان.

netflix

ويمكن اعتبار هذا الفيلم، في أحد أوجهه، رسالة مناشدة للهيئات التي تنتزع الأطفال من أسرها في دول مثل النرويج والدنمارك والسويد وبريطانيا وغيرها، كي تعيد النظر في قراراتها، خصوصا أن مثل تلك الحالات قد تزايدت، ووصل الكثير من تلك القضايا إلى الإعلام الذي ينقل بشكل شبه يومي أخبارا عن انتزاع أطفال من أسرهم لأسباب مختلفة.

 فالفيلم، بهذا المعنى، هو محاولة فنية للقول إن ثمة حالات لا تتطلب النظر في القانون الوضعي، بل تستدعي الالتفات إلى جهة القلب، وهذا ما كانت الأم الهندية تحاول إيصاله للقانونيين طوال الفيلم، حتى انتصرت، لكن ثمة قضايا كثيرة مماثلة تنتظر حلولا وتحتاج إلى استماتة الأم الهندية وحنانها العاصف في دفاعها عن طفليها.  

font change

مقالات ذات صلة